لحسن أحمامة في مجملها تروي الحكاية الإطارية علاقة حب بين تونسي و فرنسية تعيش في شقته، وما يستتبع ذلك من الأحداث اليومية في البيت و في الشارع و العمل. غير أن العلاقة تعرف بعض الكبوات إلى أن تصل إلى الفراق النهائي. و لعل هذه النهاية المأساوية مردها عدم تمثل كل واحد منهما لثقافة الآخر و فهمها، بحيث يجلو النص طبيعة كل واحد. فماري كلير تمثل النسق الثقافي الغربي في تحرره و انفتاحه، فيما يمثل محفوظ النسق الثقافي العربي المنغلق ذاته، رغم أنه يسعى إلى خرق هذا النسق من خلال شغفه بالشعراء الصعاليك. و هكذا تشرع العلاقة في التفكك إلى أن تنحل بالكل. تشتغل الرواية على بنيتين: بنية استرجاعية ما قبل بنية الحكاية الإطار، أي حكاية العلاقة الغرامية. داخل هذه البنية تتبادل الشخصيتان الأدوار. يكون البطل راويا لطفولته و ماري كلير مروي لها، و العكس عندما تحكي ماري و يكون البطل مرويا له. هذا التبادل في الأدوار يكشف عن ماضي الاثنين قبل تحقق العلاقة بينهما. في حين تأتي البنية الثانية متمثلة في الوقائع و الأحداث المكونة لطبيعة علاقتهما. و لئن كانت البنية الثانية توسع من دائرة المحكي، فإنها أيضا تعمل كخطاب مرجعي يكشف عن جزء من حياة الاثنين. يستدعي محفوظ طفولته في قريته:» أستعيد اليوم الذي ماتت فيه أمي. أذكر أن الناس أحبوني في ذلك اليوم كما لم يحبوني أبدا من قبل، و أن أطفال الدوار الذين كانوا يرفضون دائما أن أشاركهم في لعبة كرة القدم لأنني لا أعرف حتى كيف أركل الكرة كما يرددون في استهزاء مكنوني بشكل لا يدع مجالا للشك من أن أراوغ أمهرهم عدة مرات بل و أن أسجل أهدافا كثيرة... و أذكر...»(ص10). يتم الكشف إذن عن طفولة محفوظ من خلال مستويين: مستوى الحكي المباشر للمروي لها، ماري كلير، و مستوى فعل التذكر، من حيث هو نوع من التداعيات المرموز إليه بفعل «أذكر»، وينساب الحكي عندما تستثار فكرة جديدة. هكذا، يشكل سرد طفولة كل من الراوي وماري كلير إطارا مرجعيا يضيء سلوكهما خلال العلاقة. ذلك أن شخصية الفرد تتحدد انطلاقا من فترة الطفولة على حد تعبير فرويد، فاستحضار الطفولة هو المحدد الجوهري.فإذا كانت ماري كلير تبحث- إذا جاز التعبير- عن بديل للأب في سياق الحميمية التي ربطتها بهذا الأخير:»- كانت قد مرت أعوام كثيرة على هجري بيت العائلة لبدء حياة جديدة مستقلة عندما مات أبي. و ذلك بكيته بحرقة، وحزنت عليه حزنا شديدا إلى درجة أني أخذت أتساءل عما إذا كانت علاقتنا تتجاوز علاقة البنت بأبيها الطبيعية... و الذي زاد ألمي هو أني كنت في تلك الفترة وحيدة بلا رجل...»