كانت الذكرى السنوية لأسطورة "الظهير البربري" تمر، قبل عقد ونصف من الزمن، في صخب إعلامي وحزبي حيث تنظم بمناسبتها الندوات، وتعقد اللقاءات والمناظرات، وتنشر ملفات ودراسات للتذكير ب"بطولات" وتضحيات" أصحاب "اللطيف" (نسبة إلى "اللطيف" الذي كان يقرأ في المساجد احتجاجا على الظهير البربري) الذين يقدمهم التاريخ (التاريخ الذي كتبوه هم أنفسهم) كمنقذين للبلاد من العودة إلى الوثنية والجاهلية، ومن التنصير الذي كان يرمي إليه "الظهير البربري". أما اليوم، فإنها تمر في صمت وتجاهل يبدوان متعمدين لتجنب التذكير بهذا الحدث الأسطوري الذي كان الاحتفال بذكراه يملأ صفحات الجرائد بالكتابة عنه، وقاعات الأحزاب بضجيج العروض والمحاضرات حوله. "" فلماذا هذا الصمت وهذا التجاهل بعد كل ذلك الصخب والضجيج اللذين كانا يميزان الذكرى السنوية "للظهير البربري"؟ لأن الحقيقة كشفت عنها الحركة الأمازيغية منذ ما يزيد عن عشر سنوات (ابتداء من يونيو 1996 في ندوة بأكادير نظمتها جمعية تاماينوت حول "الحركة الوطنية" والأمازيغية) وفضحت الأكاذيب التي بنى عليها أصحاب "اللطيف" أسطورة "الظهير البربري" التي شكلت رأسمالهم الرمزي والسياسي الذي دخلوا به التاريخ ك"أبطال" أنقذوا العروبة والإسلام في المغرب، وأماطت اللثام عن أكبر عملية نصب سياسية في تاريخ المغرب المعاصر، والتي تسمى ب"الظهير البربري" الذي لم يكن له وجود إطلاقا. ومع ذلك أصبح بفعل عملية النصب هذه من الحقائق البديهية التي تملأ عقولنا ووجداننا ومخيالنا، والتي لا يرقى إليها شك ولا يطرح حولها تساؤل ككل الحقائق البديهية. بعد فضح عملية النصب هذه، والكشف عن الكذّابين والنصّابين الذين اختلقوا وصنعوا أكذوبة "الظهير البربري" ليصنعوا مكانتهم في التاريخ ويطردوا أصحاب الحق فيه، أصبح من الصعب، أدبيا وأخلاقيا، على هؤلاء الكذّابين والنصّابين الاستمرار في الكذب والنصب بعد أن باتت الحقيقة معروفة ومعلومة، والبهتان مفضوحا ومكشوفا. فكان لا بد من التوقف عن الاحتفال بذكرى الكذب، واللوذ بالصمت حتى لا تعرف وجوه الكذّابين من جديد ويقال لهم: "لعنة الله على الكذّابين". لكن اختفاء الاحتفالات بذكرى أسطورة "الظهير البربري" لا يعني اختفاء آثارها المدمرة على الأمازيغية والأمازيغيين، والتي لا تزال قائمة ومستمرة كفكر موروث عن "الحركة الوطنية"، صانعة الأسطورة وصنيعتها في نفس الوقت، هذا الفكر الذي تعيد إنتاجه الأحزابُ والإعلامُ والمدرسةُ والكتبُ والتاريخُ الرسميُّ... لكن إذا كنا نعرف هذه الآثار المدمرة لهذه الأسطورة على الأمازيغية، فإننا نجهل كل شيء عن آثارها المدمرة كذلك في ما يخص التنمية الاقتصادية والحكامة السياسية وتسيير الشأن العام بالمغرب. نجهل ذلك لأن العلاقة بين أسطورة "الظهير البربري" والتخلف السياسي والاقتصادي للمغرب تبدو بعيدة أو منعدمة، مع أنها قريبة وتكاد تكون مباشرة. لنشرح ذلك. يجب أن نستحضر أن الأفكار التي أنتجت أسطورة "الظهير البربري" هي نفسها الأفكار التي تحكم المغرب منذ الاستقلال إلى اليوم. فهذه الأسطورة شكلت، منذ 16 ماي 1930، رأس المال السياسي والرمزي