إن ذيوع الكلمة أو المصطلح في مجتمع ما، ناتج عن الإحساس و الشعور بما تلبيه تلك الكلمة من سد لفراغ لغوي له صلة بالحياة اللسانية القيمية أو الاجتماعية أو السياسية..، وفي الآن نفسه هذا الذيوع يعبر عن إعلان لميلاد مفهوم جديد اتخذ من مصطلح ما ميسما يؤشر على ذات المفهوم، و يشبه رواج المصطلح برواج السلعة في السوق، فالمصطلحات يرمى بها في سوق الرواج اللغوي فمنها من يكتب لها التداول على ألسنة الناس لحاجتهم في أنفسهم و منها من يكتب لها الكساد، فعلى قدر الطلب يحظى المصطلح بنسبة معينة من الرواج، وقد تكون البضاعة المصطلحية من إنتاجه أو من إنتاج غيره، و إن كانت من إنتاجه قد يسوقها محليا أو خارج حوضه اللغوي، وإن لم تكن فمستوردها ثم مستهلكها كيفما أراد، إما بتبيئتها مفاهميا أو دون ذلك، ثم يتواطؤ المجتمع على مفهوم مصطلح ما و موقعه من منظومة مفاهيم حقل تداولي معين، فالمجتمع هو من يقرر في اختياراته المصطلحية المعبرة عن انحيازاته المفاهيمية المتشكلة من تصوراته الذهنية إثر احتكاكه اليومي مع مجمل مجالات الحياة. "" وفي الواقع المعاصر تشتد المنافسة في "سوق الاصطلاح" على شتى الميادين و الأصعدة، سواء أكانت المنافسة بين أبناء البلد الواحد أو بين أبناء البلد الأصلي و البلد المنفتح عليه ثقافيا و حضاريا، إلا أن هذا الانفتاح يتحول إلى تسلط و إكراه ينتج عنه احتلال لمساحات اصطلاحية توطنت على أرضها مصطلحات لقيطة غير شرعية، حتى أصبح تضمين الكلام بالمصطلحات الأم جريمة أو نكوصا عن طور المدنية و التحديث، بل هناك من صدق هذه الحيلة وابتغى اللحاق بوهم التحضر و التقدم ظنا منه أنه سيعيش اللحظة الحضارية في أوج عطائها، و الحق أنه لا يعيش زمن الحرية و المدنية إلا على بساط الكلمات و الحروف، و أما ما يحلم به من تغيير في واقعه المعيش فبعيد بعد المشرق عن المغرب، لأن تزيين الكلام بالمصطلحات الوافدة من مثل " الديمقراطية ، الحداثة ، الحرية الفردية.." ما هو إلا عيش في اللحظة التاريخية للآخر بمفاهيمه و مرجعيته ، و أما المراهنة على التغيير الاجتماعي و السياسي و القيمي و الثقافي، بهذه المسلكيات اللغوية، كمن يشبه شخصا مريضا يجلس في غرفته يئن، و عندما يأتيه الناس لعيادته يرخي العنان للسانه فيتحدث عن أنواع الأدوية التي تملأ رفوف الصيدليات المناسبة للأمراض و للأسقام، طامعا و لو في الإحساس بالطمأنينة اللغوية، و فتح كوة أمل قد يفيد منها في المستقبل القادم، لكن شفاء الأسقام عصية عن هكذا دواء يتمركز على المصطلحات الرنانة و اللغة المنمقة، فسبيل العلاج إنما دربه الجهد و البحث و المعاناة و الصبر ومواكبة لحظات الزمن القاسية ، وبهذا الفعل الحركي الفعال يصنع كل مجتمع لغته و مصطلحاته الحبلى بمشاعره وأحاسيسه و أفكاره و مفاهيمه، فلا يكون التغيير ظاهرة صوتية تشغل الألسنة و تقرع طبول الآذان، و المتأمل في المصصلحات الحضارية التي تنحاز إلى المنهجية المعرفية الإسلامية في حقبة تاريخية ما، يجدها سلسلة عقد منظوم، و كل عقد يسلمك لآخر، وفيها الأصل و الفرع و فرع الفرع، ممزوجة بالوجدان و القيم و الثقافة و الحضارة، و لذلك العرب تميز بين اللغة و اللسان، فابن منظور سمى مؤلفه بلسان العرب لما يحتويه من قيم دينية و ثقافية و تربوية .. وعلى هذا الأساس؛ فاستهلاك مصطلحات أجنبية عن العقل العربي الإسلامي ، ليس استهلاكا لحروف صوتية بل هو اندماج في منظومة الآخر و مرجعيته المفهومية المشكلة من رؤيته للكون و الغيب و الإنسان، فمصطلحات مذاهبه الفكرية و الاجتماعية ليس قطعا مفككة متناثرة لا رابط بينها، فأن تقول بالديمقراطية تأتي بعدها العلمانية و بعدها الحرية الفردية و السلسلة ملأى بالعقد الذي يدور في فلك الليبيرالية ، و هناك من يتساءل: لماذا رفض الحرية الفردية التي هي أخت الديمقراطية، أليس لهما أسرة واحدة وهي الليبيرالية؟ !، وهذا التساؤل له وجاهته من حيث أن هذه المصطلحات تنتمي إلى منظومة مفاهيمية و احدة، بغض النظر عن صوابية هذا المذهب في المجال الحضاري العربي الإسلامي، و طبيعي أن يكون هذا الانتقاء المضطرب، لسبب يتعلق بعدم وضوح المرجعية المعرفية المنطلق منها، فتصبح الدولة مسلمة و تمسي علمانية، إضافة إلى النخبة الثقافية و العلمية القائدة غير آبهة بحركية المجتمع و تناقضاته و مولية وجهها شطر صاحب السلطة أو هاربة إلى ضفاف ثقافية تعيش أزمنة بشروطها التاريخية و الحضارية، و ليس لهذه النخب سوى حطب المصطلحات و الرمي بها في بلدانها مشعلين نيران معارك وهمية لا صلة لها بالواقع المعيش، ظنا منهم أن اللغة تصنع تغيير دون أن يفهموا أن التغيير عملية مركبة معقدة يصنعها المجتمع وفق شروط تاريخية و سياقات حضارية، و بهذا ينتج المجتمع لغة التغيير و لا يقوم بإنتاج تغيير اللغة. إن بضاعة سوق اللغة الحرة في زمن العولمة، هي بضاعة غير مرئية، و لذلك لا نكاد نرى علامات الدهشة و الحيرة ترتسم على وجوه الناس كما هو الشأن حين مشاهدة أساطيل السلع المادية الوافدة على بلد ما، لإغراقه في دوامة الاستهلاك و التواكل و الكسل الحضاري و إبعاده عن إنتاج مستلزمات العيش الضرورية منها و الكمالية، فكما أن هذه السلع المادية تدل على ثقافة منتجها، فإن أي مصطلح وافد يشكل الهوية الحضارية و الوجودية لأي أمة من الأمم، و الأساس المتين لكيانها السياسي و الثقافي الذي بدونه تقوم خاوية على عروشها و إن أسرت الناظرين واجهاتها.. [email protected]