... منذ أن حاول أعضاء الحركة البديلة للدفاع عن الحريات الفردية، المسماة اختصارا "مالي"، نقل تحركاتهم، أو قل قضيتهم، من العالم الافتراضي الى الواقع والنزول بها الى الشارع، باعتباره فضاء للاحتجاج الجماهيري الديمقراطي المنظم، والمنفلت في آن عن أية مأسسة رسمية أو حزبية أو مدنية، على غرار تنظيمات المعطلين الاحتجاجية، منذ ذلك الحين وردود الفعل تتوالى بين داعم لهذه الخطوة، باعتبارها تعبر عن- وتندرج في إطار- دينامية مجتمعية انتقالية، وبين من يجرم هذه الخطوة باعتبارها "خروجا" عما توافق عنه المغاربة، أو باعتبارها تشكل "استفزازا" لمشاعر المغاربة، حتى أن جهات محافظة ذهبت حد نعت تلك الخطوة بكونها تمثل تهديدا لاستقرار البلاد، و"خروجا عن الجماعة"، مما حدا ببعض غلاة المحافظين الى إطلاق تهديدات ضمنية تمس السلامة الجسدية لأعضاء حركة "مالي"..... "" وإذا ما تركنا جانبا ردود الأفعال الغوغائية العنفوانية الشعبوية التي تصدر عن جهات سياسية وإعلامية معلومة، هي في عمقها تعبير عن تيارات متأسلمة حاملة لايديولوجيا أصولية، ومتخفية وراء الدين الإسلامي الحنيف، إذا ما تركنا هذه الجهات المناسباتية وانتقلنا الى رصد أراء وأفكار بعض من الفاعلين المؤثرين في الرأي العام الوطني، فانه يمكننا - ولحدود كتابة هذه السطور- استنتاج بعض المؤشرات العامة في محاولة لرصد تداعيات حدث الإقدام على الإفطار العلني على المستوى الحقوقي والقانوني والسياسي، باعتبار ما جرى وما استتبعه من ردود أفعال يتمفصل على قضية جوهرية مرتبطة بإشكالية الديمقراطية والحداثة في علاقتيهما ببناء دولة عصرية عقلانية فيها يمكن الفصم بين السياسي والديني كمدخل لمعالجة وتدبير إفرازات المجتمع الانتقالي، في الطور الراهن من المرحلة العولمية التي تحمل في طياتها نوعا من التفكيك المادي (الاقتصادي– الاجتماعي) والرمزي (الثقافي-القيمي) للمجتمعات والدول المتأخرة عن ركب الحضارة الإنسانية في هذه المرحلة التاريخية من العولمة الكونية. في ضوء هذا التقديم، وبناء على تتبعنا لبعض الآراء الواردة في بعض الجرائد الوطنية، المستقلة بخاصة، أمكننا، بشكل عام، استجلاء معالم مقاربتين رئيسيتين اثنتين، ضلتا عاجزتين عن وضع ما جرى، باعتباره يفصح عن تحول مجتمعي، في سياق شرطه التاريخي. انطلقت إذن كلتا المقاربتين من الحدث، في ذاته، فأخذتا تموج في عموميات وأكليشيهات، تتخذ تارة طابعا إيديولوجيا يتوخى أصحابه استغلال الفرصة لإطلاق أحكام قيمة جاهزة ضد "خصومهم العلمانيين"، وتارة أخرى تتخذ تلك العموميات طابعا أكاديميا -ليس علميا- هو أشبه ما يكون بدروس أولية في السوسيولوجيا وفي القانون. إجمالا لم تقو كلتا المقاربتين على طرح مفهوم الحريات الفردية في علاقة جدلية معقدة بطبيعة الدولة ونمط الإنتاج الرأسمالي المسيطر فيها، على اعتبار ترابط وتمفصل مفهوم الحرية على مفهوم الدولة، ليس بشكل تجريدي ثابت، ولكن في إطار من التمرحل التاريخي الذي يقضي بأن تكون تلك العلاقة المعقدة علاقة تاريخية، أي متغيرة بتغير شروط كل مرحلة تاريخية محددة. أول هذه المقاربات تتجسد في كون بعض الكتابات جاءت تعبر عن مواقف جاهزة، بقدر ما أملتها حمولة إيديولوجية معينة، بقدر ما فرضتها