إن المسلك التيمي والجوزي وكذا الوهابي في عدم فتحه باب الاعذار او الإحالة لما هو صريح وصحيح في مقابل ما هو مبهم ومشكل لدى الآخر كما بينا وسلكنا في موقفنا من ابن تيمية -وغيره من العلماء- وخاصة حول قضايا الوجود والعقيدة كمسألة قدم العالم ونفيه عن معتقد ه، قد أدخل الكثير ممن تأثروا به في بطالة فكرية وإقصاءات متعمدة لمذهب الآخر ورأيه حتى ولو كان أصوب من رأيهم واقرب إلى الحق من دعاويهم. "" 1- وكمثال واقعي وصادق على ما اقوله أني أذكر حوادث وقعت لي شخصيا مع نماذج من هؤلاء المتسلفة الصغار في زماننا هذا تبين مدى البطالة الفكرية التي أغرقوا فيها حتى أصبحوا سخرية في المجتمع وعلما على الخطر المهدد لحرية الفكر الرصين في الأمة، ومدى الاضطهاد الذي عانى منه العلماء من طرف أسلاف المتسلفة حينما أخذوا بزمام السلطة وأصبح مذهبهم مقررا على مستوى الدولة والحكم في عصور الاختلال والانحدار السياسي والعلمي للأمة، وخاصة بعد مرحلة المأمون والمعتصم، ثم عند وبعد مرحلة غزو الماغول والتتر، وأيضا حين اختلال الخلافة العثمانية وظهور الدولة السعودية الأولى النجدية بالدرعية ثم العهد الثاني لها وظهور تيار الإخوان البدو بالجزيرة العربية. إذ من بين هذه الحوادث أذكر أنني لما ناقشت أطروحتي العلمية لنيل دكتوراه الدولة بعنوان "معرفة النفس وتقويمها في الفكر الإسلامي" ثارت ثائرة المتسلفة المتسلقة وانفتحت أبواقها في المنابر للطعن في الأطروحة وتقويلي ما لم اقله عند التقرير أو حتى داخل الدراسة ككل، وذلك بزعمهم أني تناولت قضايا تمس العقيدة في فهمهم المتحجر والضيق، كما تدعو إلى البدع حسب توهمهم وسفاهتهم وما إلى ذلك مما هو معروف عند مثل هؤلاء السخفاء من الإسقاطات والافتراءات. غير أنهم هذه المرة وعلى عكس ما كان أسلافهم يفترونه في حق ابن عربي أو الشعراني وغيرهما قد وقعوا في مصيدة الآلات والاختراعات العصرية بإثباتاتها التي تدحض أكاذيبهم وافتراءاتهم وذلك من خلال التسجيل الحي للمناقشة على جهاز الفيديو والأشرطة المسجلة، بالإضافة إلى أني كنت قد نشرت التقرير في جريدة وطنية واسعة الانتشار وهي جريدة العلم تحديدا، بحيث لم يجد أي اعتراض أو طعن من طرف القراء والمتخصصين في علوم العقيدة والشريعة، كما أن مطبوع الأطروحة يوجد بالمكتبة العامة للكلية التي ناقشت فيها أطروحتي... ومع كل هذا أبى المتنطعون، بلحاهم المسدلة بغير تحديد ولا تهذيب ،والجمداء مع حسد في أنفسهم إلا أن يثيروا البلابل والفتن على نفس الشاكلة التي يشعلونها في باب السياسة والحكم وقضايا المجتمع ككل، هذا إذا علمنا أن المروجين لهذه الافتراءات لم يكونوا حاضرين بالمرة في جلسة المناقشة وإنما أخذوا الخبر بالواسطة البليدة والواشية بغير حق أو علم، فوقعوا في شر نواياهم وافتضح بذلك أمرهم وسوء أخلاقهم وبالتالي قمة بطالتهم الفكرية. أما النموذج الثاني فهو المتعلق بطبع الكتب ونشرها، إذ سبق وقمت بطبع كتاب "الطريقة القادرية البودشيشية: شيخ ومنهج تربية" في إحدى المطابع بالدار البيضاء، وهي تنتمي إلى بعض المتسلفين من نماذج الوهابية والجماعات الإسلامية المقلدة تقليدا ضيقا للتيمية والجوزية، فما أن اطلع عليه بعضهم حتى أصدروا أوامرهم إلى صاحب المطبعة الذي يبدو أنه أمي إلى حد ما، بأن لا يطبع هذا الكتاب من جديد بالمرة، فلما تساءلت عن السبب قال لي: أن فيه أقوالا تخالف العقيدة بالمفهوم المتسلف، فلما سألت صاحب المطبعة عن نموذج هذه المخالفة قال لي إنك تقول في الكتاب بأن من نظر في وجه الشيخ غفر له، فلما رجعت إلى هذه الفقرة للمراجعة وجدت النص الذي وقف عنده المتسلفة بفهمهم الإسقاطي والمهوس هو: "اللهم اجعل كل من نظر إلينا أو سمع بنا يربح". فمن جهة نقلوا النص محرفا ومن أخرى اسقطوا عليه مفهومهم الضيق، ونصبوا أنفسهم حراسا للعقيدة بزعمهم رغم جهلهم وجمود فكرهم عن الفهم الصحيح للنصوص والخطابات العلمية. ومن المبكي المضحك أني عرضت كموزع شخصي كتابي المتواضع "البعد التوحيدي للذكر في الإسلام: الوسيلة والغاية" على بعض المكتبات الملقبة بالسلفية، فقال لي صاحب مكتبة دعه عندي حتى يأتي أخي كي أعطيك توصيلا بالإيداع، فلما رجعت في اليوم التالي قال لي: إن أخي قد رفض عرض الكتاب. فقلت: لماذا؟ قال: لأنك في صفحة كذا قد انتقدت ابن تيمية، فقلت له ومن يكون ابن تيمية هذا حتى لا ينتقد؟ هل هو شخص مقدس أم نبي مرسل أم ماذا؟ وذلك بالمعنى وعلى شكل احتجاج غضبي على هذا الموقف المتزمت الذي طغى على المتسلفة بمختلف أسمائهم وجماعاتهم حينما يجعلون من ابن تيمية أو ابن قيم الجوزية وكذا محمد بن عبد الوهاب النجدي في غالب الأحيان مرجعيتهم التي لا تناقش، وهو ما يعد من أهم أسباب البطالة الفكرية والخراب الذهني في الجماعات الإسلامية المتسيسة والمتغنية بالمرجعية المتسلفة واحتكارها في أشخاص هم بدورهم موضوعين على محك المحاكمة والتشكيك في عقيدتهم من طرف علماء الأمة قديما وحديثا كما سبق وبينا! إن هذه المواقف تكاد تشبه في أسلوبها وإجراءاتها ما سلكته الصهيونية وتسلكه في حق كل من يريد أن يفضح أكاذيبها وأساطيرها التاريخية والعقدية، كالذي سلكته مع رجاء غارودي من خلال نشره لكتابه "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" وذلك بالضغط على المطابع الموالية لها أو الممولة من طرفها بأن لا تعيد نشر الكتاب وغيره من الدراسات العلمية المبينة للحقيقة،ولقد بلغني مؤخرا من طرف مطبعي في الشرق العربي أنه قد تم منع كتابي :"قضايا سلفية بين الغزالي وابن تيمية "و"التصوف الإسلامي بين السنية والتطرف " من التوزيع في السعودية خصوصا مع الوعد بتحديد السبب الذي لم يردني عنه خبر بعد؟. كما أن مثل هذه المواقف من طرف بعض متسلفة عصرنا قد تعتبر مؤشرا على امتداد الخوارج المتطرفين في العالم الإسلامي وتعششهم في المناطق أو التجمعات التي يغلب على أصحابها الجهل والأمية والعنف والجفاف الفكري والوجداني والأخلاقي، إذ في المغرب مثلا قد