جلالة الملك يترأس جلسة عمل بشأن مراجعة مدونة الأسرة    المغرب يستعد لإطلاق خدمة الجيل الخامس من الانترنت    حملة اعتقال نشطاء "مانيش راضي" تؤكد رعب الكابرانات من التغيير    دياز يثني على مبابي.. أوفى بالوعد الذي قطعه لي    إسبانيا.. الإطاحة بشبكة متخصصة في تهريب الهواتف المسروقة إلى المغرب    بقيادة جلالة الملك.. تجديد المدونة لحماية الأسرة المغربية وتعزيز تماسك المجتمع    فرنسا تحتفظ بوزيري الخارجية والجيوش    العراق يجدد دعم مغربية الصحراء .. وبوريطة: "قمة بغداد" مرحلة مهمة    إدانة رئيس مجلس عمالة طنجة بالحبس    إرجاء محاكمة البرلماني السيمو ومن معه    "بوحمرون" يستنفر المدارس بتطوان    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء            الأزمي: لشكر "بغا يدخل للحكومة على ظهرنا" بدعوته لملتمس رقابة في مجلس النواب    الدار البيضاء.. توقيف المتورط في ارتكاب جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    أجماع يعرض جديد حروفياته بمدينة خنيفرة    أخبار الساحة    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا لثلاثة أيام مع أسبوع غضب    في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-    تقديم العروض لصفقات بنك المغرب.. الصيغة الإلكترونية إلزامية ابتداء من فاتح يناير 2025        بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط    بووانو: حضور وفد "اسرائيلي" ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب "قلة حياء" واستفزاز غير مقبول    فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا        مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مرجعية الأخلاق [Eethics] بين الجابري وطه عبد الرحمن
نشر في هسبريس يوم 17 - 03 - 2014

ينطلق الجابري من قناعة أن علم الأخلاق لم يعرف استقلالية داخل النظم المعرفية العربيةالإسلامية ولا التأريخ لهعلى غرار ما عرفته العلوم الأخرى من النحو والصرف والبلاغة والفقه وأصوله والحديث وعلومه المتعلقة بنقد الأسانيد ولا مثل المنطق وعلم الكلام.بينما يُبطل طه عبد الرحمن هذه الدعوى بحجج ثلاث: " ثبوت صلة الشريعة الإسلامية بالأخلاق، والخصوصية الإستشكالية والإستدلالية للأخلاق الإسلامية، والكليات الأخلاقية الفطرية.كما يثبت عدم غياب الأخلاق من مجموع العلوم الإسلامية. غير أن العلوم تنازعتها وتداخلت معها تداخلَها مع علم الكلام وعلم أصول الفقه على وجه الخصوصحسب د. طه الرحمن حيث يقول: [فهي -أي الأخلاق-مبثوثة في العلوم الثلاثة: الفقه وعلم الكلام وعلم التصوف الذي اقترن اسمه بعلم الأخلاق]1 .
وقد كان ذلك التداخل مفيداً للفقه لأن الفقهمرتبط بالعمل وليس نظرياً والأخلاق إنما تتعلق بالجانب السلوكي التطبيقي فليس هناك أمرٌ أو نهي في تعاليم الشريعة لا يفيد الحكم الأخلاقي[إن للحكم الشرعي وظيفتين متكاملتين: فقهية وأخلاقية] 2
. ما دام أن محلاستنباط الحكم ومقصده هو الأخلاق يرى طه عبد الرحمن أن علم أصول الفقه كان يستحق أن يسمى "علم أصول الأخلاق" بدل علم أصول الفقه. فتمركز الأخلاق في الأصول يلزم منهحتماً حضوره في الفروع وإحاطته بكل أحكام الفقه.
