يُعَدّ فشل الخطاب الفلسفي العربي قضية معقدة تتداخل فيها عوامل تاريخية وثقافية وسياسية، مما جعله عاجزًا عن التأثير العميق في المجتمعات العربية. فقد ظل الفكر الفلسفي في العالم العربي محصورًا بين سلطة الدين والسياسة، حيث خضع لمراقبة صارمة حالت دون تطوره الطبيعي. ومع أن الفلسفة الإسلامية شهدت ازدهارًا في العصور الوسطى بفضل أعلام مثل الفارابي وابن رشد وابن سينا، إلا أن هذا الإرث لم يستمر بشكل نقدي أو تراكمي، بل واجه إما تهميشًا متعمدًا أو تعاملًا معه بروح تقديسية حالت دون إعادة قراءته وإثرائه في سياق معاصر. إلى جانب ذلك، عانى الفكر الفلسفي العربي من التبعية للغرب، حيث انشغل العديد من المفكرين باستيراد النظريات الفلسفية الغربية دون السعي إلى تكييفها مع الواقع العربي، ما جعلها تبدو كأنها مقولات معزولة عن السياق الاجتماعي والثقافي المحلي. ولم يكن غياب الأصالة هو العائق الوحيد، بل ساهمت البيئة السياسية والاجتماعية في إقصاء الفكر النقدي، إذ أن الفلسفة لا تزدهر إلا في مناخ من الحرية والانفتاح، وهو ما لم يتوفر في معظم الدول العربية التي تفرض قيودًا على التفكير النقدي. عانى الفكر الفلسفي العربي في العصر الحديث من حالة من التبعية للفكر الغربي، حيث انشغل الكثير من المفكرين العرب بنقل النظريات الفلسفية الغربية دون العمل على تفكيكها أو إعادة صياغتها بما يتناسب مع السياقات المحلية. هذه التبعية لم تكن مجرد انفتاح على الفكر الغربي والاستفادة منه، بل تحولت في كثير من الأحيان إلى استنساخ كامل للمقولات والمفاهيم دون مراعاة الفروق الجوهرية بين المجتمعات الغربية والمجتمع العربي. ونتيجة لذلك، بدت الفلسفة في العالم العربي وكأنها انعكاس لما يحدث في الغرب أكثر من كونها استجابة لمشكلات الواقع المحلي، مما جعلها تفقد أهميتها في أعين كثير من الناس الذين لم يجدوا فيها إجابات للأسئلة التي يواجهونها في حياتهم اليومية. لم يكن الإشكال في التفاعل مع الفلسفة الغربية بحد ذاته، فالتلاقح الفكري بين الثقافات ضروري ومثمر، لكن المشكلة الحقيقية تمثلت في غياب الجهد الفلسفي العربي القادر على إعادة صياغة هذه الأفكار ضمن سياق خاص يراعي الخصوصيات الاجتماعية والتاريخية والسياسية للمنطقة. في المقابل، نجد أن الفلسفة الغربية نفسها لم تتطور إلا من خلال الانخراط في نقد ذاتي مستمر، فلم يكن المفكرون الأوروبيون مجرد نَقَلةٍ للأفكار السابقة، بل أعادوا تفكيكها وبنوا عليها رؤى جديدة تعكس واقعهم المتغير. أما في العالم العربي، فقد بقي الفكر الفلسفي في كثير من الأحيان مجرد مرآة لما يحدث في الغرب، دون أن يكون له طابع مستقل قادر على إنتاج مفاهيم جديدة أو تقديم قراءات نقدية للأوضاع الفكرية والسياسية والاجتماعية المحلية. إلى جانب هذه التبعية الفكرية، ساهمت البيئة السياسية والاجتماعية في إقصاء الفكر النقدي، إذ أن الفلسفة لا يمكن أن تزدهر إلا في مناخ من الحرية والانفتاح، وهو ما لم يكن متاحًا في معظم الدول العربية التي ظلت تعاني من أنظمة سلطوية تفرض قيودًا مشددة على التفكير النقدي. فالسلطات السياسية غالبًا ما نظرت إلى الفلسفة بعين الريبة، لأنها بطبيعتها تقوم على طرح الأسئلة الجذرية وإعادة النظر في المسلّمات، وهو أمر يتعارض مع