(ص69)، اذا كانت ماري كلير كذلك.. فإن حرمان الراوي من حنان الأم قد يجد تعويضه في شكل مراوغ في الرائحة:» أضغط قليلا بيدي اليسرى على المخدة لكي لا تنزلق، وأشرع في تشممها و أنا أتحسس بأصابع اليد الأخرى مكانها الذي لا يزال دافئا»(ص183)، ثم « كأن جسدي يولد من جديد. أحسه يتخلص من كل ما كان يكبله و يشله. و الحرمان الذي تراكم طوال أعوام أشعر به يذوب كالثلج»(ص83). تشكل الرائحة أهم حافز على التذكر. يورد كارل غوستاف يونغ قائلا إن الرائحة محفز على استحضار ذكريات أحداث وقعت في الماضي، وارتبطت برائحة معينة. عندما يستعرض محفوظ طفولته، يقول:»أحب أيضا عين البقرة و ضرعها حين يكون ممتلئا بالحليب كما أحب رائحة زبلها...»(ص40)، ثم»- نعم... بقيت متمددا للحظة طويلة... كانت له رائحة خاصة.. مزيج من روائح الخشب و الأكفان و عطر الموتى. كنت أريد أن أعرف ما يحس به الميت.»(ص44). و هكذا، تشكل حاسة الشم عند الراوي أهم حاسة تتمحور حولها طبيعته الشخصية و هي الجانب التعويضي لكل حرمان عاشه في طفولته و هو ما يذكر بجان بتيس-غرونوي في رواية باتريك سوسكايند» العطر»، ذلك البطل الذي سيقتل العذارى من أجل ابتكار عطر العطور و الذي سيكون في النهاية ضحية ابتكاره. إن الرائحة بالنسبة لمحفوظ تذهب به إلى حدود اجتياز هذه المرحلة، باعتبارها الباعث الأساسي على استحضار علاقته بماري كلير كما يحيل على ذلك العنوان. فالرائحة أو الروائح هي النقطة التي تفيض ماء حكي هذا المتخيل الروائي. ينبني النص، إذن، في كليته على خاصية الرائحة كدافع على القول و الاعتراف:»ينبغي أن أقول هنا إن حضور ماري كلير...»(صً20) ثم في نفس الصفحة:»ينبغي أيضا أن أعترف...». ثم فعل التذكر»أذكر أن...»، وهو اعتراف بتحولات الشخصية ضمن مسار هذه العلاقة التي سوف لن تصمد بمقتضى الطبيعة الثقافية لكل واحد من الشخصيتين. إن دخول ماري كلير كنسق ثقافي غربي في حياة محفوظ، سيؤدي إلى محاولة تشكيل الذات وفق تصورات العنصر الدخيل:» أغير كل يوم ملابسي الداخلية وهو ما لم أفعله من قبل»(ص21)، ثم تغيير وقت العمل من الليل إلى النهار. غير أن هذا التغيير لا يقف عند حدود السلوك الشخصي، و إنما يمتد إلى الفضاء، فضاء الشقة:» لم تكد تمضي شهور قليلة على الإقامة معا حتى أخذت ماري كلير في تغيير كل ما في شقتي.»(ص23). من ثمة، يقدم الراوي جملة من التنازلات بقصد الحفاظ على هذه العلاقة الهشة من أساسها. و لئن بدت اختيارية و طوعية، فإنها في باطنها ليست بالحب الجارف- على الأقل من جانب محفوظ الذي يرى في ماري كلير الجانب الجنسي. في هذا السياق، يقول م.م. هانت:» إننا نعلن حقيقة ثابتة نؤمن بها و هي أنه لا يمكن للحب أن ينشأ بين المتزوجين أو أن تؤثر قوته فيهم، إذ أن العاشقين يهبان بعضهما كل شيء طوعا و اختيارا بعيدا عن تأثير كل ضرورة أو قسر. أما الزوجان فهما ملزمان بحكم الواجب أن ينزلا نزولا كليا عند رغبات بعضهما، وألا يضن أحدهما بشيء عن الآخر»(1). وللحفاظ على هذه العلاقة أيضا يعطي الراوي لأمه بعض التعليمات المتبعة في نسق ماري كلير الثقافي:» أشرع في إخبار أمي بما يجب إن تقوم به و هي جالسة إلى المائدة. أن تمسك بالشوكة باليد اليسرى، أن تقص الخبز بالسكين، أن تطبق شفتيها و هي تأكل، أن تصمت و لا تتكلم