من الأهمية بمكان أن نشير هنا إلى أن القول بتداخل الحكم الشرعي مع الأخلاق لم ينفرد به طه عبد الرحمن كما يظن الكثير. لقد سبق الجابري إلى القول بمركزية الأخلاق في القرآن وأن رسالته كانت في أصلها أخلاقية، يقول الجابري:
[وأحسب أن الناس في ذلك الزمان لم يكونوا يفصلون بين آيات الأحكام وآيات الأخلاق. فكل شيء في القرآن كان حكماً وكل شيء فيه كان أخلاقاً. ولعل هذا التداخل بل الوحدةبين الأحكام والأخلاق في القرآن هو ما جعل علماء الإسلام يرون في علم الفقه والحديث والأصولالعلم الديني الذي يشمل الأحكام والأخلاق ويغني بالتالي عن الإشتغال بعلم الأخلاق، أو بما سمي في مرحلة متأخرة بأخلاق القرآن. والحق أن القرآن كتاب أخلاق] 3
لكن الإنتكاسةفي تقييم الجابري ستنشؤ بعد حوالي عشرين عاماً عندما يحدث الإنقلاب على تلك القيم الأخلاقية بالإقتتال على السلطة وتوزيع الثروات، حيث لا يرى الجابري تفسيراً لذلك من غير أزمة القيم الأخلاقية لكونها لم تكن قد ترسخت بعد في النفوس. أما طه عبد الرحمن فلا نعلم إن كان يتخذ موقف الجابري من حيث الحاجة إلى استقلالية علم الأخلاق والفراغ الملحوظ. أم يرى تداخلها واندماجها في الحكم الشرعي كافياً؟ لكن أين يتجلى ذلك الفراغ للأخلاق من تصنيف العلوم العربية الإسلامية حسب موقف الجابري؟
فقر المادة الأخلاقية أمر واقع
من العبث مقارنة ما لدينا من المصادر الإسلامية- التي تعد على رؤوس الأصابع - بما صدر ويصدر من أسفار تباعاً بالدول الأنجلوسكسونية على الخصوص في علم الأخلاق. فإذا استثنينا ما كتبه ابن مسكويه وابن أبي أصيبعة وابن باجة والراغب ألأصبهاني والماوردي وأبو حامد الغزالي وغيرهم قليل لخلت المكتبة العربية من مصادر هذا التخصص. لقد أدى الإفتقار قديماً حسب الجابري إلى استيرادلموروثات أضحت مرجعية للأخلاق شكلتثوابت متضاربة للعقل الأخلاقي العربي واحتلت ساحته.فكانت قيَماًمنها ما كرَّس الإستبداد والإنعزالية والإتكالية والجبرية. وهي:الموروث الفارسي المتمثل في أخلاق الطاعة. والموروث اليوناني المتمثل في أخلاق السعادة. والموروث الصوفي المتمثل في أخلاق الفناء الذي أدى إلى فناء الأخلاق.أما الموروثان العربي المتمثل في أخلاق المروءةثم أخيراً الموروث الإسلامي الذي ينطلق من صميم القرآن لم يكن لهما كبير أثر في تشكيل بنية الأخلاق العربية الإسلامية إلا نادراً فالكتابة في الأخلاق لم تأت إلا بعد عصر التدوين.خصص الفقهاء ملحقات اهتمت بالآداب الشرعية اهتماما شكلياً لم يدخل في مضمون المادة المعرفية للفقة فظلت تلك الملحقات ضئيلة المضامين تنحصر في أدب النفس وأدب اللسان. إلى أن أتت الكتابة في علم السلوك /التصوف فأغنت باب الآداب الشرعية مستقية ثراءها من آداب الصوفية. مع ذلك ظلت آداباً زائدة على المضامين آداب الزكاة، آداب الصيام وهكذا. ما أن يحدث الإنفتاح على الثقافات الأخرى حتى تبرز الحاجة إلى علم الأخلاق الإسلامية فأضحت الحاجة ملحة إلى أسلمة الأخلاق اليونانية. هذا ما يقرره الجابري بتصرف.
أفاد بعض المستشرقين ادعاء خلو الثقافة العربية من مصطلح الضمير الأخلاقيthe Conscienceما جعل الجابري يثبت استعمال القدماء كلمة "ضمير" في معنى الضمير الأخلاقي، منهم الحارث المحاسبي. لكن من أجل التعبير عن الحس الأخلاقي في الثقافة العربية قبل الإسلام وبعده يُستعمل القلب بدل الضمير.
أسلمة الأخلاق اليونانية،أخلاق الفضيلة
كتاب أرسطو الشهير: الأخلاق إلى نيقوماخوس هو الذي ترجمه العرب واشتغلوا عليه من بين رسائله في الأخلاق التي اختلف في نسبتها إليه. فلا تكاد تجد ممن كتب في الأخلاق يخرج عن نطاقه.إليه تنسب نظرية الوسط:"الفضيلةوهي وسط بين رذيلتين" التي يدور حولها الجانب الأخلاقي من كتاب إحياء علوم الدين حيث يقرر الغزالي نظرية أرسطو القائلة: [والمحمود هو الوسط وهو الفضيلة، والطرفان رذيلتان مذمومتان... والوسط هو الذي يختص باسم الحكمة، فأمهات الأخلاق وأصولها أربعة: الحكمة والشجاعة والعفة والعدل]4 .
وهو المنحى الذي نحاه الراغب الأصبهاني قبل الغزالي. يقول الجابري في سياق حديثه حول كتاب تهذيب الأخلاق، [ونحن نجزم أنه لا يمكن لمؤلف أن يكتب كتاباً في الأخلاق كالذي بين أيدينا ما لم يكن مرجعه جالينيوس] 5.
