في حي "الكيلومتر 5" في مدينة بانغي، عاصمة أفريقيا الوسطى، يعيش المسلمون في شبه عزلة، فخيار كسر حصار الرعب الذي تفرضه ميلشيات "أنتِ بالاكا" المسيحية، لا يبدو حلاّ مناسبًا لأن نتيجته هي الموت بلا ريب، بحسب مواطنين بالحي التقتهم الأناضول. وسط أجواء مشحونة بالتوتّر والرعب خوفًا من هجوم محتمل لعناصر "أنت بالاكا"، شرع، سكان الحي، يوم الأحد المنصرم، في الإعداد لصلاة الجنازة ومراسم دفن حارس الأمن "أباكار ماهمادو" الذي لقي حتفه برصاص مسلحي "أنت بالاكا" المسيحية، مساء الجمعة الماضي بالإضافة إلى خمسة آخرين. إلا أن مقتل حارس الأمن بدا أشبه بمشهد مقتطف من إحدى روايات الرعب؛ حيث سحل الرجل على يد عناصر "أنت بالاكا" قبل أن يقوموا بتمزيق أوصاله إلى قطع صغيرة، بحسب مراسل الأناضول. وقعت الحادثة عندما كان الضحية بصدد التوجه لأداء عمله كحارس ليلي في أحد المتاجر بالدائرة الخامسة من العاصمة، فهاجمته عناصر الميليشيا المسيحية وحاصرته بإطلاق الرصاص، لكنه تمكّن من الإفلات والاختباء في إحدى الزوايا، وهو ما مكّنه من الاتّصال بصاحب المتجر إلا أنهم تمكنوا منه وقضوا عليه. وفي حديث للأناضول حول تفاصيل الحادث، قال صاحب المتجر، الذي تعرّض حارسه إلى القتل والتشويه "إيسيني موسى": "حاولت الاتّصال بالجنود البورونديين التابعين لقوات حفظ السلام الأفريقية (ميسكا)، الذين يتكفّلون بحماية الحيّ، لكنّني لم أتمكّن من ذلك، وهو ما دفعني إلى الذهاب إليهم، وحين أرسلوا وحدة من الجنود إلى مكان الحادثة، كان الوقت متأخّرا، إذ لقي الحارس حتفه". موسى الذي يعد آخر مسلمي حيّ "كاتين" المجاور لحيّ "الكيلومتر 5"، أضاف: لقد رافقني الجنود البورونديون إلى محلّ إقامتي لأجمع أغراضي، وأغلقت منزلي ولذت بحي "الكيلومتر 5". ومضى قائلا: منذ أكثر من شهرين، بدا الوضع أكثر استقرارا، لذا أردت البقاء بمنزلي، لكن الأمور تدهورت في الوقت الراهن وأشعر بعدم الأمان، مضيفا: لقد كنت آخر مسلمي حي (كاتين). وصباح الأحد، انضمت جثة حارس الأمن إلى جثة مواطن لقى مصرعه الثلاثاء الماضي، بالإضافة إلى 4 آخرين قتلوا، الجمعة الماضي، وهم في طريق العودة من مطار بانغي على متن سيارة تابعة لأمن المطار على يد ميليشيات "أنت بالاكا" داخل إحدى غرف مسجد "علي بابورو" بالحي. الحرارة تجاوزت ال 35 درجة، وروائح الجثث المتعفّنة داخل الأكياس البيضاء المكدّسة خلف ستار قاتم كانت فوق مستوى الاحتمال. في تلك الأثناء، كان عمدة الدائرة "آتاهيرو بالا دودو" بصدد البحث عن قطعة أرض بغرض استخدامها كمقبرة جماعية لهم، وفي انتظار الحصول عليها، تم منح عائلة "أباكار ماهمادو" ترخيص دفنه في ساحة منزله. بعد صلاة الظهر، تجمّع المسلمون لأداء الصلاة في الغرفة التي تجمّعت فيها بقايا الجثث، فيما حاول إمام الجامع جاهدًا تطهير الأجواء المتعفنة عبر استخدام عدد من القوارير المزيلة للروائح، إلاّ أنّ جهوده تلك لم تفلح في تطهير الغرفة، وهو ما دفع المصلين