إلا عندما تبتلع كل ما في فمها، أن تبقى جالسة و لاتنهض إلا عند الضرورة الملحة»(ص126) . إنها علاقة مؤسسة إذن على أسس هشة قابلة للتداعي. فانبهار محفوظ بشعر الصعاليك يجعله مورطا في هذا النسق الثقافي الخارج عن الأعراف التي يتبناها مجتمعه و تضمن لحمته. و من ثمة، تحيل على هشاشته ووحدته في فضاء ليس هو فضاؤه. إن خروج محفوظ عن مقررات جماعته ونواميسها و أعرافها يلقي به في التيه و» الهبوط إلى مناطق ملتحفة بالغياب في صميم النفس البشرية»(2). من هنا تتمثل ماري كلير بالنسبة له كجسد للرغبة. يقول عن اليونانية التي يصادفها في المخيم:» ... كان هناك في ابتسامتها و ملابسها و خصوصا مشيتها و الطريقة التي تحرك بها جسدها شيء من العهر. وهذا ما أربكني و أثارني في الوقت ذاته.»(ص 148). ثم عن المومس في سان دوني:» أنتهز تلك الفرصة فأضع يدي كاملة على ردفيها لأشعر بثقلها. تتركني أفعل ذلك على مهل مما يؤجج رغبتي فيها»(ص193). الجنس، إذن، غسل للإحباط و مراوغة للتيه. و هو بذلك في ارتباطه بالصعلكة عودة إلى الطبيعة هربا من الأعراف و مقررات المجتمع:»- أنظر. أصدقاؤك. تقول ماري كلير فجأة و هي تمد يدها في الاتجاه الذي كنا نسير فيه/- هل رأيتهم؟ أنظر إلى حيث أشارت فألمح أربعة مشردين بينهم امرأة و معهم كلبان يمرون بتمهل في الشارع الذي يتقاطع مع الشارع الذي نسلكه...»(ص101). ثم يقول محفوظ :»... اقرأ بتمهل ما تحفظه من شعر الصعاليك فأنت مثلهم في نهاية الأمر. هم تائهون في الفلوات والقفار، و أنت ضائع الآن في هذه المدينة الشبيهة بالمتاهة...»(ص112). في هذا السياق لمحفوظ إبدالاته الرمزية في الشعراء الصعاليك، من حيث إنه أحد امتداداتهم، السليك بن السلكة الأسود، و الأحيمر السعدي صاحب البيت الشهير:» عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى/ و صوت إنسان فكدت أطير.» إنه امتداد لثقافة الصعلكة و ثقافة التشرد. لا يتحدد مأزق محفوظ في رفضه لثقافة موطنه الأصلي، و إنما في فشله في تمثل ثقافة الآخر:»كنت أيضا أخشى ان عدت إلى تونس أن أبقى محبوسا هناك لفترة طويلة و أن أنقطع دفعة واحدة و بشكل حاد عن زيارة باريس، فقد كانوا يحجزون جوازات كل الذين يعودون إلى تونس بعد فترة طويلة من الإقامة خارجها للتأكد من أن عقولهم لم تتلوث و أن حبهم للوطن لا يزال صادقا.»(ص16)، ثم يقول عن سلوك ماري كلير:» فلابد من الاعتراف بأن الالتصاق بي إلى هذا الحد و تقبيلي و مداعبتي وكل مثل هذه الأشياء التي تقوم بها ماري كلير بتلقائية لاتزال تحرجني و تربكني في الأمكنة العامة، بالرغم من أني أعرف أنها لا تكاد تثير انتباه أحد»(ص93). هذا الصراع الداخلي الذي يتجاذب طرفيه فشل تمثل ثقافة الآخر، وعدم الانفكاك من ثقافته الأصلية هو ما يحكم على علاقته بماري كلير بالفشل، ومن ثمة يجعله عرضة للانفعالات الشديدة التي تصل به إلى حد القذف و الشتم:»... و بصوت منخفض و مختلف كأنه ليس صوتي.. كلمات لا أدري كيف و لماذا عبرت ذهني آنذاك. ولكن بدلا من أن أتكلم بالفرنسية فوجئت بنفسي أتكلم بالعربية.»