عاشت ساكنة قصور المغرب الشرقي في الأيام الماضية الرعب، جراء الفيضانات والسيول التي عرفتها المنطقة، والتي خلفت خسائر بشرية ومادية جسيمة. تضررت معها مناطق طاطا، ورزازات، وزاكورة، حيث غرقت منطقتا تاكونيت ولكتاوة بمياه السيول. ويُعد قصر البليدة بجماعة كتاوة من بين المناطق المتضررة، والذي تربطني به وبأهله وشائج عائلية ومهنية. فاختلطت لدي صدمة وهول ما خلفه الفيضان وما عاشته المنطقة بمشاعر نوستالجية وأحاسيس عميقة. قصر البليدة، التابع لجماعة كتاوة قيادة تاكونيت إقليم زاكورة، منطقة محاذية للحدود المغربية الجزائرية. امتلأت ذاكرة هاتفي بصور قادمة من هنا وهناك: فيضانات، سيول، دور تهدمت وأخرى تشققت، ساكنة تشردت وملاذها الوحيد كان مسجد القصر. اختلطت لدي المشاعر؛ فرح بأمطار الخير التي طال انتظارها في واحات كانت تحتضر، وحزن وألم على معاناة الساكنة التي أنتمي إليها وعشت بينها. في دروب ونخيل قصرها شاركتهم الأفراح والأتراح، وعلّمت أبناءها في مدرسة القصر التي عملت فيها أربع سنوات منذ سنة 1998، فصار منهم القاضي والمحامي والأستاذ والفلاح... حديثي عن قصر البليدة هو بمثابة نموذج لقصور المغرب الشرقي، التي أنهكتها سنوات الجفاف المتعاقبة وقطارات التنمية التي تتوقف عندما تصل إلى هذه الربوع. ذنبه الوحيد أنه جغرافيًا يقع في المغرب المنسي. حديثي عن البليدة، حيث ولدت في سنة المسيرة الخضراء، والتي تركتها عائلتي وسني خمس سنوات في بداية الثمانينات من القرن الماضي، بفعل الجفاف والتهميش الممنهج الذي طال المنطقة ومازال في الصحة والتعليم والشغل. احتضنتنا مدينة سلا العالمة. ومن أقدار الزمان، أنه بعد تخرجي من مركز تكوين المعلمين والمعلمات بالعرائش، تم تعييني في قريتي لأعود إليها مجددًا كمعلم بمجموعة مدارس البليدة، التي يعود تأسيسها لأيام الاستعمار الفرنسي. البليدة في ذلك الوقت لم تكن كما هي اليوم؛ لا ماء فيها ولا كهرباء ولا طرق معبّدة، فلاحة معاشية وساكنة تعيش وتقتات على ما يرسله أبناؤها الذين يعملون في المدن الكبرى. قضيت أربع سنوات صعبة، وأنا شاب في مقتبل العمر، يحدوني الطموح للأحسن والأفضل. ولكن بلسم تلك السنوات كان القلوب الطيبة والكرم الحاتمي لأهل بلدتي، رغم ضيق الحال. أعادتني الفيضانات وصورها إلى تلك السنوات، وإلى أناس أعرفهم فعل بهم الزمان ما فعل بنا. وهنَت العظام واشتعل الرأس شيبًا... لا ضير في ذلك، ولكن ما ألمني وحزّ في نفسي، كباقي ساكنة المغرب الذين شاهدوا معاناة الناس في هذه الفيضانات، هو رؤية منازلهم تتهاوى وهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء. لكنهم عندما يستنجدون ويستغيثون ويطلبون المساعدة، يستنجدون بالمحسنين، وليس بحكومة عزيز أخنوش "الاجتماعية". فقد سئموا ويئسوا من أن تطرق التنمية الاقتصادية والاجتماعية أبواب بلدتهم، وأن يروا وزراءنا الأكارم يزورون بلدتهم للتخفيف عن معاناتهم والقيام بمشاريع تعيد الأمل لساكنة المغرب المنسي. كشفت فيضانات البليدة – كتاوة، تاكونيت، زاكورة – هشاشة البنية التحتية في هذه المناطق، والمشاريع المغشوشة التي أُنجزت، مثل طريق البليدة عبر مركز تاكونيت أو الطريق المار عبر معبر تقات. وهذا يستدعي محاسبة المسؤولين عن إنجاز هذه المشاريع، وربط المسؤولية بالمحاسبة محليًا، جهويًا، ووطنياً. فمثل هذه المشاريع قد تبدو بسيطة في المدن الكبرى، لكنها مهمة وجبارة في مثل هذه المناطق. عبر هذه المشاريع يمكن فك العزلة عن السكان والتواصل بينهم، كما تعد قاطرة للتنمية السياحية في هذه الربوع. أمام هذا الكم من الألم والحسرة والإحساس بالغبن، تبقى الجمعيات التنموية النقطة المضيئة في هذه الربوع، عبر تطوع أعضائها ومساعدتهم لبعضهم البعض. جمعية البليدة للتنمية، التي أسستها منذ أكثر من عشرين سنة رفقة بعض الأساتذة الأجلاء، قامت بما يجب أن تقوم به الجماعة الترابية والمنتخبون المحليون والبرلمانيون في دعم السكان وجلب المساعدات لهم وتوزيعها. هي فيضانات وسيول، روت أشجار النخيل التي أنهكتها سنوات الجفاف المتعاقبة ومرض البيوض القاتل، وغذت واحات المغرب الشرقي التي كانت جرداء وتنتظر احتضارها. هي فيضانات وسيول، رغم ما خلفته من خسائر ودمار، إلا أنها أعادت الحياة إلى هذه الربوع، سقت الحرث وملأت السدود. لكنها فضحت أيضًا هشاشة هذه المناطق، وكشفت لنا أننا أمام مغربين: مغرب السرعة القصوى، حيث التنمية على كافة الأوجه، ومغرب آخر يمشي كالسلحفاة، وساكنته تعاني في صمت، قدرها أنها جاءت في المغرب المنسي. هي فيضانات وسيول، جعلتنا نستفيق من سباتنا لنسائل حكومة "الكفاءات الموقرة"، الحكومة الاجتماعية لعزيز أخنوش: ما هو نصيب قصر البليدة، كتاوة، وباقي قصور المغرب الشرقي من النهضة التنموية التي تعرفها بلادنا على جميع الأصعدة والمجالات؟