إلى وضع المناديل الورقية على أنوفهم. وبعد انتهاء الصلاة، وضع النعش على عربة لحمله إلى محلّ إقامته، برفقة موكب يتألف من عشرين شخصًا. ومن جانبه، عقّب "مامادو بابا دودو"، أحد الشباب الحاضرين بالمسجد: "إذا كان الحلّ يكمن في تقسيم البلاد، فنحن جاهزون لذلك، وهذا أفضل من قتلنا على هذه الشاكلة الرهيبة". وفي الطريق إلى منزل حارس الأمن، التقى الجمع بشاحنات كانت رابضة على جانبيه، محمّلة بأمتعة المسلمين الفارّين نحو الكاميرون عبر قوافل خاضعة لحراسة بعثة قوات حفظ السلام الأفريقية "ميسكا"، ولدى وصول ركب الميت إلى منزله، امتدّت أيادي بعض المتواجدين لإخراج جثته من التابوت ليدفن بسرعة وسط حالة من الخوف من المواطنين. وتساءل مهندس الكهرباء والميكانيكا، عمر عثمان، الذي يعيش بالحي: "أيّ مستقبل ننتظر؟!.. نحن نريد العيش هنا، لكنّ بطش "أنت بالاكا" يضعنا في خيار صعب بين الوطن وبين الحياة". ووفقًا لمراقبين، فإنّ تجدّد أعمال العنف في بانغي خلال الأيام الأخيرة مثير للقلق، ويجعل من فرضية المصالحة بين المسلمين والمسيحيين أمرًا صعب المنال في الوقت الراهن. ويواصل المسلمون الفرار من منازلهم في بانغي عاصمة أفريقيا الوسطى، ومختلف أنحاء البلاد إثر تصاعد الهجمات الطائفية، حيث زاد استهدف الأقلية المسلمة منذ تنصيب كاثرين سامبا بانزا المسيحية، رئيسة مؤقتة جديدة للبلاد شهر فبراير/ شباط الماضي، خلفًا لميشال دجوتوديا، أول رئيس مسلم للبلاد منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960، الذي استقال من منصبه بفعل ضغوط دولية وإقليمية. وفى أبريل من العام الماضي، أعلن المجلس الوطني الانتقالي في أفريقيا الوسطى، اختيار دجوتوديا، رئيسًا مؤقتًا للبلاد، وأعلن الأخير أنه سيسلم السلطة في العام 2016 أي بعد فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات. وجاء اختيار دجوتوديا رئيسا مؤقتا للبلاد بعد شهر واحد من إطاحة مسلحي مجموعة "سيليكا" المسلمة بالرئيس السابق فرانسوا بوزيز، وهو مسيحي جاء إلى السلطة عبر انقلاب عام 2003. وبعد تنصيب زعيم ميليشيات "سيليكا"، ميشال دجوتوديا، رئيسا للبلاد، واصلت فلول "سيليكا" شن غاراتها على أجزاء واسعة من البلاد، في ظل ارتكاب جرائم قتل ونهب بحق ذوي الأغلبية المسيحية، الذين لجأوا بدورهم إلى العنف، ما أفضى إلى تصاعد التوترات الطائفية. وتطور الأمر إلى اشتباكات طائفية بين سكان مسلمين ومسيحيين، شارك فيها مسلحو "سيليكا" و"أنت بالاكا"، وأسفرت عن مقتل المئات، وفقا لتقديرات وكالة الأممالمتحدة لشؤون اللاجئين. يشار إلى أن حي الكيلو متر 5، أصبح منطقة مغلقة، تقبع تحت حماية قوات بوروندية، من قوات (ميسكا)، وهو يعد المعقل الأخير الذي يقطنه المسلمون في العاصمة، بعد الانتهاكات التي تعرضوا لها على يد ميليشيات (أنت بالاكا) ذات الأغلبية المسيحية، ومن بين 110 ألف شخص كانوا يقطنون المنطقة، لم يتبق سوى 15 ألف شخص فقط. *وكالة أنباء الأناضول