الفصل الأول وقفت أمام مرآة الحمام وبالكاد كنت أستطيع رؤية مستوى الصدر كان عمري أربعة عشرة عاما أو اكثر بقليل .. حاولت استصدار جواب لهذا الذي أصابني فجأة ودون مقدمات, فمنذ فترة غير طويلة بدأت أتحسس طنينا غريبا يكتنف نبرات صوتي التي تحولت من رقة وعذوبة طفولية صافية إلى رنة تشبه النقر على وتر عود مكسور. فلا هي بصوت الرجال ولا هي بصوت الإناث. طنين بين هذا وذاك كما انطلقت بعض الشعيرات في أركان جسدي وأخرى انبرت عند الذقن مدشنة ما قيل لي أنه البلوغ. "" - وشوف آ بنادم .. هاذي وحدة وهاهي الثانية وباقي لي مخبع - ومشي تنبك طلعتلك شعرة فوجهك فرعتلنا راسنا - لله .. الله .. إلى سمعك كتهضر يقول هاذا كيضفرهوم - المهم حسن منك الشارب عندي كامل ما شي فحالك ما انت مرا ما انت راجل - غير صبر عليا .. العزيزة قالتلي بلي أنا كنشبه للواليد وهو ما كبرو لو الشلاغم حتى كانت عندو 15عاما .. وشوفو دابا مشلغم كثر من باك ... يعني إلا أنا كنشبه لبا وانت كتشبه لباك من دابا عام مشنكون عندي شلاغم كبر منك - حلم .. حلم .. آ البزيوز ( الولد الصغير) كان العربي قاسيا في عباراته الساخرة جافا في تشهيره بزغيباتي القليلة زغيبات كانت هي كل ثروتي في عالم الرجولة المبكرة .. أقضي النهار وقسطا من الليل وأنا أمططها وأتأكد كلما نسيت لمسها أنا لا تزال في مكانها ..كنت أعرف مكانها كما لو كانت من أطراف جسدي بل ولم يكن لدي أدنى عناء في قياس طولها .. لم يفت الأهل ملاحظة شغفي بزغباتي الجديدة كما أصبح صوتي مصدر سؤال وسخرية وتندر - الله آ وليدي .. ريح ديك جوج دزغيبات .. - لا أنا غير كنتأكد.. آ العزيزة - مزيان .. أكد أكد آ وليدي عندك يهربو تهكموا على نبرة صوتي وأثارت إنتباههم خلوتي الطويلة وانشغالي بزغيباتي الثمينة لكنهم لم يتمكنوا إختراق سرداب الأسرار التي بدأت تتكوم في دواخلي وما يشغلني من صور وخيالات دخيلة على عالم إعتدته ناصع البياض.. بدأت أحس بأن والدي يراقب كل تحركاتي فانتابني شعور غريب وإحساس بذنب لا أعرف هويته ولا أكاد أفسر علاماته.. كنت في الماضي طليقا حرا غير مقيد في تحركاتي داخل البيت فإذا بجدتي تستوقفني ذات مساء وأنا أهم بدخول غرفة أخواتي وكن مجتمعات مع بعض صويحباتهن من بنات الحي - آجي فاين مشي - داخل عند خوتي .. - خوتك .. يخوا ليك المخ إنشاء الله .. خرج وسمعني مزيان .. راك مابقيتيشي عويل ( طفل ) صغيور .. راه باباك بغاك تبدا تنعس في الصالة بوحدك - علاش آ العزيزة .. ما نعسشي معاك فالبيت؟ - إيوا أوليدي إنتينا دابا وليتي محسوب على الرجال والبيت ديالي كينعسو فيه خوتك وصحاباتهم .. إيو المعقول مزيان ترددت كلماتها في سمعي وعادت لتستقر في الأعماق .. أحسست بألم ارتجف قلبي له, كيف لي أن افارق غرفة جدتي التي اختزن فيها كل الحب والحنان , الغرفة التي ما فارقتها يوما منذ غادرت والدتي البيت وأنا في الخامسة من عمري.. فعوضتني تلك الغرفة كل شيء افتقدته في سن مبكرة. لم يستوعب عقلي قسوة الحكم وأنا ارى أختي الصغرى تحمل لحافا صوفيا وتلقي به على ما أصبح مكان نومي الجديد.. - بابا قال إنتينا تنعس هنا - نزل الغطا وبلا هضرة بزاف - إيوا أنا غير كنقولك .. - سير دوب من قدامي آ الجنية ولا غدي نضوليك هربت وهي تقهقه بأعلى صوت , سمعتها تصرخ وهي تدخل إلى الغرفة المحرمة .. - آش عندك علاش كتغوت - بعبوع كيجري عليا - شكون بعبوع ؟ ( سالتها جدتي ) - سعيد - هداك خاك ..