والتاريخي كما سبقت الإشارة ل"الحركة الوطنية" التي ستتفاوض معها فرنسا في "إيكس ليبان" كممثل شرعي ووحيد للشعب المغربي، بسبب ذلك الرأسمال "الأسطوري" الذي تتوفر عليه. وبالتالي فإليها ستسلم فرنسا بعد مغادرتها المغرب الدولةّ الجديدة التي أنشأها ليوطي كخلف ووريث شرعي للسلطات الاستعمارية الفرنسية. وهكذا أصبحت "الحركة الوطنية"، وخصوصا حزبها المعلوم، هي التي تشرف عمليا على تسيير شؤون البلاد وتتصرف في ثرواته. فمنها الوزير، والعامل، والقائد، والباشا، وضابط الأمن، وقاضي المحكمة، ومدير الشركة، ومعلم المدرسة، وحارس السجن، وشرطي المرور... كان كل من يتقلد منصبا في الدولة، مهما كانت درجة أهميته، ينتمي إلى "الحركة الوطنية" عبر انتمائه إلى حزبها العتيد المعلوم، ويحمل أفكارها وهذا هو الأهم التي بها يخطط ويدبر ويسيّر في إطار وظيفته وعمله الرسمي التابع للدولة الجديدة التي ورثتنها "الحركة الوطنية" عن فرنسا. هكذا أصبحت أفكار "الحركة الوطنية" لا ننسى أن هذه الأفكار هي التي صنعت أسطورة "الظهير البربري" ثقافة سياسية تحكم المغرب وتسيّر شؤون البلاد وتبني دولة الاستقلال. وبما أن "الحركة الوطنية" هي التي تسلمت السلطة السياسية من فرنسا وأصبحت بذلك تحكم الدولة وتسيّر شؤونها، فقد استغلت موقعها الذي مكّنها من استعمال وتوظيف الوسائل الإيديولوجية للدولة من إعلام ومدرسة على الخصوص وإمكاناتها المادية والمؤسساتية والقانونية بهدف ترسيخ وتعميم أفكارها وقناعاتها وقيمها كثقافة سياسية تلك التي خلقت أسطورة "الظهير البربري" والعمل على فرضها وتعميمها وإعادة إنتاجها وغرسها في أذهان ووجدان المغاربة. وهكذا أصبحت الثقافة السياسية ل"الحركة الوطنية" لا ننسى أنها الثقافة التي أنتجت أكذوبة "الظهير البربري هي السائدة والمهيمنة حتى عند الأجيال الجديدة لما بعد الاستقلال، والتي لم تعرف "الحركة الوطنية" ورجالاتها إلا ك"تاريخ" يلقن لها في المدارس وتحكيه الكتب. لكن مع ذلك وهذا هو الأهم تحمل هذه الأجيالُ أفكارَ هذه "الحركة الوطنية" وإيديولوجيتها، أي ثقافتها السياسية التي تسيّر بها هذه الأجيال الجديدة هي كذلك دواليب الدولة ومؤسساتها وتحكم بها البلاد وتدبر شؤون أزيد من ثلاثين مليونا من المغاربة. فاختلاف الأجيال وتغير الرجال لم يأتيا بأي جديد في ما يخص الحكامة وتسيير شؤون الدولة والتخطيط لمستقبل المغرب، ما دام هؤلاء الرجال "الجدد" يحملون نفس الثقافة السياسية التي بها يحكمون ويسيرون ويخططون، والتي هي ثقافة سياسية تعود إلى "الحركة الوطنية"، نشأت وتكوّنت في عقد الثلاثينيات من القرن الماضي بمناسبة نشوء وتكوّن أسطورة "الظهير البربري". هذا عندما لا يكون هؤلاء الرجال "الجدد" استمرارا مباشرا لرجال "الحركة الوطنية" صانعة "الظهير البربري" وصنيعته في نفس الوقت كما هو شأن الحكومة الحالية التي يرأسها الأمين العام لحزب الاستقلال، أي حزب "الحركة الوطنية". هذا الاستطراد كان ضروريا لتبيان العلاقة بين الثقافة السياسية "للحركة الوطنية" والتسيير الحالي لشؤون الدولة بالمغرب. هذا التسيير الذي أوصل المغرب إلى المراتب الأخيرة في سلم التنمية والتقدم على المستوى العالمي. لكن أية علاقة تربط بين أسطورة "الظهير البربري" وما وصل إليه المغرب من تخلف في مجال التنمية الاقتصادية والحكامة السياسية؟ لقد أوضحنا أن الأفكار التي صنعت أكذوبة "الظهير البربري" هي التي تحكم المغرب كثقافة سياسية منذ الاستقلال إلى الآن. هذه الأفكار/الثقافة السياسية كانت تقوم، في مميزاتها الأساسية التي يجمعها ويلخصها "الظهير البربري"، على: الكذب والافتراء؛ استعمال المقدس الديني للإقصاء السياسي للخصم، هيمنة هاجس المصلحة الشخصية على المصلحة العامة؛ التي يستعملها أصحاب هذه الثقافة كوسيلة لتأمين مصالحهم الشخصية؛ غياب الروح الوطنية الحقيقية مع استعمال الوطن كوسيلة لجمع الثروة والوصول إلى مواقع السلطة التي تسهل بدورها الحصول على مزيد من الثروة بلا سبب ولا شرعية؛ الانتهازية والوصولية والنفاق والازدواجية الخادعة في المواقف وذلك بالتظاهر بالدفاع مبدئيا عن قناعات لكن مع تطبيق عكسها عمليا؛ العداء التاريخي لكل ما هو أمازيغي... ففي ما يتصل بتفضيل المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، وغياب الروح الوطنية الحقيقية، فهو أمر حاضر بوضوح لدى أصحاب "اللطيف"، مختلقي أكذوبة "ألظهير البربري". فغالبيتهم كانوا "محميين"، أي خاضعين لسيادة دول أجنبية في إطار نظام الحماية الفردية، مع ما في ذلك من ردة عن دينهم وخيانة لوطنهم وتآمر ضد بلادهم وانتهاك لسيادتها الوطنية. ولهذا يعتبر هؤلاء "المحميون" الممهدين والمسهلين لدخول الاستعمار، إذ كانوا يرفعون أعلام الدول التي منحتهم الحماية فوق منازلهم تماما مثل السفارات الأجنبية التي لا سلطة عليها للدولة التي توجد بها تلك السفارات. وهذه الخاصية المتمثلة في تفضيل المصلحة الخاصة على حساب المصلحة العامة، التي تستعمل فقط كوسيلة ومبرر لخدمة الأهداف الشخصية والأنانية، سلوك انتهازي ولا وطني لا زال قائما ومستمرا، نلاحظه في استعمال الوظائف العمومية، كمناصب السلطة والمسؤولية في الدولة، كوسيلة للاغتناء وضمان المصالح الخاصة لأصحاب تلك المناصب. هذا في أحسن الحالات التي لا تستعمل فيها هذه المناصب للنهب المباشر للمال العام واختلاس أملاك الدولة، كما هو معروف بالنسبة لعدد من المؤسسات التي سبق وأن عرضت ملفات الاختلاس المالي بها على القضاء. وما خفي وبقي أعظم طبعا. أما استعمال الدين للإقصاء السياسي للخصم، والتظاهر بالغيرة الزائفة على الإسلام، فقد رأيناه في ادعاء أصحاب "اللطيف" أن فرنسا تريد تنصير الأمازيغيين وإخراجهم من الدين الإسلامي، مع ما في هذا الادعاء الكاذب من اتهام الأمازيغية التي استعملها الاستعمار لمحاربة الإسلام حسب أسطورة "الظهير البربري". ويستمر اليوم استعمال المقدس الديني لإقصاء الأمازيغية بالتذكير المملول، كلما تعلق الأمر بالمطالبة برد الاعتبار للغة الأمازيغية، بأن العربية لغة القرآن، وأن الأمازيغيين "اختاروا" العربية لغة لهم يوم "اختاروا" الإسلام دينا لهم. أما الانتهازية والوصولية والازدواجية الخادعة في المواقف، والتي (الازدواجية) تجعل أصحابها يتظاهرون