نجد للوهابية أو التيمية المتشددة حضورا متميزا في مناطق الريف وسوس وخاصة عند الناطقين باللهجة الأمازيغية، وحتى بالعربية الدارجة أحيانا ولكن أقل من الأولين، إذ نجد البعض من هؤلاء ما أن يذهبوا إلى أداء فريضة الحج حتى يأتوا بصورة وبوجه غير الوجه الذي ذهبوا به، بل بلهجة غير التي كانوا يتحدثون بها، يأتي الشخص منهم وهو موهّب ومسلّف تسليفا على نمط الخوارج أو أدهى في التعصب والتشدد والتطاول على العلماء والأولياء والصالحين ،نقد يلتقون في هذا المسلك مع الشيعة الروافض الذين يسبون أيضا السلف السابقين من الصحابة الكرام والصديقين الذين هم مستمد الأولياء اللاحقين، بل التطاول على مقام النبوة والآداب التي يجب أن يلتزم بها المسلم تجاه نبيه ورسوله من حيث توقيره وتعظيمه وطريقة مخاطبته ومناجاته، حتى كأنهم حسب وصف ياقوت "أجفى خلق الله وأكثرهم طيشا، وأسرعهم إلى الفتنة وأطوعهم لداعية الضلالة وأصغاهم لنمق الجهالة، ولم تخل أجيالهم من الفتن وسفك الدماء قط... وكم من ادعى فيهم النبوة فقبلوا، وكم زاعم فيهم أنه المهدي الموعود به فأجابوا دعوته ولمذهبه انتحلوا، وكم ادعى فيهم مذهب الخوارج فإلى مذهبه بعد الإسلام انتقلوا"(1) 2- هكذا إذن يزيد المتسلفة تلك القبائل أو المناطق والتجمعات جفاء على جفاء وتقحلا على تقحل، فتكون الطامة الكبرى والبلية العظمى المهددة لسائر المسلمين سواء في استقرارهم الاجتماعي أو إشراقهم وفيضهم الوجداني. حتى مفهوم الجهاد قد يأخذونه على غير ضوابطه ومن غير اعتماد على نصوص شرعية تأخذ بعين الاعتبار العدة والعدد والتزام أوامر الإمام ووحدة الصف والضرورة الداعية إلى الإقدام أو الإحجام، وتحديد النيّة والهدف من ورائه إلى غير ذلك مما يدخل في أحكام الجهاد حتى لا تقع الانتكاسة ويصبح الإقدام وبالا والإحجام إذلالا، وهو ما أوقع فيه المتسلفة الأمة في كثير من مبادراتهم غير المضبوطة والتي قد تخدم مصلحة العدو ضدا على مصلحة الأمة الإسلامية رغم ما يبدو لديهم من حماس وتحميس وحيوية في الإقدام، سرعان ما يتكسر بإحجام لا يوجد بعده قيام! إن هذا النوع من الفكر المتسلف يمثل بإسقاطاته بطالة فكرية، وبالتالي بطالة روحية لا محالة، وأيضا بطالة حضارية لأنه جعل بينه وبين فهم الدين وساطة رديئة ومختلة تحتاج إلى التنقيح والتصحيح وتحتاج إلى التربية والأخلاق، وهي وساطة السلفية التاريخية المتأخرة، والمختصة في تضليل الأمة وتخطيء السلف والخلف ممن لم يروا رأيها الحجري والجامد الملابس للتجسيم والتشبيه على وجه ما كما يلوح! وبالتالي فحينما لا يسلمون بمن هم أكثر علما وإيمانا وفهما للعقيدة والسلوك تراهم يرشقونهم بالشرك والبدع والتكفير بدون تحفظ شرعي وأخلاقي، فيختارون الآيات والأحاديث الواردة في المشركين والمنافقين والكفار ثم يصفون بها أهل القبلتين من المسلمين الذاكرين باللسان والجنان والمقرين قلبا وقالبا بعقيدة التوحيد كما سبق وبينا عند إشهاد الشيخ محيي الدين بن عربي، وهذا