علاش كتعيطلو بعبوع - حيت صوتو ولا كيخوفني - والله وما سكتي حتى نشرملي لباباك داك الدقوم ( الدقوم يعني الفم ) أطفأوا الأنوار وهدأ البيت .. وكنت أنام وحيدا في غرفة الضيوف .. تناهت إلى مسمعي قهقهاتهن وصراخ أخي الأصغر .. فازداد إحساسي بأنني منبوذ لسبب لا أعرفه .. انطلقت جدتي في سرد حكايتها كما تعودت أن تفعل منذ أكثر من عشر سنوات .. حاولت أن أسترق السمع وبالكاد كنت أسمع كلمة وتفوتني كلمات .. أمر لم يستوقفني عن تخيل الحكاية التي كنت أحفظها عن ظهر قلب .. فلطالما كانت جدتي تكرر نفس الحكاية في الشهر الواحد مرة أو مرتين .. وكثيرة هي المناسبات التي كنا نستوقفها إذا أخطات في ذكر إسم أو مكان .. انتابني إحساس بالظلم .. كيف لا وانا أنام وحيدا في غرفة لا أشتم فيها رائحة جدتي ولا أسمع سعالها .. ولا أتلمس رجل أختي وهي تصارعني في شد الغطاء .. ما الذي اقترفته حتى يلقى بي في غرفة شاسعة تتوسطها مرآة كبيرة وعلى طرف منها تنتصب صورة أبي وهو يحدق النظر وكأنه يراقب حركاتي. نهضت من فراشي الجديد وكانت الساعة تشارف الرابعة صباحا.. مددت بضع وسادات تحت الغطاء خشيت أن ينهض أبي لصلاة الفجر فيرى مكاني فارغا .. وتسللت لغرفة جدتي .. كان الكل يغط في نوم عميق بينما شخير جدتي يتعالى دون مانع أو رقيب .. كنت أتخطى الرؤوس بحذر شديد وانا أتحسس طريقي نحو حضنها الدافئ .. كشفت الغطاء عن جسمها الطاهر وانكمشت بكل استسلام في مكان كنت على يقين أنه مكاني الطبيعي ومسكن نفسي الصغيرة المعذبة.. أحسست بيدها وهي تداعب خصلات شعري .. ففهمت على أنها قد تفطنت لوجودي .. ضمتني لحضنها وهي تهمس في أذني: - الرجلة ماشي سهلة آ وليدي - مقدرتشي ننعس آ العزيزة - خصك تقدر .. أنا ما غندومش آ وليدي .. واحد النهار ماش نموت .. شنو ماش تعمل - حتى أنا نموت معاك آ العزيزة .. منقدرشي نعيش بلا بيك يومها ادركت ان الأمر لم يكن مجرد إنتقال من فراش إلى آخر لكنه بداية لعهد هو فراق وطلاق لعمر لن يتكرر وحرية ستعصف بها رياح وعواصف وقيود .. - نوضيه - علاش آ ولدي خاليه مسكين ينعس .. الليلة كاملة وهو فايق - أيما .. آ الواليدا فيقيه .. بغيت نهضر معا ولدي - والله وضربتيه ؟! - ما غانضربوش كنت أتتبع الحوار بين أبي وجدتي وقد غمست جسمي النحيف في فراشها ..أدركت أن الأمور لن تعود لسابق عهدها وتأكدت أن أبي قد صمم على حرماني من النوم في غرفة جدتي.. لسبب لم أستوعبه يومها. جلس وحاول إقناعي بأنني لم أعد كما في السابق .. تلعثمت المفردات في شفتيه وهو يحاول تفسير أمر ما لم يذكره بالإسم لكنه خلص إلى القول وبكل وضوح : - النعاس في البيت ديال البنات ممنوع - علاش؟ - حيت أنا قلت ممنوع - وعلاش زعما أنا بوحدي ننعس فالصالة ؟ - حيت انت وليتي راجل - راجل ؟ باش .. ما عندي طوموبيل ما عندي خدمة .. باقي تلميذ .. كيفاش راجل؟!! - سمع آ ولدي .. انت الآن بلغت سن الرشد .. سمع صوتك كيف ولا كيبعبع .. واش باغي تبقا عمرك كلو صغير .. سمعني مزيان نهار باقي نجبرك ناعس مع العزيزاك مش نتفاهم معاك .. يا الله سير تحرك التفت الطفل الرجل إلى الوراء وهو يلقي بقبلة الوداع لطفولة ولت وانقضت .. وقد اختلطت بداخله دوافع السرور والرغبة في الإفتخار بصفته الجديدة وأخرى تدفعه للأسف على عمر كانت أجمل علاماته البراءة والحرية.. ليستسلم لصفة الرجولة هذه رجولة لم تجلب له أي جديد سوى النوم وحيدا في غرفة الزوار .. ولقب جديد اقترن باسمه هو بعبوع نسبة لنبرة صوته الجديدة. (يتبع)