مما رآه الجابري من دواعي أسلمة الأخلاق اليونانية يومئذ أن الأخلاقيين المسلمين وجدوا أنفسهم إبان احتكاك الحضارة العربية بغيرهافي سوق تتنافس فيه القيم فاضطروا إلى تصنيف لعلم الأخلاق بتلفيق واقتباس. إعتمدو تعريف جالنيوس كأساس، وهذا معاين لدى كل من الأصبهاني في الذريعة وابن مسكويه في تهذيب الأخلاق والغزالي في الإحياء وثابت بن سنان بن ثابت بن قرة بن زعة طبية. وتعريف جالينيوس المتداول لدى كل منهم، والتعريف هو: [الخلق حال للنفس داعية للإنسان أن يفعل أفعال النفس بلا روية ولا اختيار] 6
لم يحِد طه عبد الرحمن عن حقيقة أسلمة الأخلاق اليونانية من جانب المسلمين لكنه انتقد الطريقة التي تمت بها الترجمة، من زاوية أن الإشكال حصل من باب ترجمة أخلاق الفضيلة الأرسطية وتأصيلها إسلامياً. الأمر الذي أوقع الأخلاقيين المسلمين في مأزق أن صنفوا الأخلاق في الفضائل الذي هو تصنيف في الحقيقة مناقض لرتبتها في سلم الأولويات.
ليست الأخلاق مجرد حفظ للأفعال الكمالية ترقى بالإنسان. كلا! إنما هي هويته ووجوده أصلا ليست أفعالا زائدة على الهوية والوجود. لأنها ليست فضيلة من فضل يفضل وهو ما زاد على الشىء وليس منه بحيث يمكن الإستغناء عنه. يقول طه عبد الرحمن: [فالفضيلة من الفضل، والفضل مازاد على الحاجة أو ما بقي من الشيء بعد الوفاء بالحاجة] 7.
فاندراج الأخلاق في فضائل الأعمال هو روح الإشكال يرى د. طه عبد الرحمن إذ يرى أن أصول الأخلاقإنما تحتويها أصول الدين ومقاصد الشريعة معتمداً في ذلك على الحديث النبوي: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.فلا يصحفي تقييمه أن تكون البعثة النبوية على جلالها من أجل ما هو كمالي لا حرج في تركه، وإنما ينبغي أن تكون من أجل ما هو أمر ضروري.
ويأخذ في ذلك على الأصوليين الذين أدرجوا مكارم الأخلاق في قسم التحسينياتفي إطار التقسيم الذي درج عليه الفقهاء والأصوليون للمصالح إلى الضروريةوالحاجية والتحسينيةحيث جعلوا مكارم الأخلاق عبارة عن المصالح لا ينال المكلف بفقدها غير جرح في المروءة.ثم يستغرب من الشاطبي الذي أدرجها أيضاً في التحسينيات بالرغم من قولته الجامعة: " الشريعة كلها إنما هي تخلق بمكارم الأخلاق".
والواقع أن المادة غير مطروحة على الساحة الفكرية المغربية ولا العربية كما هي مطروحة في الغرب منذ عصر النهضة.فالأخلاق الطبية لاتنفك عن دراسة الطب كما لا تنفك عن التخصص في الإلهيات (تيولوجي)والتكوين المستمر للأطباء والممرضين.أرجو أن أكون مخطئاً إذ أزعمأن المؤسسة الطبية في المغرب تحتاج إلى ترويض على الأخلاق. بالرغم من قسَم أبقراط الذي يؤديه الأطباء يظل الفراغ قائماً في الممارسة العملية بمؤسسة الإستشفاء التي ارتبطت عبر تاريخ الإنسان بالأخلاق وتنميتها لما للطب والتمريض من التلاحم والتعلق بالإنسان الذي هو موضوع الأخلاق.
هل كان الحسن حسناًقبل ورود الشرع؟
منشؤ الخلاف بين الفيلسوفينفي تناول المادة الأخلاقية إنما هو امتداد لخلاف بين الأخلاقيين القدماء. منشؤه يبدؤ من السؤال التالي: ما هو الحسن وما هو القبيحوما مرجعيتهما؟ تتحد الأمم والثقافات أن إنقاذ الغريق حَسَن وأن ترْكَ الصبي يحترق قبيح، وإطعام الجائع وإسعاف المريض حسن وترك ذلك مع القدرة عليه قبيح، وهكذا. لكن فلسفة الأخلاق تعيد سؤال: هل كان الحسن حسناًقبل ورود الشرع ثم استحسنه؟ أم استحسنه الشرع لأن العقل كان قد استحسنه من قبل؟ وهذا أحد أهم المحطات التي يختلف فيها الرجلان. أوردُ هنا عبارة مقتضبة من إحدى مراجع أصول الفقه التي نحسب أن كثيراً من المقارباتتتأسس عليها في إطار منظومة التنظير الأشعري الذي هو أقرب إلى المدرسة العقلية منه إلى مدرسة النص وهي لتاج الدين السبكي الشافعي في مصنَّفه جمع الجوامع في علم أصول الفقه:
[ والحسن والقبح بعنى ملاءمة الطبع ومنافرته، وصفة الكمال والنقص عقلي، وبمعنى ترتب الذم عاجلاً، والعقاب آجلاً، شرعي، خلافاً للمعتزلة، وشكر المنعم واجب بالشرع لا العقل، ولا حكم قبل الشرع، بل الأمر موقوف إلى وروده، وحكَّمَتِ المعتزلة العقل] 8.
