كان طريق العودة من المدرسة إلى المنزل رحلة طويلة قد تستغرق ما بين الساعة والثلاث ساعات كل حسب الأحداث وأحوال الطقس والاستعداد النفسي والبدني للعودة إلى البيت.وما إذا كان الوالد في المدينة أم مسافرا ففي البيت عادة تنتظرني ساعات أخرى من المراجعة وإكمال الواجب الدراسي المنزلي . وفي معظم الأحيان الاستعداد لعقوبة بسبب شكوى من معلم أو جار أو حتى مجرد عابر سبيل من أصدقاء أبي صادفني وأنا أقترف جريمة من جرائم الطفولة البريئة. "" لكن العودة من المدرسة إلى البيت في شهر رمضان كانت بالفعل مهرجانا فلكلوريا بكل المقاييس فعلاوة على أن الطريق من البوليفار إلى حي فال فلوري هو اختراق لسلسلة من الفضاءات والمستويات الاجتماعية المتنوعة بدأ من حي النصارى ومرورا بشارع فاس للدخول في المصلى كأول الأحياء الشعبية.. المجصصة شوارعها بالحجر وحيث تزكم أنفك رائحة السردين المختلطة برائحة النعناع والشيبة لتضفي على المكان رونقا فلكلوريا من زمن آخر ثم انتهاء بحومة بلجيكا كلها محطات فريدة وكل محطة بقصة ولكل قصة أثر وعلامة بعضها في الذاكرة وبعضها محستها السنون. كانت المدارس في نهاية الستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي تعتمد توقيتا رمضانيا خاصا هو عبارة عن دوام مستمر حيث كنا نسرح من المدرسة على الساعة الرابعة بعد الظهر.. تبدأ بعدها رحلة إكتشاف طفولية لعالم متوحش كم أخفى عنا حقيقته وتنكر لنا بوجه ملائكي صاف. كان رمضان فرصتنا الذهبية للتخلص من كل القيود والشروط والضوابط اليومية فالشهر كان ولم يزل شهر الخير على محبيه , ومن من الأطفال لم يكن من محبي هذا الشهر العظيم.؟ وقفت أتأمل بائعة البغرير وهي تصيح بصوت أنهكه الصيام , كانت الساعة تناهز الخامسة والنصف ولمحت قطرات العرق تتصبب من جبين هذه البدوية الأصيلة , كان منظرها يثير الفضول وهي تتزين بقبعتها الجبلية التقليدية الموشاة بالورود المصنوعة من الخيوط الصوفية الملونة. اقتربت منها بصورة لا إرادية وكأنني أتتبع رائحة البغرير لينتهي بي الأمر أمام سلة يدوية الصنع والبخار قد بلل قطعة اللحاف الأبيض الذي يخفي تحته البغرير المغربي ... كانت المسكينة تنادي .. بصوت خافت .. -خذ بغرير .. ها بغرير.. الرخا والطراوة أحسست أنها بحاجة لمواهبي في الغناء والصياح الفني الملفت للأنظار ..أو لربما دفعني الجوع إلى المرابطة أمام هذه المسكينة والاحتماء برائحة البغرير الذي كان في تلك اللحظات يبدو وكأنه مفتاحي إلى الحياة بعد يوم صيام طويل بعده لم يقطع برزخ العصر. اقتربت منها وقلت لها : -آشريفة .. خليني نبيع معاك .. كررت السؤال بإلحاح أكثر من مرة .. أخبرتها عن مواهبي في التمثيل وعن قدراتي الخارقة في إقناع الناس بأن (بغريرها) هو الأجود والأحسن والأطيب.. إستفزتها عباراتي فلمحتني بعين يتطاير منها الغضب : -هاذ بغرير ما كاينش خاه.. سير آولدي تلعب .. سير الله يرضي عليك ما تحرقليش راسي أجابتني بعد طول إنتظار وهي لا تكاد تملك من الجهد ما يسعفها في تحريك شفتيها الناشفتين وقد كست وجهها صفرة وشحوب بفعل الجوع والعطش والتعب. - آ والله العظيم حتى نبيع هاذ بغرير كامل في نص ساعة آشريفة ولم أنتظر موافقتها حيث انطلقت أصيح بصوت عال: - بغرير آ الصايم .. حاجة مزيانة ورخيصة .. ثلاثة بريال ( نصف درهم ) .. لم أكتفي بهذه العبارات بل بدأت أتفنن في حشوها ببعض المواويل والمصطلحات الغريبة بدأ أشبه بغرير السيدة البدوية بقمصان الريال مدريد ..