"قميص خوان" على قياس "قميص عثمان". تشهد اليوم أوروبا والغرب بشكل عام نموًّا متزايدًا لليمين المتطرف، ويتنامى مد العنصرية ضد المهاجرين المسلمين بالدرجة الأولى بشكل سريع ومقلق. بعض المحللين يرون في هذا الأخير ما يشبه عودة كراهية السامية في شخص المسلمين بدل اليهود، والأدهى من ذلك تطبيعها كما كان الحال مع اليهود في عشرينيات القرن الماضي قبل تبرير تصفيتهم وطردهم من ألمانيا. وكما كان الأمر مع اليهود في أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية، يُحمِّل خطاب الكراهية المهاجرين المسلمين مسؤولية كل الأزمات التي تعيشها أوروبا اليوم، الأمنية بالدرجة الأولى، والاقتصادية والسياسية والثقافية، وتهديدهم للهوية "المسيحية" الأصلية. كأن التاريخ يعيد نفسه اليوم، وليس في ألمانيا فقط، بل في كل دول الاتحاد من شمالها إلى جنوبها. زعيمة الحزب الشعبي ورئيسة حكومة مدريد الجهوية إيصابيل أجوسو (Isabel Ayuso) تُبرر تمييزها بين المهاجرين من أمريكا اللاتينية والمهاجرين المسلمين، بأن الأوائل أقرب ثقافيًا ودينيًا للإسبان، يدينون كأغلب الإسبان بالمسيحية، وأنهم ليسوا أجانب بل مواطنين في بلدهم الأم إسبانيا التي اكتشفت القارة الأمريكية ونقلت إليها الحضارة على حد زعمها في حوار صدر في جريدة "الباييس" الإسبانية يوم 2 شتنبر 2024. وتُلمِّح الزعيمة اليمينية إلى أن المهاجرين المسلمين، وبالخصوص من شمال إفريقيا، يرمزون إلى "صدام حضاري وثقافي" مع الإسلام والمسلمين وتاريخهم الدموي في "الغزو" سابقًا و"الإرهاب" الآن، وأنهم بمثابة حصان طروادة لغزو إسلامي قادم. وفقًا لأجوسو، ينشر المهاجرون المسلمون ثقافة معادية للثقافة المسيحية على حد زعمها مثل ختان الإناث وتعدد الزوجات وإجبار النساء على ارتداء الحجاب وغيرها من الصور النمطية الشائعة عن المسلمين، وهو ما تعتبره تهديدًا للعادات والحريات الغربية والديانة المسيحية السائدة. ينتشر هذا الخطاب بشكل كبير في أغلب دول الاتحاد الأوروبي، بتعريف مثير يجمع بين الدفاع عن حرية المرأة التي يعتبرها اليمين المتطرف والمحافظ الآن في منافسته مع اليمين المتطرف مستهدفة بالدرجة الأولى من المهاجرين المسلمين. ويتقاطع هذا الخطاب أحيانًا مع خطابات اليسار المحافظ الجديد، وهو ما أصبح يُعرف ب "القومية النسوية" (Feminacionalismo). أصبح موضوع الهجرة والمهاجرين المسلمين بالخصوص في إسبانيا والدول الغربية بشكل عام من المواضيع التي تشغل الرأي العام الغربي الموضوع الأول الذي يشغل الرأي العام الإسباني حسب آخر استطلاع للرأي للمركز الوطني للبحث والإحصاء (CIS) ، والعديد من الدراسات تُشير إلى أن اليمين المحافظ التقليدي واليمين المتطرف الجديد في إسبانيا يرفعان من حدة هذا النوع من الخطاب، خاصة ضد المسلمين، وتطبيع صورة المهاجرين المسلمين واستحالة اندماجهم مع القيم الغربية، وأنهم مقدمة لغزو جديد يتهدد الغرب المسيحي. وقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام في تضخيم هذا الخطاب والتطبيع مع تداوله وانتشاره بشكل غير مسبوق، لا يختلف كثيرًا عن الحملة التي أطلقتها النازية ضد اليهود سنة 1920. تطورت ترسانة قوانين محاربة العنصرية والكراهية في دول الاتحاد الأوروبي وأغلب دول مجلس أوروبا خلال عشرين سنة الأخيرة، وتعددت اللجان والمؤسسات المختصة في مراقبة نمو الكراهية ضد المهاجرين والأقليات، ونظمت الحكومات خلال ما يزيد عن ثلاثة عقود حملات واسعة للتحسيس بخطورة التطبيع مع خطاب الكراهية بشكل عام وضد المسلمين وباقي الأقليات. لكنها لم تُفلح في لجم انتشار خطاب الكراهية والحد من تناميه، بل أصبحت هذه الحملات محفّزًا ومبررًا لتنامي اليمين المتطرف، ومنجمًا للأصوات يتنافس عليها اليمين المحافظ والليبرالي، بتبني خطاب الكراهية والتطبيع معه وإلغاء كل الخطوط الحمراء في ممارسة هذا الخطاب بدعوى حرية التعبير. ومن مفارقات