إنتهى كلام ابن السبكي. بمعنى أن العقل يدرك الحسن والقبح، ولكن إصدار الحكم بكونه حلالاً أو حراماً هو للشرع وليس للعقل، فالمعرفة وحدها لا توجب الحكم. غير أن المعتزلة يقولون: العقل قبل ورود السمع يقصدون بالسمع خطاب الله؟
مرجعية العقل الخالص (البرهان)
تجريد الأخلاق من الذاتية وما علِق بها وجعلِها عقلية خالصة هي مبتغى مدرسة أرسطو. الحكم الأخلاقيينبغي أن يصدر عن العقل الخالص المجرد من تأثير النفس. وهي المدرسة التي يمثلها ابن رشد وابن باجة وابن طفيل وأبو اسحاق البطروجي، ويعقوب بن إسحاق الكندي، وأبو نصر الفارابي. لكن مدرسة أرسطو (البرهانية) ولجت متأخرة إلى الثقافة العربية فلم تتمكن من احتلال مكانتها مثل الأفلاطونية التي استحوذت على التفكير الإسلامي حسب قراءة الجابري للتراث.كما يدعو أن يكون العقل حاضراً في التاريخ لترتيبه الزمكاني لتحصل الإستفادة منه وجعل التاريخ حاضرا في العقل ليلهمه[ ..فكون العقل يميز بين الحسَن والقبيح بصورة بديهية، الشيء الذي يجعل منه أساس الأخلاق، يقتضيه الشرع نفسه] 9.
من خلال هذه العبارة يتبين بعضموقف الرجل من مرجعية الأخلاق الذي سيضيف ما أسماه المعقول الإسلامي وأخلاق المروءةكموروثين عربيين خالصين. كل ذلك على ضوء العقل الذي لا يرى تناقضه مع النص. كما يدعو إلى استلهام التراث امتداداً إلى ما قبل عصر التدوين.
فكل من الرجلين متفق على الفراغ الملحوظ لعلم الأخلاق في المكتبة العربية لكنهما يختلفان في الإستمداد والمرجعية التي كان ينبغي أن يسلكها الأخلاقيون المسلمون والتي سلكها أغلب من كتب في هذا الفن. اعتراض طه عبد الرحمن يكمن في مرجعية العقل فهو يقف ضد اعتماده مرجعية للأخلاق. يقابل العقلانية بصيغة مصدر الأخلاقية ويجعلها أصلَ الإنسان وهويتَه وليس العقل،خلافاً لأرسطو ولجمهرة الفلاسفة المسلمين الذيننصبوا العقلهو السمة المميزة للإنسان عن باقي الموجودات حيث يقول:[ فالأخلاقية هي الأصل الذي تتفرع عليها كل صفات الإنسان من حيث هو كذلك، والعقلانية التي تستحق أن تنسب إليه ينبغي أن تكون تابعة لهذا الأصل الأخلاقي] 10.
فالذي يميز الإنسان حسب طه عبد الرحمن ليس هو العقل إنما الأخلاق. بمعنى أن الأخلاق فطرية وأعمق تجذراً في الإنسان من العقل الذي يتقاسمه مع الحيوان، فالأخلاقية لا يحكمها الفناء. والعقل متحول غير ثابت وما هو متحول لا يمكن الإعتماد عليه. وبالتالي ليس العقل جوهراً قائما بذاته لا يحتاج لغيره.
يشمل اعتراض د. طه عبد الرحمن الفقهاء الذين جعلوا العقل مناطاً للتكليف بدلاً من جعل الفعل العقلي هو المناط وكونهم سلموا نظرية الفلاسفة الذين جعلوا العقل هو الفارق المميز بين الإنسان والحيوانالذي يتوفر بدوره على العقل حيث يقول: [..فلم لا يجوز أن تكون القوة العقلية من قوى الإنسان من جنس قوة الإدارك التي يملكها الحيوان والتي يهتدي بها إلى مراعيه وموارده، ويميز بها بين المضار والمنافع... كما يتعرف بها على أقرب المسالك التي توصله إلى حظيرته ولو بعد محاولات متتالية... وغريب حقا أن يرتضي علماء المسلمين تخصيص الإنسان بالعقل دون غيره] 11.