والمارة يضحكون على كلام هذا القزم الذي انطلق ينظم الأوصاف والأبيات في بغرير السيدة الجبلية .. - بغرير من الريال مدريد .. قرب قرب .. قبل ما يودن المغرب بغرير زوين يعجب قرب قرب ألقيت بمحفظتي على جانب من قارعة الطريق وافترشت الأرض مع السيدة البدوية وانهمكت في آدائي واجبي البغريري الرمضاني , كان الناس يعتقدونني إبنها وكم أحسست بالفخر والسعادة وأنا أرى جمهور الصائمين متجمهرا حولهاولا زلت أتذكر ابتسامتها البريئة وهي تبيع آخر بغريرتين وتمد لي بعشرين سنتيما كمكافئة على عملي .. قبلت يدها باحترام ولم يك عمري يومها قد تجاوز العشرة أعوام .. كنت صائما أو هكذا كنت أظن نفسي ولن أنسى أبدا شكل البغرير الذي بعته و تمنيت لو أنني احتفظت لنفسي بواحدة للإفطار .. لكنني أبيت إلا أن أخفي شهوتي .. إنتبهت إلى تأخر الوقت فهرولت نحو المنزل .. وأنا منهمك في نسج رواية أو عذر لتأخري وما أن دخلت الدار حتى انسجمت في وئام رمضاني كان نادرا ما يحدث في طفولتي الشاحبة. عدت في اليوم الموالي بحثا عن نفس السيدة .. وكم كانت دهشتي وأنا أرى البدوية مبتهجة برؤيتي وهي تناديني : -العايل آ العايل ( العايل في شمال المغرب تعني الولد) أجي .. أجي الغزال (صيغة من صبغ المدح) إذا عاونتيني اليوم بحال البارح ماش نتهلا فيك بزاف طلبت منها أن تضع لي بغريرة على جنب فلم تتردد المسكينة في الموافقة ..أظهرت بعض الثقة في النفس والإحترافية بحركات خفيفة خلتها في غاية الحذق ثم انهمكت في الصياح والغناء وفي لحظة وبينما أنا منحني أحضر طلبات المشترين سمعت صوتا يشبه صوت والدي .. كان واقفا فعرفته من حذاءه وبنطلونه حتى قبل أن أغمض عينا وأفتح أخرى وأنا ارفع رأسي للتأكد: - بشحال بغرير آ المرا أحسست أن مسا كهربائيا قد اخترق مسمعي .. إنه بالفعل والدي .. التقت عيني بعينيه .. فلم يمنح نفسه فرصة التأكد أنني إبنه ..ألقى بيده بين الجموع والتقطني من عنقي كدجاجة على مشارف الذبح .. سالني ماذا أفعل هنا ؟ ولماذا لم أذهب إلى البيت ؟ فتمتمت ببعض الكلمات غير المفهومة .. كنت أرتعش خوفا .. وبدأت أتخيل ما هو آت...فلم تمنحني السيدة البدوية فرصة البحث عن كذبة - هاذ العايل غير كيعاوني آسيدي .. ماشي ولدي.. الله يعمرها نقلة.. البارح باع معايا كلشي. لم يلتفت والدي إليها ..تركها تصيح من وراءه .. خوذ بغرير ديالك آشريف .. أما أنا فأترك لكم فرصة تخيل نوع الوليمة التي كنت مدعوا إليها .. فكل ما أذكره والله أعلم أنني رأيت النجوم وركدت فوق سطح القمر ورجلايا محمولتان إلى الأعلى وأنا أستنجد بجدتي رحمة الله عليها .. التي جاءت لكن بعد أن تحولت القدمان إلى بغريرتين .. وإلى اللقاء