حسابات سياسية تكتيكية وإستراتيجية، هدفها استثمار هذا الحدث لتمرير رؤى خاصة بفئات معينة، وكأنها رؤى تمثل إجماع المغاربة وتوافقهم منذ القدم. تفصح هذه المقاربة الجاهزة عن نفسها من خلال استثمار أحدهم لمحاولة الإفطار العلني في تناوله لمفهوم الحرية ( مقال "مفهوم الحرية" بجريدة أخبار اليوم، العدد 176، 24/09/2009) وفق منطلقاته الإيديولوجية، ووفق ما يرغب في تحقيقه من أهداف سياسية. لقد تعمد صاحبنا مناقشة مفهوم الحرية، في بعدها الفلسفي، بشكل غير موضوعي لما استعرض وجهة نظر جان لوك فقط، في محاولة انتقائية تتنافى وأواليات البحث العلمي، التي من المفترض أن يتحلى بها كل باحث نزيه، خصوصا إذا كان يمارس مهمته كأستاذ باحث في الجامعة. لماذا إذن لم يتطرق صاحبنا لمفهوم الحرية من وجهة نظر ماركسية، أو هيغلية أو من وجهة نظر ليبرالية أو قل عولمية؟....هل يخشى صاحبنا أن يكشف لقرائه ولجمهوره معان أخرى للحرية، هي بطبيعة الحال معان متعددة بتعدد المواقع الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية لمختلف مكونات الشعب؟..... لماذا لم يناقش صاحبنا مفهوم الحرية في علاقته بمفهوم الدولة وطبيعة أشكالها التاريخية؟ وهذا هو الأهم.... هل مفهوم الحرية معطى مجرد، أي طوباوي؟ أم أن الحرية في الواقع هي علاقة معقدة تربط الفرد بالمجتمع المدني الإنتاجي، وبالدولة باعتبارها كيانا سياسيا، منفصلا عن المجتمع المدني، ومتحكما فيه في نفس الوقت (خاصة في المرحلة الرأسمالية العولمية) من خلال سلطة مركزية هي التي تحدد مضامين الحرية وأبعادها، وفقا لما تمليه مصلحتها الطبقية في ديمومة السيطرة على ذلك المجتمع المدني الإنتاجي؟... وهل لمثل هذه العلاقة المعقدة مضمون ثابت مجرد أم أن لها محتوى متغير بحسب مستوى تطور المجتمعات (تقليدانية متأخرة أم عقلانية متقدمة)، وكذا بحسب الشكل التاريخي للدولة (ديمقراطية أم استبدادية)؟..... كيف يمكننا إذن أن نخوض في نقاش علمي رصين حول هذا موضوع الحرية - كما يدعو صاحبنا- ونحن لا زلنا متقوقعين في أحكام إيديولوجية سابقة لا تأخذ بعين الاعتبار مستجدات الواقع التاريخي الراهن وتداعياته عما يسمى ب"الخصوصية" و"الإجماع" وهلم جرا من مفاهيم تراثية سيأتي عليها التاريخ والعولمة لا محالة. ثاني هذه المقاربات حاولت ملامسة ما أقدم عليه شباب "مالي" بشكل ربما كان أكاديميا، لكنها ضلت –أي تلك المقاربة- رهنا بمجال تخصص أصحابها، فبقيت في رؤيتها لما حدث أسيرة حس سوسيولوجي عند البعض، وحس يكاد يكون قانونيا صرفا عند البعض الأخر(التركيز على الفصل 222 من القانون الجنائي). إلا أن هذه الكتابات، وان عبرت عن رؤى أكاديمية -سوسيولوجية وقانونية- فإنها لا تفي بالغرض المطلوب، حيث ضلت عاجزة عن مطابقة حيثيات وتداعيات ذلك الحدث مع اللحظة التاريخية الراهنة المولدة له، لما أهملت ربط ما جرى بالشرط التاريخي الخاص للمجتمع المغربي في المرحلة الراهنة، والذي هي شرط متميز من الشرط الكوني العولمي العام. أما الغرض المطلوب فهو محاولة إماطة اللثام، بشكل موضوعي جريء، عما يجري في بنية المجتمع المغربي من تحولات سيكولوجية وثقافية وقيمية وجيلية حاسمة منفلتة عن أي ضبط وتوجيه حزبي أو نقابي أو مدني، بحيث