و أنا أرخي نظري بألم و دمع منحبس في عيوني على والدي الممدد على سرير المستشفى...و قد أنهكه المرض الذي خلفته خمس سنوات من المحنة و السجن على تقدم عمره....لم أتذكر نضاله و كفاحه المرير من أجلي..و لا تضحيته وبذله لأكون على ما أكون عليه اليوم...فذلك موضوع طويل و رائق .....بقدر ما تذكرت ما قدمه لهذا الوطن...و ما بذله من أجله و ما أعطى وما منح...خاصة لقطاع الصحة....مما يجهله كثير من الناس....و لا يعرفه إلا قلة منهم....و ماذا كان الجزاء....و ماذا كان رد الجميل؟..... والدي نشأ عصاميا....فتح عينه على الدنيا يتيما فاقد الأب..و لم يبلغ العاشرة من عمره حتى فقد أمه أيضا....فخرج إلى الدنيا يحصل رزقه من عرق جبينه...اشتغل حدادا و فرانا و نجاراو..... حتى جمع الكرات في ملاعب التنس كانت حرفة له...كلما رأيت إلى اليوم طفلا يجري وسط ملعب التنس ليجمع الكرات و يضعها في يد نادال أو فيدرر إلا تذكرت عصاميته و بطولته.... كان يتعرض للهيب نار الفرن و شرارة الحدادة ليشتري بما قحصله دفاتر و كتبا يحتاجها في مدرسته....و ما أن ظهرت له فرصة الالتحاق بسلك التمريض حتى كان مبادرا...ليشتغل ممرضا في مختلف مختلف مستشفيات المملكة قبل أن يصبح رئيسا للممرضين- ماجور- بجناح الأمراض العقلية 36 بمستشفى ابن رشد.... موريزكو بلغة البيضاويين... فتحت عيني على الدنيا ووالدي رئيس ذلك القسم....لا زلت أذكر ذلك البؤس الذي كان يعلو محيا هؤلاء المرضى ...و الخوف الذي كان يتملكني عند الاقتراب منهم.....كان نشيطا في عمله...صادقا في أدائه.... لكنه لم يكن من النوع الذي يستسيغ العمل الروتيني المتكرر كل يوم...و لا الاحتكاك ببعض الأطباء النفسيين الذين كانوا يصرحون بإلحادهم و عدائهم لأهل الدين..... علم و الدي أن الذين يقصدون مستشفى ابن رشد من أجل إجراء عملية التخطيط الكهربائي للدماغ...أو ما يعرف عند المغاربة بشبكة الرأس.... يصابون بالإحباط حين يجدون الآلة معطلة...تلك الآلة التي ليس لها إلا نظيرة واحدة بمستشفى ابن سينا بالرباط...واحدة لأهل الشمال وواحدة لأهل الجنوب...لكن الآلة البيضاوية أصابها العطل لسنوات...و لم تتمكن وزارة المعطي بوعبيد من تعويضها بسبب ثمنها الباهض الذي كان يساوي مئات الملايين.... قرر الوالد أن ينذر نفسه لهذه القضية....لما رآى من المآسي التي ينوء بحملها المواطنون وليس لهم إلا آلة وحيدة تكشف على رؤوسهم...وما يقتضي ذلك من مواعيد طويلة تمتد لشهور....و ما يكلفهم ذلك من زيادة في المصاريف.... طلب تكوينا خاصا في باريس من أجل ذلك...ستة أشهر من الدراسة و التدريب بأحد مستشفياتها...حاول بعد عودته أن يشجع السلطات الصحية على اقتناء الآلة و حل مشكلة نصف المغاربة...وزارة الطيب بن الشيخ أو التي قبلها - لا أذكر كثيرا- رفضت التجاوب...فقرر أن يقتني الآلة بنفسه..... أطلق والدي في زمن لا فايسبوك فيه و لا يوتوب...حملة اكتتاب ومساهمات لشراء الآلة...لم يترك غنيا و لا صاحب مال إلا وطرق بابه...منهم من كان كريما معطاء...و منهم من أغلق عليه بابه و صد وجهه....هجر البيت وجند نفسه لجمع مبلغ مئات الملايين قيمة الآلة..... جند معه عشرات الشباب ليقفوا على أبواب المساجد أيام الجمعة....توطدت علاقته بكبار مشايخ و خطباء البيضاء حيت كانت حملات التبرع....عند الشيخ زحل بالشهداء أو القاضي برهون بالكدية أو العباسي بحي الفرح.......أو غيرهم من خطباء صحوة الثمانينات..... لا زلت أذكر تلك المذكرات القديمة ذات الأسلاك الجانبية التي يستعملها البقال لتقييد ديونه على المقهورين....وثق فيها كل درهم تسلمه و كل سنتيم تناوله....كل الأسماء الكبيرة من أبناء فاس و سوس و غيرها كنت أراها هناك...تعرفت بتلك المذكرات على أغنياء المغرب ووجهائه.....حفظت الآلة ومكوناتها من كثرة الرسوم التي كنت أراها بالبيت..... شهور من الهجر لبيت الأسرة...و أسفار في كل أنحاء البلاد...و زيارات لكل من علم في قلبه ذرة إحسان و حب لفعل الخير....و أخيرا اجتمع المبلغ...... طلب والدي الآلة من فرنسا....و سلمت له إحدى قاعات قسم 28 بمستشفى ابن رشد.....وتلك قصة أخرى.... كيف أدار هذه القاعة ؟ ....ما الذي أضافه لمستشفى ابن رشد.....ما الأثر الذي خلفه؟...كيف كنت موظفا يوما ما بهذا المستشفى الكبير....ذلك ما سنعرفه في الحلقة القادمة إن شاء الله....في انتظار ذلك...دعواتكم الحارة بالرحمة....