المصالح القائمة التي تستفيد من استمرار الأوضاع كما هي دون مساءلة أو تغيير. كما أن المؤسسات الدينية التقليدية، التي لعبت دورًا رئيسيًا في تشكيل الوعي العام، غالبًا ما نظرت إلى الفلسفة بوصفها تهديدًا للعقيدة أو للنظام الاجتماعي، مما جعلها تحارب انتشارها أو تحاول تطويعها ضمن أطر محددة تحدّ من قدرتها على تقديم رؤى جديدة ومختلفة. هذا التضييق على الفكر الفلسفي جعل الفلاسفة العرب يعملون في بيئة غير مشجعة، حيث لم تكن هناك مساحة حقيقية للنقاش الحر أو للنقد العلني، مما أدى إلى ضعف الإنتاج الفلسفي الأصيل، سواء في مضمونه أو في تأثيره. وبدلًا من أن تكون الفلسفة وسيلة لتحليل الواقع وتقديم حلول للمشكلات المعقدة التي تواجه المجتمعات العربية، أصبحت نشاطًا أكاديميًا معزولًا عن الحياة العامة، يمارسه أفراد قلائل داخل الجامعات، دون أن يكون له امتداد في الثقافة العامة أو في الحوارات السياسية والاجتماعية الكبرى. إن التحدي الأكبر الذي يواجه الفلسفة العربية اليوم لا يكمن فقط في التخلص من التبعية للغرب، بل في القدرة على إنتاج فلسفة محلية تستمد عناصرها من الواقع العربي، دون أن تكون معزولة عن الفكر العالمي. وهذا يتطلب بيئة فكرية أكثر انفتاحًا، حيث يكون للفلاسفة حرية حقيقية في طرح أفكارهم دون خوف من القمع أو الإقصاء، كما يتطلب جهدًا فكريًا لإعادة قراءة التراث الفلسفي الإسلامي والعالمي بطريقة نقدية، بدلاً من التعامل معه إما بالتقديس الأعمى أو بالرفض القاطع. فالفلسفة لا تزدهر في ظل الانغلاق، بل تحتاج إلى فضاء مفتوح يسمح بالنقاش الحر، وهو ما لا يزال يشكل تحديًا كبيرًا في كثير من الدول العربية التي لم تدرك بعد الدور الحيوي للفلسفة في بناء مجتمعات أكثر وعيًا واستنارة. ولعل أحد العوامل التي زادت من ضعف الخطاب الفلسفي هو التهميش الذي لحق بالفلسفة داخل المنظومات التعليمية، حيث أُقصيت لصالح مناهج علمية أو دينية لا تركز على تنمية التفكير النقدي والتحليلي. وأدى هذا التهميش إلى عزلة الفلسفة عن الفضاء العام، فباتت نخبوية لا تمتد تأثيراتها إلى المجتمع الواسع. كما أن كثيرًا من المشاريع الفلسفية بقيت نظرية محضة، ولم تتصل بالواقع المعاش، مما أفقدها دورها الحيوي في معالجة قضايا المجتمع العربي. أحد العوامل التي أسهمت في إضعاف الخطاب الفلسفي العربي هو التهميش المتعمد الذي تعرضت له الفلسفة داخل الأنظمة التعليمية، حيث تم تقليص حضورها بشكل كبير لصالح مناهج علمية وتقنية تركز على الجانب النفعي، أو لصالح مناهج دينية تكرّس رؤية تقليدية للعالم لا تتيح مساحة كافية للتساؤل والنقد. ونتيجة لهذا التوجه، نشأت أجيال كاملة لم تتلقَّ أي تدريب على التفكير الفلسفي، ولم تتعرف إلى تاريخ الفلسفة أو أهميتها، مما جعل الفلسفة تبدو وكأنها اختصاص نخبوي لا صلة له بالحياة اليومية. وقد أدى هذا الإقصاء إلى تعزيز نزعة براغماتية في المجتمعات العربية ترى في الفلسفة ترفًا فكريًا لا جدوى منه، في حين يُنظر إلى العلوم التطبيقية على أنها المسار الوحيد للتقدم والتنمية، متجاهلين أن الفلسفة هي التي تشكل الإطار النظري الذي يسمح بفهم العلوم وتطويرها بطريقة نقدية ومنهجية. هذا التهميش لم يكن مجرد نتيجة لإهمال غير مقصود، بل كان في كثير من الأحيان سياسة