أن هذه التحولات باتت ذات أهمية تاريخية، لا يمكن بأي حال من الأحوال التقليل من شأنها بمثل هكذا رؤى أدلوجية، أي قانونية وسوسيولوجية. ما يعتمل بداخل بنى المجتمع المغربي لا يمكن الإحاطة به فقط من الناحية السوسيولوجية التي تعنى أساسا بالمجتمعات الانتقالية، اعتمادا على دراسات مقارنة قد لا تصلح للاستئناس في محاولة رصد دينامية المجتمعات الانتقالية في ضل الشروط التاريخية الراهنة، وبالتالي فان الاعتماد على تلك الدراسات المقارنة قد يجعلنا نخطأ الهدف المركزي الذي هو الإمساك بتلابيب تلك الدينامية في أفق توجيهها لصالح إرساء نوع من التعدد الثقافي والقيمي والديني، في إطار من الوحدة الوطنية الضامنة للحق في الاختلاف والتسامح وصيانة الحريات الفردية كاملة وغير ناقصة. إن أي نقاش لا يضع ما يجري اليوم في سياقه العولمي سيضل قاصرا عن الإمساك بحيثيات عديد من الظواهر المجتمعية التي يفرزها المجتمع المغربي، وان أية محاولة سوسيولوجية تعتمد تحليل ما يجري على ضوء تجارب المجتمعات الانتقالية لن تجدي نفعا. ذلك أن من حسن حظ تلك المجتمعات الانتقالية أنها أنجزت انتقالاتها قبل دخول العالم بأسره مرحلة العولمة التفكيكية، الشيء الذي مكنها من قدر لا بأس به من التماسك الوطني الذي مكنها من انجاز انتقالاتها من دون أن تفرز مخاطر كتلك التي تفرزها العولمة اليوم. ومن ثم فان أية مقاربة سوسيولوجية مقارنة صرفة لا تستحضر مستجدات العولمة لن يكون بإمكانها صبر أغوار ما يعتمل بالمجتمع المغربي، مما سيفوت لا محالة إمكانية طرح حلول مطابقة تستجيب لحاجات المجتمع المغربي في لحظته التاريخية الراهنة. نتفق مع السوسيولوجيين في كون المجتمع المغربي مجتمع مركب ويمر من مرحلة انتقالية، يتم فيها تفكيك وإعادة تركيب البنى والتنظيمات المجتمعية المؤطرة له، لكن ما نريد التأكيد عليه أن لكل مرحلة تاريخية شروطها. وشروط المرحلة العولمية الراهنة التي تصادف المرحلة الانتقالية للمجتمع المغربي، ليست هي شروط ما قبل هيمنة العولمة؛ فالمجتمع المغربي يعيش في هذه اللحظة التاريخية مرحلة انتقالية، لكن في سياق تشابك كوني فوق وطني غير مسبوق، ما فتئ يعمل على توحيد كل حاجيات وتطلعات وأهداف الإنسانية، في إطار قرية كونية صغيرة، لم يعد فيها مكان لتلك الحواجز الوطنية الكابحة والتي كانت، في فترات تاريخية سابقة، تعيق كل إمكانيات التواصل والتشابك بين الشعوب، والتوحد في الأهداف التقدمية الكبرى للإنسانية، بما تنطوي عليه من قيم الديمقراطية والعقلنة والحرية والعدالة الاجتماعية والتسامح الديني والثقافي. لذا أضحى التقدم في اتجاه اللحاق بالركب الحضاري الإنساني الكوني ضرورة حتمية وحاجة تاريخية ماسة، مما يعني أن مطلب إقرار الديمقراطية وصيانة الحريات الفردية أضحى حاجة ماسة لبناء جبهة داخلية متراصة لها كامل الحقوق المشروعة في الدفاع عن مصالحها الوطنية، في ضل تنامي توحد السوق العالمية، وبالتالي صيانة طموحاتها المشروعة في المساهمة، سياسيا وثقافيا واقتصاديا وإبداعيا، في تقدم الحضارة الإنسانية الكونية. ألا يجدر بنا اليوم أن نسأل أنفسنا هذا السؤال العريض المؤرق: ما حجم مساهمتنا في رسم ما يجري اليوم في العالم من تطورات مثيرة ومتسارعة؟... ماهي