النمط من المتسلفة يشبه إلى حد ما أسلوبا ومنهجا أوصاف الخوارج الذين ذكر البخاري في الصحيح من كتاب استتابة المرتدين حيث يقول: "وكان ابن عمر يراهم شرار خلق الله، وقال: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين". بل إن المتأخرين أدهى وأمرهم أمر من الأولين، بحيث يحكمون بالشرك أو التبديع على كافة الأمة باستثناء شيوخهم المتسلفين الذين جمدوا العالم الإسلامي كأقطاب جليدية وقتلوا مشاعره ووجدانه بل وأيضا فكره وعقله. يقول أحد المتسلفين من المعاصرين: "إن بعض المحبين للغزالي –وكلنا نحبه (مغالطة)- يرون أنه لم يكن يؤمن بفكرة المشيخة بدليل أنه لم يأخذ الطريقة على شيخ معين (مغالطة أخرى، وجهل بالواقع)، وبذلك لا يكون مؤيدا للمنهج الوساطي، إلا أنا نرى إعطاءه المشروعية للسلوك الصوفي جملة... أغرق الأمة في شرك عبادة الوسائط من أصحاب المرقعات وأرباب الإشارات والشطحات..."(2) هكذا بكل بساطة ووقاحة يسقط الشرك على المسلمين، وتتحول الصحبة في الله والتزام مبدأ الأستاذية في التربية الروحية إلى عبادة للأشخاص في وهم هؤلاء المهوسين والبطاليين، وبالتالي يضربون عرض الحائط أهم ركائز المنهج النبوي القائم على التلقين اللفظي والروحي والإيحائي والتزكية والتطهير النفسي ومبدأ فقه القلوب وعلم السر وحديث "نافق حنظلة"، والنصوص الدالة بصريح العبارة على الصحبة والمجالسة للصالحين والخلة في الدين ن،وبالتالي إبطال مغزى قصة موسى والخضر عليهما السلام وما إلى ذلك من مقتضى فقه الأذكار وتلقي الصغار عن الكبار والخلف عن السلف. إضافة إلى كل هذا فالكاتب قد يفتري على الغزالي حول مبدأ المشيخة ،مغفلا أو جاهلا ومتجاهلا بأنه قد ابتدأ طريقه بأخذ الذكر عن متبوع مقدم لقنه ذكر الاسم المفرد "الله" كما يصرح به نفسه في كتبه كميزان العمل وغيره، والمتبوع المقدم هو ما دون درجة الشيخ، أي أنه يكون تحت إذن الشيخ، فما بالك بالذي يأخذ عن الشيخ مباشرة، وفي هذا يقول: "إني في الوقت الذي صدقت فيه رغبتي لسلوك هذا الطريق شاورت متبوعا مقدما من الصوفية في المواظبة على تلاوة القرآن فمنعني، وقال: السبيل أن تقطع علائقك من الدنيا بالكلية بحيث لا يلتفت قلبك إلى أهل وولد ومال ووطن وعلم وولاية، بل تصير إلى حالة يستوي عندك وجودها وعدمها، ثم تخلو بنفسك في زاوية تقتصر من العبادة على الفرائض والرواتب وتجلس فارغ القلب مجموع الهم مقبلا بذكرك على الله تعالى، وذلك في أول الأمر بأن تواظب باللسان على ذكر الله تعالى، فلا تزال تقول:"الله الله" مع حضور القلب وإدراكه إلى أن تنتهي إلى حالة لو تركت تحريك اللسان لرأيت كأن الكلمة جارية على لسانك لكثرة اعتياده..."