مقاطعة طه عبد الرحمن مع العقل هي التي تحكم مشروعه على جميع الأصعدةكما تحكمه في نقده للحداثة لأنها عقلانية قاطعت بدورها الإستمداد من الوحي. لأن تَبنِّي جوهرية العقل "الذات"المبنية على فكرة اللوغوس قاد إلى ألوهية الإنسان وتمكنه من إحلاله محل الإله. فهو يري أن العقل فعل لا يقوم بذاتهبل يقوم بغيره وذاك الغير هو القلبكما ورد القرآن من إسناد فعل العقل إلى القلب.
مرجعية الوجدان (العِرفان)
لا يرى د. طه عبدالرحمن العقل كفيلا بأن تَستمد منه الأخلاقُ مادتَها، فهو يرشح الوجدان كأهم منابع الإستمداد لأنه يقوم على وازع داخلي. وهو الإتجاه الذي أعلن الجابري معارضته وأنبرى لتوضيح مزالقه بإسهاب في مؤلفَيْه العقل الأخلاقي العربي وتكوين العقل العربي. ينسب هذه المرجعية إلى المدرسة الأفلاطونية (العِرفانية) إلى روادها: شهاب ‏الدين السهروردي وأبي علي بن سينا وأبو حامد الغزالي، وأخوان الصفا، المدرسة التي لاتترك المجال للعقل بقدر ما تطلق العِنان للبحث عن الكشف والإلهام. مرجعية تطرحها الخلفية الفلسفية الهرمسية الغنوصية في أساسها الميتافيزيقي التي كانت تؤطر الفكر الفلسفي في المشرق قبل الإسلام وبعده. فالباحث في علم الأخلاق سيجد ضالته بداية في الأرشيف الصوفي بالتعبير عن الأخلاق بالسلوك وليس العقل بفاعل في هذه المدرسة لكن المعرفة هي الحاضرة. لذا يرد التعبير بالعارف بدل العالم عن الصوفيه. منها أتت كلمة العِرفان الذي يراه الجابري دخيلا على الإسلام وعلى الموروث العربي الخالص (أخلاق المروءة والمعقول الديني بدل اللامعقول العقلي)إدراك المعرفة تحصل بالتجربة حسب أخلاق الصوفية.عندما يترك المريد الخَلق ويقبل على الخالق بالكلية والرياضة والمجاهدة ونكران الذات والملذات. ليس العقل بحاضر في الأدبيات الصوفية إنما المتداول من المصطلحات هي: القلب والوجدان والإرادة القلبية، والولًع والصبابة، والحب، والشغف والهوى والإنجذاب، والفناء، أخيراً الإتحاد.
يدافع د. طه عبد الرحمن عن استعمال كلمة القلب محل العقل وللصوفية في استعمال مصطلح القلب بدل العقل أدلة من القرآن. وهذا الإستعمال سيترتب عليه إقصاء العقل من المرجعية الأخلاقية. لأنه ليس موجوداً كاسم مفرد يقوم بذاته كما القلب. يثبت الجابري أن العِرفان غنوصي. كان وُلوجه إلىالثقافة العربية الإسلامية سبباً لترجمة علم المنطق من جانب الدولة العباسية في عهد المأمون من أجل مقاومته بالبرهان والإستدلال، فالجابري يمثل في حقيقة الأمر مدرسة أرسطو على طريقة ابن رشد الذي ظل وفياً له ولم يحِد عنه حتى آخر رمق من حياته. والوفاء المستميت من ابن رشد لأرسطوا لا يختلف عن وفاء الجابري لابن رشد.
هناك منعطف سلكه د.طه عبد الرحمن لا يختلف عن الذي انتقد بسببه حضارة اللوغوس المألهة للعقل. وذلك المنعطف يمر بطريق التصوف عندمايتبنى أزلية الروح وجوهريتها وهو يكرس بذلك نظرية ابن سينا في الروح التي هبطت إلى الإنسان من المحل الأرفع لتمكث راغمة مكرَهة وهي في اشتياق وحنين دائمين إلى العودة من حيث أتت، يلخص ابن سينا هذه النظرية في قصيدته المعروفة بقصيدة الروح/ النفسيمكن العودة إليها.مما يؤصل به أهل العرفان تلك النظرية: الآياتالكريمة: [ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين] 12. والآية: [ثم سواه ونفخ فيهمن روحه] 13.
عرف هذا الإشكال في علم الكلام بأزلية الروح وحدوثها وهي معركة لم تنته: هل تستلزم إضافة الروح إلى الله في مثل هذه الآياتكونها صفة ذاتية لهأم أن الإضافة هنا إضافة مِلك؟ فالإختيار الأول هو اختيار غنوصي يقتضي أزلية روح الإنسان وقِدمها تبعاً لروح الله الأزلية وهو ما يدافع عنه المسيحيون أنفسهم من أجل إثبات أن عيسى روح منه أي من الله بجعل حرف مِن للتبعيض وهو إحدى معانيها. لكن من معانيها الأخرى الإبتداء ..