هذه التحولات في الرأي العام الغربي وتأثيرها على الناخب أن بعض الأحزاب اليسارية في أوروبا تبنتها بشكل صريح كما هو الحال في ألمانيا مع حزب اليسار المحافظ الجديد بزعامة ساهرا فاغنكنخت وكذلك الأمر مع أحزاب يمينية قومية انفصالية، كما هو الحال مع حزب "أليانسا كاطالانا" (Alianza Catalana) اليميني الانفصالي المتطرف في كاطالونيا، والذي تمكن لأول مرة من تمثيلية في البرلمان الجهوي الكطلاني في انتخابات ماي 2024. يقول إدواردو تينا (Eduardo Tena)، منسق دراسة عن "اليمين الراديكالي الأوروبي في الوقت الحاضر: خطاب الكراهية والإسلاموفوبيا": "ما يُعرف الآن ب "القومية النسوية" لا يزال أقل تطورًا في إسبانيا مقارنة بدول أخرى في وسط وشمال أوروبا، لكنه ينتشر بشكل أسرع، ويجد مبرراته في إسبانيا بسبب تاريخها الغني بمشاهد الحرب والصراع مع الموروس". وتقديري أن كلًا من الحزب الشعبي (PP) وفوكس (Vox) يستخدمان هذا المورد الذي لا يزال حاضرًا في المخيال الجمعي الإسباني تجاه "الموروس". وأحيانًا تتماهى مؤقتًا هذه الأحزاب اليمينية المتطرفة مع خطاب العلمانية والحرية والمساواة وحماية الأقليات لتوسيع دائرة الدعم لأطروحتها العنصرية وكسب تعاطف الناخب العادي، وتصل أحيانًا الدائرة حتى إلى مهاجرين من جنسيات أخرى من المسيحيين. الكطلانية أوريولس زعيمة الحزب اليميني الانفصالي المتطرف، لم تُعلن فقط دعمها ل "الدولة العلمانية" على عكس ما تدعو له الأحزاب اليمينية المتطرفة المعادية لفصل الدين عن الدولة وللإجهاض والمساواة بين الجنسين وحقوق المثليين... بل تجاوزته بشكل استفزازي وغير مألوف من طرف اليمين المتطرف حين أمرت هذه السنة برفع علم المثليين في واجهة مقر بلدية ريبول (Ripoll) حيث تشغل منصب العمدة، لاستمالة باقي الأقليات وكسب أصواتها. والخلاصة أن كل شيء أصبح اليوم جائزًا في خطاب اليمين المتطرف إذا كان يساعد في حرب تبدو كأنها صليبية ضد المهاجرين المسلمين. لم تعد هناك خطوط حمراء أمام خطاب العنصرية والكراهية ضد المهاجرين الذي يتزعمه بوقاحة غير مسبوقة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والمرحلة تعلن عن انهيار صريح لجدار الغرب الحضاري الواقي من آفات التطهير العرقي والكراهية واضطهاد الأقليات، مقابل الدعوة الصريحة لحماية الهوية "الغربية المسيحية" والحريات والأقليات، بما فيها المثلية، ضد أعدائها من "الغزاة" المتسللين وسط طوابير المهاجرين واللاجئين المسلمين. المشهد الذي اتسعت رقعته في أوروبا بشكل مخيف، وفي الغرب بشكل عام، واختراق اليمين المتطرف للمؤسسات الأوروبية وسقوط الحرج في إدماجه وتطبيعه، ينذر بهولوكوست جديد يهدد المسلمين، ويهدد بتطهير يبدأ بالأقليات المسلمة في الغرب، باعتماد قاعدة "قميص خوان" قياسًا ب "قميص عثمان"، وينتهي حتمًا بتطهير باقي الأقليات وعودة الدولة الأصولية الكاثوليكية المتطرفة المعادية لكل أشكال التنوع والتعدد الثقافي والديني، ومحاربتها عبر حملات الطرد والتهجير القسري، إن لم يصل الأمر إلى حدود التنصير الإجباري والتطهير العرقي. هذه هي أوروبا التي تتراجع بشكل مقلق ومخيف عن المصالحة مع ذاتها، ومع تاريخها وماضيها ومآسيها، وكما تتراجع عن الاعتراف بتعددية روافد وجودها وغناها وقوتها ومستقبلها. هي نفسها وحتى لا أبدو متشائمًا أوروبا التي لا تزال تصارع من أجل تطورها واستمرارها كفضاء للتعايش والحرية والتعدد الثقافي المؤسس لهوية جديدة أساسها الإنسان أولًا وأخيرًا. هو نفسه الغرب الذي ترتفع فيه أصوات تواجه هذه الخطابات والسياسات بصراحة وجرأة ضد ما سماه أمين معلوف في كتابه الأخير "متاهة الضائعين الغرب وخصومه"، كما هو الحال مع المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، والإسباني خوان غويتيصولو، ولائحة طويلة من العقلاء وصُنَّاع الأمل. وللحديث بقية مع زخم المستجدات في موضوع الهجرة والمهاجرين...