بالدفاع مبدئيا عما يطبقون عكسه عمليا، فرأيناه عندما تظاهروا بأنهم يحاربون فرنسا لأنها أصدرت "الظهير البربري"، مع أنهم هم الذين قبلوا الحماية الفرنسية ورحّبوا بالمستعمر الفرنسي، وتحالفوا وتعاملوا معه كفرصة ذهبية لخدمة مصالحهم الشخصية والحصول على منافع ومكاسب على حساب الوطن والمواطنين الشرفاء. ونفس الازدواجية الخادعة يمارسونها اليوم عندما يتظاهرون بالدفاع عن التعريب غيرة على اللغة العربية. لكن عمليا يسجلون أبناءهم بمدارس أجنبية أو خاصة حيث لا وجود للغة العربية. أما الكذب والافتراء، فقد قامت عليهما أسطورة "الظهير البربري" من أولها إلى آخرها كما هو معروف اليوم. وإذا عرفنا أن الأفكار التي أنتجت هذه الأسطورة أصبحت ثقافة سياسية لتسيير شؤون البلاد كما سبق أن شرحنا، نعرف لماذا وصل هذا التسيير إلى ما وصل إليه من فساد وتخلف وسوء تدبير وتبذير للمال العام ونهب لأملاك الدولة، لأن مبادئ الكذب والافتراء قد تخدع أشخاصا وفي أوقات خاصة وظروف خاصة، ولكنها لا تستطيع أن تبني دولة قوية بمؤسسات قوية تقوم على أركان صلبة وسليمة. هذا عندما لا يكون الكذب ممارسا بشكل صريح ورسمي كما حدث في فضيحة "النجاة" التي افتري فيها، ومن موقع حكومي رسمي، على أزيد من 35000 مغربي. أما العداء للأمازيغية فظاهرة مفهومة تجد تفسيرها في كون الثقافة السياسية الأمازيغية هي نقيض مباشر للثقافة السياسية لمختلقي أكذوبة "الظهير البربري". فخصائص الثقافة الأولى تتمثل في: الميل إلى المساواة؛ مراعاة مصلحة الجماعة أولا قبل المصلحة الخاصة؛ الوطنية الحقيقة القائمة على الارتباط بالأرض والاستعداد للتضحية دفاعا عنها، القناعة والكفاف وعدم التطاول على أملاك وحقوق الآخرين... فهي، كما نرى، خصائص تتناقض على طول الخط مع مميزات الثقافة السياسية لأصحاب "اللطيف". وهذا ما يفسر عداء حاملي هذه الثقافة اللطيفية (نسبة إلى "لطيف" "الظهير البربري") للأمازيغية لأن مجرد وجودها يشكل فضحا للذهنية الانتهازية والأنانية للثقافة السياسية لأصحاب "اللطيف" الذين لا يريدون أن يكون هناك شاهد على لا وطنيتهم وانتهازيتهم وأنانيتهم البدائية. فهذه الثقافة السياسية، إذن التي هي منتج ومنتوج لأكذوبة "للظهير البربري" في نفس الوقت هي التي لا زالت تهيمن على تسيير شؤون البلاد بالمغرب، مع كل ما يرتبط يها من انتهازية واستغلال للنفوذ واستعمال المرفق العام (أي المصلحة العامة) لخدمة المصالح الخاصة، وغياب الروح الوطنية الحقيقية المتمثلة في الاستعداد للتضحية من أجل الوطن. وعندما نتساءل: لماذا بقي المغرب متخلفا سياسيا واقتصاديا؟ يكون الجواب بسيطا وواضحا: لأنه محكوم بثقافة سياسية متخلفة، تعمل على إفقار البلاد وإضعافها، اقتصاديا وتنمويا، كدولة ووطن، من أجل إغناء وتقوية أصحاب هذه الثقافة كأفراد أنانيين لا غيرة لهم على الوطن والبلاد، بل فقط على مصالحهم وأرصدتهم المالية، يسيرون الشأن العام الذي لا يهمهم إلا بقدر ما يوظفونه كوسيلة لخدمة شؤونهم الخاصة. هذا هو مصدر ما تعرفه مؤسسات الدولة المغربية من انتشار للفساد وتفشٍّ للرشوة، وتجرؤ على نهب المال