قدرتنا اليوم على الانخراط في المجهودات الكونية الرامية الى إيجاد الحلول المستعجلة للمشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والطبية والبيئية التي أفرزتها العولمة؟.... هل قدرنا هو انتظار أوروبا أو أمريكا الديمقراطيتين العقلانيتين حتى تكتشفا، مثلا، علاجا فعالا ضد أنفلونزا الخنازير ثم بعد ذلك يأتي دورنا الاستهلاكي فقط، فنقوم "نحن" آنذاك لنشتريه من دون أن نكلف أنفسنا عناء البحث في هذه الإشكالات المستجدة في عالم اليوم؟.... أم أن التاريخ والعولمة قد داهمانا ولم يتركا لنا فرصة التقدم وتدارك تأخرنا المزمن؟....يبدو أنه لم يعد لدينا ما نقدمه لا لأنفسنا ولا للإنسانية جمعاء سوى تحصين "جماعتنا المتعالية دائما على الأخر" ضد كل من سولت له نفسه أن يخرج عنها ليبحث لنفسه عن أفق عقلاني انساني كوني رحب. إن خطورة ما يجري ليس بالطبع في دينامية المجتمع، لأن تلك الدينامية مؤشر على سلامته وعافيته، بل إن الخطورة، كامل الخطورة، هي في تنامي انفصام تلك الدينامية المجتمعية عن البنية السياسية، وعن الأحزاب السياسية، خاصة اليسارية منها. في الماضي، كان الشباب يجد ضالته في الأحزاب السياسية الحاملة لقيم التغيير والتقدم والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، وكانت هناك نقاشات تجري بصدد العديد من القضايا المصيرية التي تهم جميع فئات المجتمع، وخاصة قضايا الشباب الأساسية. الآن انسلخت فئات اجتماعية عديدة عن الأحزاب السياسية، لأسباب عديدة لسنا في وارد مناقشتها في هذا المقال، وراحت تبحث لها عن فضاءات وتنظيمات مستقلة تطرح فيها قضاياها بكل حرية وجرأة وتفهم. أما تلك البنية السياسية التقليدانية المتهالكة فصارت منفصلة عن بنية المجتمع المدني بسبب من كون الأحزاب السياسية، وخاصة اليسارية التي من المفترض أن تحمل شعار الدفاع عن الديمقراطية، تخلت عن مشاريعها المجتمعية والسياسية لقاء اندماجها في مؤسسات الدولة من دون أن تعمل على دمقرطة وتحديث وعقلنة هذه المؤسسات. لذا فان أخطر ما قد ينجم عن حدث الإقدام على الإفطار العلني هو أن يتم تسخير لأحزاب السياسية، وخاصة اليسارية منها، من طرف السلطة، لإدانة سلوكيات أعضاء حركة "مالي"، من دون أن تلتقط تلك الأحزاب ذلك الحدث ووضعه في سياق تلك الدينامية المجتمعية التي تعتمل في رحم المجتمع المغربي، وتنخرط في نقاش عمومي يفضي الى تفهم حاجات وقيم ووجهات نظر أولئك الشباب وأيضا حقهم في حرية المعتقد. إن ما أقدمت عليه حركة "مالي" يضع مسؤولية تاريخية وسياسية جسيمة على كل القوى الديمقراطية واليسارية، بل إن ذلك الحدث قد يكون ضاعف من مسؤولياتها في ضرورة فتح أوراش فكرية في مواضيع لا يمكن أن تضل من الطابوهات، الى الأبد، من قبيل حرية المعتقد في إطار من فصل الدين عن الدولة، لأنه لا جدوى من الحديث عن الحريات الفردية في ضل غياب دولة عقلانية ديمقراطية تستمد فيها السلطة من الشعب الذي هو مصدر القرار. قد يفضي عدم طرح الأحزاب السياسية، وخاصة اليسارية، لأية مبادرة جريئة للخوض في نقاش هادئ حول مفهوم الحريات، قد يفضي ذلك الى كشف الممارسات الازدواجية الإيديولوجية لتلك الأحزاب. حينها ستتمظهر هذه الأخيرة بمظهر من يدافع عن سيادة