(3) أما حول الإقرار بضرورة الشيخ في التربية والسلوك الروحي والتلقين فيرى الغزالي بصريح العبارة أنه ينبغي لمن يريد تحقيق هذه الغاية على أحسن وجه "أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس مطلع على خفايا الآفات ويحكمه في نفسه ويتبع إشارته في مجاهدته، وهذا شأن المريد مع شيخه والتلميذ مع أستاذه، فيعرف أستاذه وشيخه عيوب نفسه ويعرفه طريق علاجه- وهذا كما يرى الغزالي – قد عز في هذا الزمان وجوده"(4) 3- ومن هنا يتبين لنا الخطر والبطالة الفكرية عند متسلفة عصرنا، وذلك لما في أسلوبهم من إسقاط وتحريف وتخريف، وبالتالي افتراءات وكذب لا علاقة له بحقيقة الأمر. كما أنهم قد يمرقون عن منهج المستلفة المتقدمين وخاصة في هذه النقطة بالذات –أي المشيخة في الطريقة الصوفية- وذلك رغم ما نجده مثلا عند ابن تيمية من اعتراف بها حيث يقول: "وأما انتساب الطائفة إلى شيخ معين فلا ريب أن الناس يحتاجون من يتلقون عنه الإيمان والقرآن كما تلقى الصحابة ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتلقاه عنهم التابعون وبذلك يحصل اتباع السابقين الأولين بإحسان، فكما أن المرء له من يعلمه القرآن ونحوه فكذلك له من يعلمه الدين الباطن والظاهر"(5) وقد يتعدى الأمر إلى رفض الاحتفال بالمولد النبوي لنفس الدعوى التي يتذرعون بها بخصوص محبة الشيوخ والعارفين، وذلك في زعمهم أن هذا الاحتفال له صورة بدعية وأنه تقديس للنبي صلى الله عليه وسلم، ربما قد يرمون المحتفلين بذكراه بنوع من الشرك والعبادة، وذلك حينما يرفض بعضهم الاحتفال بالمولد النبوي جملة وتفصيلا، مخالفين في ذلك أيضا شيخهم ابن تيمية ونوع اعتداله في الموضوع حيث يقول رغم تشدده في تسمية العيد، "فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد، ولهذا قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء، إنه أنفق على مصحف ألف دينار ونحو ذلك، فقال: دعه فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب أو كما قال مع أن مذهبه أن زخرفة المصحف مكروهة، وقد تأول بعض الأصحاب أنه أنفقها في تجديد الورق والخط"(6) إن هذا التسلف المتأخر يكاد يمثل مؤامرة مدبرة بينه وبين التفلسف المعلمن والتشيع المخمن وذلك قصد التوصل إلى ترسيخ البطالة الفكرية في الأمة وإصدار الأحكام الجاهزة والجزئية المبنية على الأخبار الشاذة والمعقدة سواء في بنائها ونسقها الدلالي لغة وتعبيرا أو في حقيقة نسبتها إلى قائلها صدقا أو كذبا، إذ التسرع في الحكم على المسلمين من غير بينة ثابتة والاتهام بمجرد الإشاعة أو التشابه في المواقف هو من نمط قذف المنافقين لإشاعة الفاحشة والبلبلة في المؤمنين والتشكيك في نقاء المجتمع الإسلامي عن طريق التضليل والتوهيم وما إلى ذلك مما هو مقتضى البطالة الفكرية والأخلاقية العقدية معا، ومن ثم فيكون الواجب الإيماني هو قول الله تعالى حين ورود الإشاعة "لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين". لكن المتسلفة في عصرنا حينما افتقدوا هذه الطهارة الباطنية من خلال تزكية الذات وتزكية الغير بالمنهج الصافي النبوي الأصيل لجأوا إلى اقتناص الأخبار الشاذة أو الوقوف عند سطوح الحروف بنية مسبقة وهي الاجتهاد الكلي المذموم لتحصيل الصرف الذاتي للجمهور