بعبارة أخرى: هناك طاقة ما حاضرة في الإنسان جوهرية. يختلف الفلاسفة في تسميتها والتعبيرعنها.مهما نفى طه عبد الرحمن أن يكون العقل هو تلك الطاقة الأزلية الجوهرية فإنه يرى من جهة أخرى أن الروح الإنسانية التي هي وعاء الوجدان طاقة أزلية جوهرية قائمة بذاتها. فالإختلاف إصطلاحي يتراوح بين العقل والقلب والروح والوجدان. الذي يهمنا في سياق كلامنا هوإثبات المرجعية الأخلاقية التي منشؤها الإنسان نفسه. مرجعية تلهمه من داخله وليس من خارجه.
يقول د. طه عبد الرحمن: [... أن الوجدان حقيقة جوهرية، بينما السلطان أو البرهان حقيقة عَرَضية، وبيان ذلك أن السلطان والبرهان صفتان من الصفات التي تقوم بالإنسان من غير أن تلزم ذاته، فقد يوجد الإنسان ولا سلطان له أولا برهان عنده، في حين أنه لا إنسان بغير وجدان فيكون الوجدان صفة ذاتية للإنسان لا تزول عنه أبداً، والراجح أن يكون هو ذات الإنسان عينها كما إذا قلنا: الإنسان إنما هو وجدان]14 .
أليست أزلية لا تختلف عن أزلية العقل والجوهر الذات؟ ينتقد د. طه عبدالرحمن تجوهر العقل في الثقافة الإسلاميةوينسب ذلك إلى التأثر بثقافة اليونان من جانب الفقهاء والفلاسفة المسلمين القائلين بجوهرية العقلوجعلوه مرجعية للأخلاق بينما نلمس من د. طه عبد الرحمن القول بجوهرية الروح وألزليتها.
إنهما طريقان ينتهيان إلى شاطئ واحد سواء على طريق أرسطو أم على طريق أفلاطون محط رحيل الدكتور طه عبد الرحمن. لم يُسَلِّم طه عبد الرحمن التقسيم الإبستمولوجي الذي منهجه الجابري وطبقه على قراءة التراث. وكان من الطبيعي أن لا يسلّمه وإلا سيعترف ضمنياً بكل جزئية انطوت تحت ذلك التقسيم وسيمسح من الطاولة كل المنتوج الأخلاقي لعلم السلوك الذي أنتجته مدرسة التصوف على مدار التاريخ.
أخلاق الفناء
العزلة التي حكمت الفكر الصوفي حسب قراءة الجابري ساهمت بشكل بالغ في تحويل الدولة الفتية من الطموح إلى جبرية واتكالية وبالتالي إلى فناء. قطعت تلك الأخلاق العلاقة مع المجتمع الذي تستمد منه الأخلاق مرجعيتها 15. مما يوردهالجابري في معرض نقده لأخلاق الفناء أحدَ أقوال أبو طالب المكي من أقطاب التصوف، حيث يَنقل عنه قوله:
[التوكل ترك التدبير وأصل كل تدبير من الرغبة، وأصل كل رغبة من طول الأمل وطول الأمل من حب الدنيا وهذا هو الشرك] 16
ربما قيل ببساطة: إن تحقيق التنمية البشرية اليوم يقتضي ما حذر منه أبو طالب المكي في هذه العبارة. أهم عناصرها الثقة بالنفس التي تمكن الإنسان من الولوج إلى تنمية القدرات وتطوير الذات ثم التدبير الذي يقتضي تحرير الفكرةوضبط الرؤية بترتيب الأفكار "ماذا أريد؟"، مع وضع خطة العمل. ثم عنصر الرغبة الذي يشكل الدافع Motivation وحب الحياة الذي يحمل على تقديرها واحترامها لأنها الوعاء لكل طموح وحركة. ثم الأمل الذي يبعث على النظرة الإيجابية للحياة. هذه القواعد التنموية هي محل تحذير في ظاهرالعبارة.اللهم إلا إذا كان للعبارة وجه آخر يتعين علينا إدراكه.
يخلص الجابري إلى نتيجة أن فكرة فناء المتصوفة أدى إلى فناء الأخلاق عندما ينتهي بهم السلوك إلى التحرر من الواجبات. متتبعاً في ذلك تصدي الغزالي للعقل وسد منافذه بإحكام. يتعلق الأمر بتعطيل الإنسان لطاقاتِه وقواه التي أعطاه الله إياها ليعمر الأرض. تلك التي دفنتها الإتكالية.