دولة اوتوقراطية استبدادية لا ضمان فيها للحريات الفردية بما يمكن كل المواطنين من إبداء وجهات نظرهم بكل حرية ومسؤولية. كم بدا لي متهافتا تصرف أحد التيارات المحسوبة على اليسار "تيار المستقبل" لما ذهب في منحى مغاير لما كان يجب السير فيه في هذه النازلة. يبدو من ذلك أن بعض التيارات اليسارية لا زالت تغرف من مفاهيم تقليدانية من قبيل "الجماعة" و"الثوابت" و"مشاعر" المغاربة. إن من علامات التأخر التاريخي الذي نعانيه كمجتمع وكدولة هو ما نحن بصدد منقاشته اليوم. فلنعمل إذن على فتح نقاش بدون شروط مسبقة، وبدون تخوين أحد حتى نتمكن من انجاز ميثاق ديمقراطي عقلاني يضمن الحق في الاختلاف، ويقطع مع مقولة "استفزاز مشاعر المغاربة"، لأن هذه المقولة بعيدة كل البعد عن العقلانية. إن من هم مؤمنون حقا ويصومون عن قناعة إيمانية صلبة، مثل من هم غير مقتنعين بالصيام عن قناعة أو لأسباب أخرى، لا أظن أنهم سيستفزون لمجرد رؤية الأخر يمارس طقوسه، إلا إذا كان في الأمر تدخلا وإرغاما للفرد على ممارسة ما لا يعتقد فيه، هنا يمكن الحديث عن الاستفزاز. أما في حالة احترام كل واحد لقناعات الأخر، فلا أظن أن في هذا الأمر استفزازا. حاولت عبثا ولم استطع أن أفهم نفاق وازدواجية بعض من أولئك المنضوون تحت لواء "الجماعة"؛ فهؤلاء الذين يستفزهم أن يفطر أحد أمام أعينهم بدعوى تمرده على "قوانين الجماعة"، هم أنفسهم لا يفوتون أية فرصة في الدول الأوروبية الديمقراطية للتنديد ب "المضايقات" التي يتعرضون لها وهم يلبسون الحجاب والبرقع. والحال هذه، ف "الجماعة" مطالبة، حتى تتسق مع نفسها، بحسم موقفها وعدم الكيل بمكيالين، حتى إذا أرادت أن تعاقب كل من يخرج عليها ويفسد عليها أعرافها وتقاليدها التقليدانية، فهي مطالبة، أخلاقيا ووفق نفس المعايير القيمية، بعدم دعم من يخرجون عن القوانين الجاري بها العمل في الدول العقلانية الديمقراطية الحديثة حيث يقيمون في أوروبا. إن قيم الحداثة والعقلانية والديمقراطية، التي تقضي باحترام الحريات الفردية والتي تعارضها "الجماعة" في بلادنا، هي القيم نفسها التي تتيح لأصحاب "الجماعة" ممارسة قناعاتهم ومعتقداتهم بكل حرية في البلدان الأوروبية حيث يقيمون، لكن طبعا في ضل احترام ثوابت تلك البلدان، وهي ثوابت توافقت عليها شعوب تلك الدول بعد حروب طويلة، وبعد تضحيات جسام أفضت في أخر المطاف الى تحقيق ثورات سياسية واجتماعية وثقافية ما أحوج مجتمعاتنا المتأخرة إليها اليوم ألم تفهم "الجماعة" إذن أن ارتداء البرقع في الدولة الفرنسية، مثلا، يتعارض مع ثوابت وأسس الدولة الفرنسية، ومع ما توافق عليه الفرنسيون، بشكل ديمقراطي، وليس بفرض أمر الواقع كما هو الحال عندنا. لذا فان "الجماعة" بقدر ما تكره من يخرج عن إجماعها ويخرق ثوابتها، بقدر ما هي مطالبة باحترام ثوابت الآخر ووضع حد لنفاقها الاجتماعي والديني، على الأقل مع "الأخر". أما في بلادنا، فان المعركة التاريخية في سبيل تحقيق التقدم والحداثة والعقلانية، فلا زالت طويلة الأمد وتتطلب تضحيات كل الديمقراطيين والعقلانيين، غير أن تلك المعركة تبقى مفتوحة على كل الاحتمالات بما فيها احتمال الارتداد الى الوراء بسبب من مناهضة بعض القوى المحافضة لكل مظاهر التقدم.