المسلم المتعطش إلى غذائه الروحي عن أهل الاختصاص. يقول المتسلف وهو متلبس بأوهام المتفلسف روحا ونصا "هكذا كانت الوساطة الطرقية تصنع المريدين وتربي الأتباع وكأنها تمارس عليهم نوعا من غسيل الدماغ أو ما عبر عنه في الفكر المعاصر باغتيال العقل، إشارة إلى عملية قتل الحاسة النقدية في الفكر والمجتمع..." هكذا إذن يلتقي المتسلف مع المتفلسف ومعه المتشيع بالعرفان الكاذب والزئبقي في مواجهة الصوفي أو المتصوف واعتبار مجاله تعسفا بالعقل المستقيل ، وهكذا أيضا يتطابق المتأسلم مع المتعلمن في ضرب أرقى وأسمى الركائز الأخلاقية والروحية للأمة الإسلامية، فيضلل الأمة بسبب أنها سلكت المذهب الأشعري في العقيدة والتصوف السني في التربية والسلوك، وتستبدل الصحبة في الله بمصطلح التسلف الذي وضع كواسطة الوسائط، وأسند إليه مصطلح ليس مجرد شيخ المريد وإنما :شيخ الإسلام ،وهو مصطلح مبهم ومبتدع حسب مقاييس المتسلفة. إذ فيما يبدو لنا أن أصله في الرواية والمعنى غير سليم، بحيث كما يروى أن المنافقين أول من استعملوه في بداية الأمر –إن صح استدلالنا- وذلك فيما يقول السيوطي عن أسباب نزول الآية "وإذا لقوا الذين آمنوا": عن ابن عباس قال: "نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله بن أبي: انظروا كيف أرد عنكم هؤلاء السفهاء، فذهب فأخذ بيد أبي بكر، فقال: مرحبا بالصديق سيد بني تيم وشيخ الإسلام..."(7) ، إذ الإشكال المطروح هو في إضافة شيخ إلى الإسلام، وإلا فمصطلح الشيخين كان معروفا عند المسلمين ومتفقا عليه. وفي طرحنا لهذا المصطلح وإثارة النقاش حوله ذي ارتباط بموضوع البطالة الفكرية عند المتسلفة، وذلك لأنهم يقرون بالأستاذية التاريخية المتأرجحة بين الثبوت وعدمه ويرفضون الأستاذية المشخصة واقعيا وميدانيا، كما أنهم قد يرفضون الكرامة المعاصرة ويدعون التسليم بالكرامة المأثورة حسب مقاييس مشايخهم، لحد وصف البعض منها إذا صدرت من غيرهم بالخرافات والأساطير ملتقين في ذلك مع العقلية البطالية للعلمانيين فيما يخص القضايا الغيبية والماورائية، ناسين أن الطعن في الكرامة مقدمة للطعن في المعجزة وأن بقاءها دليل مقوي ومؤيد للمعجزة كهمزة وصل لفهم حقيقتها وإمكانها في الحكم العقلي والشرعي، إضافة إلى هذا فإن تقليد المتسلفة لمشايخهم في هذا المجال الروحي الميداني بمثابة تقليد القديد كما يصفه الصوفية ولم يفهم معناه المتسلفة. إذ كما يقول أبو يزيد البسطامي في هذا المعنى يخاطب علماء الرسوم –كما يصطلح عليهم- :"أخذتم علمكم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا من الحي الذي لا يموت يقول أمثالنا حدثني قلبي عن ربي وأنتم تقولون حدثني فلان وأين هو قالوا مات عن فلان وأين هو قالوا مات، وكان الشيخ أبو مدين رحمه الله إذا قيل له قال فلان عن فلان يقول: ما نريد أن نأكل قديدا هاتوا ائتوني بلحم طري، يرفع همم أصحابه، هذا قول فلان أي شيء قلت أنت ما خصك الله به من عطاياه من علمه اللدني، أي حدثوا عن ربكم واتركوا فلانا وفلانا فإن أولئك أكلوه لحما طريا والواهب لم يمت وهو أقرب إليكم من حبل الوريد والفيض الإلهي والمبشرات ما سد بابها وهي من أجزاء النبوة والطريق واضحة والباب مفتوح والعمل مشروع..."