ممنهجة من قبل الأنظمة السياسية التي رأت في الفلسفة تهديدًا لاستقرارها، خاصة وأن الفلسفة بطبيعتها تقوم على التساؤل والنقد والتشكيك في المسلمات، وهي أمور قد تقود إلى مساءلة شرعية السلطة والنظام الاجتماعي السائد. لذلك، لم يكن غياب الفلسفة عن المدارس والجامعات مجرد خلل في المناهج، بل كان انعكاسًا لمنظومة سياسية وثقافية أوسع تهدف إلى تقييد حرية التفكير، مما جعل الخطاب الفلسفي يظل محصورًا في أوساط أكاديمية ضيقة، دون أن يتمكن من التأثير الفعلي في تشكيل الوعي العام. ونتيجة لهذا الإقصاء، أصبحت الفلسفة تُمارَس في الغالب ضمن دوائر أكاديمية معزولة عن القضايا اليومية التي تشغل المجتمع، فبقيت المشاريع الفلسفية في كثير من الأحيان نظرية بحتة لا تتصل مباشرة بمشكلات الواقع العربي. وبينما لعبت الفلسفة في العالم الغربي دورًا محوريًا في تحليل وتفسير وتحفيز التحولات السياسية والاجتماعية الكبرى، ظل الفكر الفلسفي العربي عاجزًا عن الاندماج في النقاشات العامة حول قضايا مثل الحرية، والعدالة، وحقوق الإنسان، والحداثة. وأدى هذا العزل إلى تكريس صورة نمطية عن الفلسفة باعتبارها نشاطًا ذهنيًا مجردًا لا طائل منه، في حين أن الفلسفة الحية هي تلك التي تتفاعل مع الواقع، وتساهم في تطوير تصورات نقدية تتيح للمجتمعات فهم نفسها بشكل أعمق، والتعامل مع تحدياتها بطرق أكثر وعيًا واتزانًا. إضافة إلى ذلك، فإن غياب الفلسفة عن النظام التعليمي لم يؤدِّ فقط إلى إضعاف الخطاب الفلسفي نفسه، بل تسبب أيضًا في انتشار أنماط تفكير غير نقدية تقوم على التلقين والامتثال بدل التساؤل والاستدلال. وهذا أثر بشكل سلبي على مختلف المجالات، من السياسة إلى الإعلام، ومن الدين إلى الثقافة، حيث أصبحت الساحة الفكرية تفتقر إلى أدوات التحليل العميق، وأصبح من السهل انتشار الخطابات الشعبوية التي تعتمد على العواطف والمسلّمات غير المدروسة بدلًا من النقاش العقلاني المدعم بالحجج. إن استعادة الفلسفة لمكانتها داخل المنظومة التعليمية ليس مجرد مسألة أكاديمية، بل هو شرط أساسي لإنتاج جيل قادر على التفكير النقدي، والتعامل مع القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية بطريقة عقلانية. فالمجتمعات التي تُقصي الفلسفة من مناهجها التعليمية تحكم على نفسها بالبقاء في دوائر من الجمود الفكري، حيث تتكرر الأخطاء نفسها دون أي مراجعة حقيقية، وتظل الأفكار المهيمنة سائدة دون أن تخضع للتمحيص والتطوير. وبالتالي، فإن إعادة الاعتبار للفلسفة لا تعني فقط تطوير المناهج الدراسية، بل تعني أيضًا إعادة إدماج الفكر الفلسفي في الحياة العامة، حتى يصبح جزءًا من النقاشات الاجتماعية والسياسية والثقافية، بدلاً من أن يظل محصورًا في الكتب الأكاديمية والمقالات النظرية التي لا تصل إلى عامة الناس. ومع ذلك، يبقى السؤال مطروحًا: هل يمكن تجاوز هذا الفشل؟ ربما يكمن الحل في استعادة الفلسفة لدورها النقدي، ودمجها في التعليم بشكل يرسخ التفكير العقلاني، مع تحقيق توازن بين التراث والمعاصرة، وتحرير الفكر الفلسفي من القيود التي أعاقت تطوره. إن إحياء الفلسفة في العالم العربي يتطلب شجاعة فكرية ومناخًا يسمح بالنقاش الحر، وإرادة حقيقية لتجاوز المعوقات التي كبّلت الخطاب الفلسفي لعقود طويلة