الحرية مرجعية
جعل الجابري الحرية شرطاًوسبباً لانبعاث الأخلاق لدى الفرد والمجتمع. أو هي شرط وجوب لوجود الأخلاق. ذلك أن الباعث على الأخلاق ليس رغبة في نيل الجزاء ولا خوفاً من عقوبة القانون سواء كان القانون أرضياً أم سماوياً. إنما الباعث هوالإرادة الخيِّرة 17 التي تأمر وتنهىولما يشكلفعل الخير من تحقيق للسعادة. هذا ما يجعل مجال الأخلاق أوسع من مجال القانون الذي يحصل التحايل عليه.فالأخلاقمستوعبة للقانون لكن القانون لا يقوى على استيعاب الأخلاق. فكما تربط الديانات بين الحرية والمسؤلية ربط الفلاسفة بينهما أيضاً فالعقل مناط التكليف عند الفقهاء وأساس المسؤلية. [ لحديث: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه] 18.
فالمكرَه ليس مسؤولا، ليبقى الحر الكامل الإختيار هو المسؤول. كما رُفع القلم عن فاقد العقل أيضاً حتى يعقل. وفي باب الأخلاق يربط الأخلاقيون بين الحرية والمسؤولية.
أخلاق الطاعة
من عوامل الأزمة الأخلاقية التي ظلت تتوالد عبر التاريخ العربي هي أخلاق الطاعة التي فرضتها السياسة الأموية حسب الجابري لأن عنصر الطاعة يلغي عنصري الإرادة والحرية اللذين يُلغى بإلغائهما الإنسانُ نفسُه. مع العلم أنك كلما وسعت في الدائرة الأولى (الله- ولله المثل الأعلى) قلصت من الدائرة الثانية قدرة الإنسان ومسؤولياته عن الأحداث، وكلما قلصت من الدائرة الثانية (الإنسان) وسعت في الدائرة الأولى. في الإختيار الثاني تُرد النكسات والأزمات وتخلف الأمة إلى الغيب ويتعين الإنتظار والخمول من خلال توسيع دائرة القضاء والقدر.
المصلحة مرجعية للأخلاق
بما أن مبحث الأخلاق هو "الحسن" و "الصالح" تعيَّن عند الأخلاقيين متدينين وغيرهم أن المصلحة هي أساس الأخلاق.خلص الجابري إلى أن العالِم المسلم الذي شيد الكتابة في علم الأخلاق الإسلامية الذي اعتمد على الموروث الإسلامي الخالص القرآن والحديث الصحيح إنما هو العز بن عبد السلامالملقب بسلطان العلماء الذي انطلق من قاعدة "درء المفاسد وجلب المصالح".لقد قدم العز بن عبد السلام مشروعاً في إطار سلسلة من أمهات الكتب في المصالح والمقاصد. يعتبره الجابري أحد أقطاب مدرسة المقاصد قبل الشاطبي فقد عاش قبله بقرن وثلث. ينقل عنه العبارة التالية من كتابه: قواعد الأحكام في مصالح الأنام [ ومعظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل، وذلك معظم الشرائع، إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة، ودرء المفاسد المحضة من نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالحفأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم المصالح الراجحة على المرجوحة محمود حسن، وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن. واتفق الحكماء على ذلك. وكذلك الشرائع على تحريم الدماء والأبضاع والأموال والأعراض، وعلى تحصيل الأفضل فالأفضل من الأقوال والأعمال] 19.
كما يفيد الجابري أن ربط القرآن للإيمان بالعمل الصالح كشرط لتحقيقه يعطى الإيمان مضمونا إنسانيا إجتماعيا.فليس الإيمان من أجل الله بل من أجل الإنسان لأن الله غني عن العالمين حسب الجابري بتصرف.
يجعل الجابري عصر التدوين فاصلا،لتحوُّل الثقافة الشفاهية إلى الثقافة العالمة التي ستعتمد الكتابة (بداية من سنة 140ه العصر العباسي الأول)منطلق المعرفة من حيث التبويب والتصنيف. فيه حُددت المرجعة وتم التقعيد للعلوم التي ستصبح الآلة تحكم العقل الإسلامي"إلى الأبد". المرحلة التي سيليها الجمود والركود الزمني وتخشب موجاته. ليست المشكلة في عصر التدوين لذاته بقدر ما تكمن في تقديس ما تم تقعيده وجعله متحفياً بسبب عدم القدرة على مناقشة الثغرات التي أضحت فارغة، منها ثغرة علم الأخلاق ومرجعيتها. مؤاخذة الجابري على أخلاق المتصوفة هو بعدهم عن الأخذ بقانون السببية وعدم التفاعل مع الطبيعة البشرية واستغراقهم في الإنتظار والجبر والإتكالية وتكريس الإستبداد. ربما يرى الجابري أن الأصول التي يتوخاها د.طه عبد الرحمن مرجعية للأخلاق لم تحسم من حيث مرادُها ودلالتُهاالقطعية بل ظلت محل مرافعات في علم الكلام،كما ظلت نسبتها إلى الموروث الإسلاميمحل نقاش.لا نكاد نتصور لدى طه عبدالرحمن مرجعية للأخلاق بدون دين. والأخلاق إنما يساهم فيها المتدينون وغيرهم، نتاج مجتمعييتوافق عليه مختلف شرائحه. تحدده المصلحة العامة "هي ما يصلح للإنسان" للمواطن، ليس ما يصلح للمسلم فحسب. غير أن فكرة جديدة
لاحت مؤخراً في أحد الكتابين الأخيرين لطه عبد الرحمن تثبت أن الإنتاج العقلي المحض لا يختلف عن الوحي المنزَّل، حيث يقول: [ لأن العقل الإنساني في أصله صادر عن الإله صدور القول الشرعي عنه، فهو الموجِد لهما معا....فلم لا يجوز أن يكون العقل شرعاً يتلقاه الإنسان من الداخل وأن يكون الشرع عقلا يتلقاه الإنسان من الخارج. يشير طه عبد الرحمن بذلك إلى قول الراغب الأصبهاني: " فالشرع عقل من خارج والعقل شرع من داخل"] 20. وقد قسم د. طه عبد الرحمن العقول إلى ثلاثة: العقل المجرد، والمؤيد، والمسدد. التأييد والتسديد إنما يحصلان بالوحي.