(8) وحتى هذا المعنى قد يؤوله المتسلفة إلى غير مقصده ومعناه ويسعون إلى الزعم بأن الصوفية لا يكترثون بالمرويات الحديثية، وهذا إسقاط وبطالة فكرية من جهتهم، وإنما المقصود بالمأثورات الشخصية عن العلماء والمشايخ الذين مضوا وخاصة في مجال الذوق والتربية الروحية والوجدانية، إذ بهذا الصرف للمعنى عن قصده تكلفا وتسلفا يختل ميزان الوعي وترتطم الأفهام عند العوام، وبالتالي أصبح يلعن ويبدع السلف إلا من رحم الله، وتعرض فهم الدين وأحكامه للتلف فلا هم ذكَّروا أو تذاكروا أو ذكروا، ولا هم فكروا أو تآزروا وتناصروا، وإنما كادوا أن يتهودوا أو يتنصروا موقفا وسلوكا ومراوغة، وتشددوا تعنتا وتفتتا، فكان بذلك بطالة فكرية بلا منهاج ولا علاج: ما من كاتب إلا سيبلى ويبقى الدهر ما كتبت يداه فلا تكتب بكفك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يأتي في آخر الأزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة"(9) ونحن من هذا الحديث لا نريد أن نسقط معناه ودلالته بعفوية وتعصب على فئة معينة من المذاهب أو الجماعات المعاصرة في ساحة أمتنا، ولا نجازف بأن نصفها مباشرة بتعقب جزئيات سلوكها، ولكن الذي يهمنا فيه هو ظاهرة الادعاء الذاتي بالتمسك والتحدث بخير قول البرية تشدقا وتخاطبا، كاستظهار بعض الأحاديث النبوية واستعراضها عند كل مناقشة أو مجلس على نمط المتسلفة المعاصرة من حيث الظاهر ووضعها في مكانها غير المناسب، ولكن في الباطن يمثل أصحاب هذه التصنعات خطرا وبيلا على الأمة الإسلامية وعقيدة جمهورها رغم تظاهر أصحاب هذا الأسلوب وادعائهم التمسك بالكتاب والسنة واتباع السلف الصالح واجتناب البدعة والضلالة من حيث الشكل والهيكل، وهذا فيه مدعاة إلى التأمل الجدي وتحذير من الوقوع في بطالة فكرية وعقدية قد تكون مدمرة للمجتمع الإسلامي في عمقه وأساسه، إن لم تستدرك قبل استفحال أمر مثال هذه العناكب التي لا تعشش وتتفرع إلا حيث غياب المراقبة الصارمة والملاحظة الدقيقة للأماكن المهملة والفارغة!!! قائمة المصادر والمراجع 1 أحمد أمين: ظهر الإسلام، ج1 ص 291. 2 فريد الأنصاري: التوحيد والوساطة في التربية الدعوية. كتاب الأمة عدد 48 ط1 – 1418 ه ص 63. 3 الغزالي: ميزان العمل، دار الكتب العلمية، بيروت – ص 40-41 4 الغزالي: إحياء علوم الدين/ ج3 ص 59. 5 ابن تيمية: مجموع فتاوى: مجلد "كتاب التصوف" ص 511. 6 ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، مكتبة المعارف الرباط، ص297. 7 السيوطي: اسباب النزول بذيل تفسير الجلالين, دار الجيل، ط2 – ص9. 8 ابن عربي: الفتوحات المكية، ج1 ص 280. 9 رواه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب علامات النبوة في الإسلام.