(ص221). هكذا، رغم محاولته الانفكاك من مقررات و أعراف مجتمعهن يظل محفوظ أسير ثقافة هذا المجتمع باعتبار أن الفرد معطى اجتماعي قبل كل شيء:» كل هذا معقول و شديد الوضوح في ذهني. و لكن كيف أطفئ هذه النار المشتعلة في صدري؟ كيف أسكت هذا الصوت الذي يصرخ في داخلي مطالبا بأن أثأر لنفسي؟ كيف أضع حدا لهذا الإحساس بالغضب الذي يستولي علي محدثا فيها كثيرا من الارتباك؟(صص110-111). يمتد هذا الصراع الداخلي في حدوده القصوى إلى اعتبار محفوظ أن العنف متجذر في العربي، خصوصا في مجال الجنس؛ في حين أن الرقة مرتبطة بالتمدن:» لو رويت ما حدث لي الآن لأي واحد من رجال» المخاليف» لاحتقرني و سخر مني، و أشاع أني صرت رقيقا كالنساء من كثرة التمدن، و الا كيف تجرؤ أنثى على أن تتعرى أمامي و تستلقي بهذا الشكل الفاجر على بعد شبر مني و لا أركبها الركوب الذي يليق بالفحول؟»(ص199). يظل الانكفاء على الذات هو العائق الآخر على عدم انفتاح الراوي على ثقافة الآخر. و هو انكفاء يجد مصدره منذ الطفولة، في سياق علاقاته بأقرانه، ثم بعد ذلك في علاقته بماري كلير. و هي العلاقة الوحيدة التي ينسجها بباريس، إذ يظل عمله في الفندق و الجامعة محدودين في علاقة المشغل بالمشغل، وعلاقة الأستاذ بالطلبة. ثم في الأخير تنتهي الرواية بالوحدة:» الصالون بدونها صار أكثر اتساعا و صمتا.»(ص213). إن العودة، إذن، إلى الانكفاء على الذات، لا تتمثل في النهاية المأساوية لطبيعة الحب الصادق- ربما صادق من جهة ماري كلير- بل طبيعة العلاقة من جانب الراوي: من حيث هي طبيعة تروم إشباع رغبات، ذلك أن ما يتبقى من ذكريات ماري كلير هي النباتات التي يعجز الراوي عن الاعتناء بها:» أتوقف عن جمع الأوراق الميتة. وأطرد من ذهني كل ما يعبره من أفكار لكي لا يتشتت انتباهي.. و أركز كل اهتمامي على اسم النبتة التي أهدتني إياها ماري كلير.. أحاول للحظات طويلة أن أتذكره، إلا أني لا أستطيع.»(ص223). من هنا تظل الرائحة هي المحفز على هذا التذكر الذي يتحول من الذهني إلى المكتوب، أي تحققه كنص. يقول بن حزم:» وقد علمنا أن كل ما له أول فلابد له آخر... وعاقبة كل حب إلى أحد أمرين: إما اخترام منية و إما سلو حادث»(3) هكذا، يغيب اسم النبتة، و تظل طافحة على سطح الذاكرة روائح ماري كلير، التي تتحول إلى مكتوب بمعنى مزدوج: أولا كقدر مكتوب لا ينساه، و ثانيا كمكتوب ، أي كفعل كتابي يمنحنا نصا قابلا للقراءة. المراجع: السالمي، الحبيب،» روائح ماري كلير»، دار الآداب، بيروت، ط1، 2008. 1. Hunt, M.M , The Natural History of Love, Grove Press, New York, 1959,p.143 2. اليوسفي، محمد لطفي، فتنة المتخيل: الكتابة و نداء الأقاصي، ج1، المؤسسة العربية للدراسات و النشر، بيروت، ط1، 2002،ص 196 3. الأندلسي، بن حزم، طوق الحمامة، دت، ص15