العام، واستهانة بالقانون، وسيادة للزبونية والعلاقات العائلية على حساب الكفاءة والاستحقاق، وغياب لاستقلال القضاء مع ما ينتج عن ذلك من ممارسة للظلم والتسط وغياب للعقاب والمحاسبة، واحتقار لكرامة المواطن... وكلها أسباب تجعل المغرب يتراجع إلى الوراء بدل أن يتقدم إلى الأمام. لكن الخطير في هذه الثقافة السياسية "اللطيفية"، ذات الأصول العروبية الأندلسية، أن حامليها وممارسيها يستعملون النظام الملكي بالمغرب كمظلة يغطّون بها على استعمالهم لمناصب الدولة ووظائفها للاغتناء غير المشروع، وتكديس الثروة والسلطة في شكل حلقة مغلقة يصبح السبب فيها نتيجة والنتيجة سببا: السلطة الفاسدة تنتج ثروة السحت، التي بدورها تنتج مزيدا من السلطة الفاسدة، ودون أن يخضع المسؤولون عن الفساد والسحت لأية مراقبة ولا مساءلة. مما يشجعهم، بل يحفزهم، على مزيد من الفساد ومزيد من جمع المال السحت. وعلى ذكر النظام الملكي، يطرح السؤال الذي يتردد على ألسنة الكثيرين: لماذا بقيت الملكية بالمغرب، كنظام سياسي، عتيقة ومغرقة في التقليدانية والقروسطوية والسلطوية والحكم الفردي؟ ويزداد السؤال أهمية إذا عرفنا أن الملكية بالمغرب تسود وتحكم، وبالتالي فهي المصدر الحقيقي والأول لكل قرار سياسي يهم البلاد. ونظرا للدور الرئيسي والكبير الذي تلعبه الملكية بالمغرب، فإن السؤال حول أسباب تقليدانيتها وعتاقتها وسلطويتها يصبح سؤالا حول أسباب تخلف المغرب. إن الجواب الذي يقول بأن الملكية بالمغرب بقيت تقليدانية وسلطوية وفردية وغير ديموقراطية لأن هذه المواصفات شرط لاستمرارها وبقائها، حيث إن أي تحديث ودمقرطة لهذه الملكية فيه تهديد لوجودها، جواب لا يشفي الغليل لأنه يطرح بدوره سؤالا آخر: لكن لماذا حافظت ملكيات أخرى على وجودها واستمرارها، ليس بالتقليدانية والحكم الفردي، بل بالحداثة والديموقراطية واقتسام السلطة؟ عندما نحلل النظام الملكي بالمغرب في علاقته بالثقافة السياسية المهيمنة، أي الثقافة السياسية "اللطيفية" التي حللناها أعلاه، سيتضح لنا أن تحديث هذه الملكية ودمقرطتها والتقليص من سلطاتها المطلقة والفردية، لا يهدد وجودها هي في حد ذاتها، بل يهدد مصالح وامتيازات أولئك الذين يحصلون على هذه المصالح والامتيازات بفضل النظام المخزني العتيق والتقليدي واللاديموقراطي الذي يوفر الشروط المثالية للفساد والارتشاء، ونهب المال العام، والتسلط، واستغلال النفوذ، والاستفادة من اقتصاد الريع، والاغتناء الفاحش دون سبب شرعي، والإفلات من أي عقاب أو متابعة أو مساءلة. وهؤلاء هم أصحاب الثقافة السياسية "اللطيفية" "للظهير البربري"، والتي لا زالت مهيمنة تحكم المغرب وتسيره بطريقة مباشرة أو غير مباشرة كما سبق أن شرحنا. فهؤلاء مستعدون ليضحوا بكل شيء من أجل أن تبقى الملكية فردية واستبدادية ومخزنية ولا ديموقراطية ليحموا باستبدادها وحكمها الفردي واللاديموقراطي مصالحهم وامتيازاتهم ونهبهم للوطن واستيلائهم على خيراته وثرواته بعيدا عن أية مساءلة أو محاسبة لأنهم "خدام سيدنا". فهؤلاء هم العائق الأكبر والمانع الأشد لأي تحديث للملكية والانتقال بها من نظام مخزني