هذه فكرة تتجلى في مشروع الرجل تؤصل للعقل خارج الفضاء اليوناني الذي غرف منه علماء المسلمين فقهاؤهم وفلاسفتهم حسب طه عبد الرحمن. والفكرة أعلاه تقترب كثيراً منتنصيب الجابري العقل مرجعية للأخلاق باقتضاء الشرع.من خلال العبارة التي أوردتها له سابقاً: [فكون العقل يميز بين الحسَن والقبيح بصورة بديهية، الشيء الذي يجعل منه أساس الأخلاق، يقتضيه الشرع نفسه] 21.
يقر د. طه عبد الرحمن مقاربة الأصبهاني التي تقابل العقل بالشرع وتجعل قيمتهما متكافئة."فالشرع عقل من خارج والعقل شرع من داخل" والجدير بالذكر أن ألإصبهاني صاحب نزعة عقلية معروفة صُنف بسببها بحق أو باطل في خانة الإعتزال.
خلاصة:
الإختلاف القائم بين الرجلين له جذور قديمة بقدم الفلسفة، طفا على السطح في تنظيرهما للأخلاق.المدرسة الأولى تثبت هيمنة صفاتالله المتجلية في التاريخ وأحداثه. تعمل على إنهاض الإنسان عبر وجدانه إلى أن تتحد إرادته مع إرادة الله، مدرسة ترى الإنسان موضوعاً(Objectivity). والمدرسة الثانية تعمل على توسيع مسؤولية الإنسان واستقلاليته الذاتية وإثبات حضوره الفاعل في التاريخ على اعتبار أن الإنسانهو الذي ينتج أخلاقه،مدرسة ترى الإنسان ذاتاً(Subjectiviteit). نقطة الإلتقاء بينهما أن كلا المدرستين تبحثان عن تجديد علم الأخلاق من داخل التراث وليس من خارجه.
* باحث مغربي هولاندي.
حاصل على ماجستير شعبة الإلهيات
VU University Amsterdamبجامعة
[email protected]
الهوامش:
1. طه عبد الرحمن: تجديد المنهج في تقويم التراث ص 386
2. نفس المصدر: ص 107
3. الجابري: العقل الأخلاقي العربي ص 61
4. الغزالي: أبو حامد الإحياء ج 3- ص 54.
5. الجابري: العقل الأخلاقي العربي ص 323.
6. مسكويه: تهذيب الأخلاق ص 29.
7. طه عبد الرحمن: سؤال الأخلاق ص 53.
8. تاج الدين عبد الوهاب السبكي جمع الجوامع ج 1 ص 58
9. الجابري: العقل الأخلاقي العربي ص 113
10. طه عبد الرحمن: سؤال الأخلاق ص 14
11. طه عبد الرحمن سؤال العمل ص 80 - 81
12. سورة الحجر آية 29.
13. سورة السجدة آية 9.
14. طه عبد الرحمن روح الدين ص 294
15. تنسب نظرية استمداد الأخلاق من المجتمع إلى عالم الإجتماع دوركهايم. لكن لا ننسى أن من مصادر التشريع الإسلامي العرف والعادة. وأخلاق المروءة في التراث العربي ترتبط بما توافق عليه المجتمع.
16. الجابري: العقل الأخلاقي العربي ص 471.
17. مرجعية الإرادة الخيرة من أسس نظرية عيمانويل كانط الأخلاقية.
18. حديثحسن،رواهابنماجةوالبيهقيوغيرهما عنابنعباس.
19. الجابري: العقل الأخلاقي العربي ص ص 600
20. طه عبد الرحمن: سؤال العمل ص 91
21. الجابري العقل الأخلاقي العربي ص 113


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.