زبائني وريعي يحكمه مزاج الأشخاص ورغباتهم وأهواؤهم، إلى نظام ملكي حداثي وديموقراطي تحكمه سلطة القاعدة القانونية الملزمة للجميع. واللافت وهذا ليس مجرد صدفة أن أصحاب الثقافة السياسية "اللطيفية" يستعملون النظام المخزني العتيق للمكلية كمظلة يحتمون بها للاستفادة بما يوفره لهم هذا النظام العتيق من منافع وامتيازات اقتصادية وسياسية ورمزية، تماما كما استعملته فرنسا هي كذلك كمظلة كانت تبرر بها استعمار البلاد ونهب ثرواته وقتل مقاوميه والغيورين عليه، وكل ذلك باسم حماية السلطان والدفاع عنه: لقد حاربت عبد الكريم الخطابي باسم الملك، وفتكت بالقبائل الأمازيغية المقاومة بالأطلس بسم الملك كذلك، واستولت على جودة الأراضي الفلاحية التي وزعتها على المعمرين باسم المخزن الذي يمثله الملك... ولهذا لم يكن من مصلحة فرنسا إصلاح النظام المخزني وتحديثه، بل حافظت على بنيته التقليدية ووفرت لها الوسائل المادية والمؤسساتية لتقوية تلك البنية العتيقة لتبقى وتستمر، لأن ذلك يعني بقاء واستمرار مصالح فرنسا بالمغرب الذي استعمرته باسم الدفاع عن ذلك النظام كما قلنا. نفس الشيء يفعله اليوم حاملو الثقافة السياسية "للظهير البربري": باسم الولاء للملكية والتعلق بها، ينهبون المال العام ويمارسون التسلط، ويخرقون القانون، ويحتقرون الأحكام القضائية ويهينون المواطنين... وفي الحقيقة، من خلال تظاهرهم بالتعلق بالملكية والدفاع عنها، في شكلها العتيق والمخزني طبعا، لا يتعلقون إلا بأنانيتهم ولا يدافعون إلا عن مصالحهم الخاصة، التي يوفرها لهم النظام المخزني التقليدي، كما كانت تفعل فرنسا التي كانت تدعي حماية الملك والدفاع عنه لتبرر حماية مصالحها الخاصة. هكذا تكون الثقافة السياسية الموروثة عن "الحركة الوطنية"، بما تتسم به من نفاق وانتهازية وأنانية وانعدام للروح الوطنية وتفضيل للمصلحة الخاصة عن المصلحة العامة... هي سبب تخلف النظام المخزني وما ينتج عن ذلك من تخلف للدولة المغربية بكاملها. ولهذا فإن الشرط الأول لتحديث الملكية ودمقرطتها وعصرنتها، ولتنمية المغرب وتطويره اقتصاديا وسياسيا، هو القطع مع الثقافة السياسية "اللطيفية" التي تحكم المغرب منذ الاستقلال، هذه الثقافة التي لم تؤدّ إلا إلى مزيد من التخلف والتراجع إلى المراتب الأخيرة في سلم التنمية والتعليم على المستوى العالمي. والقطع مع هذه الثقافة السياسية لن يكون إلا بالعودة إلى الثقافية السياسية الأمازيغية المناقضة لذهنية صانعي أسطورة "الظهير البربري"، التي اختلقوها ليحاربوا بها الثقافة السياسية الأمازيغية التي تزعجهم وتضايقهم دائما. ولهذا فإن الاعتراف بأمازيغية المغرب، كهوية وقيم وثقافة سياسية وليس كعرق سيكون مفيدا أولا للملكية التي ستتخلص من العوائق التي تمنعها من التطور الإيجابي نحو التحديث والعصرنة والحكامة الديموقراطية، ومفيدا ثانيا للوطن الذي سيوضع فيه حد للذين ينهبونه ويستغلونه من خلال تسييرهم له بتطبيق مبادئ الثقافة السياسية "اللطيفية" للحركة الوطنية"، تلك الثقافة التي من مبادئها الانتهازية واستغلال النفوذ واقتصاد الريع ونهب أملاك الدولة