لعله من نافلة القول أن نؤكد بدورنا على أن دستور 2011 عمل على التخفيف من ظاهرة اللاتوازن بين الصلاحيات الدستورية التي طبعت الدساتير السابقة والتي تميزت بالحضور المركزي للمؤسسة الملكية، وإذا كانت هذه الأخيرة قد عرفت تقييدا لبعض صلاحياتها، فإن الوثيقة الدستورية لسنة 2011 عملت على تقوية صلاحيات البرلمان والحكومة، عبر ترحيل وتحويل جزء من الصلاحيات الدستورية من خانة المؤسسة الملكية إلى خانة الحكومة والبرلمان، مما يعني أن دستور 2011 ذهب في اتجاه تحقيق توزيع جيد بين السلط لا يصل إلى درجة التوازن الحقيقي بالمنطق الرياضي. لكن واقع الحال يثبت عكس ذلك إذ يلاحظ استمرار هيمنة الحكومة على المسطرة التشريعية وعلى الأدوات الرقابية للبرلمان بسبب آليات العقلنة البرلمانية، وفي هذا السياق، لم يُبْدِ العديد من الأكاديميين رضاهم عن مستوى ممارسة البرلمان للأدوار التشريعية والرقابية والتقييمية للمؤسسة التشريعية خاصة بعد توسيع صلاحيتها في دستور 2011، منتقدين التلازم بين الأغلبية الحكومية والأغلبية البرلمانية ومحاصرة البرلمان بتقنيات العقلنة البرلمانية بالإضافة إلى "محدودية" حضور البرلمان في مجال التشريع مقابل "هيمنة" الحكومة على حصيلة التشريع. ويرى معظمهم أن الممارسة البرلمانية تؤكد بالملموس على معطى مهم وهو التلازم بين الأغلبية البرلمانية والأغلبية الحكومية، وما يزكي هذا التلازم هو النص الدستوري الذي يؤكد على ضرورة تعيين رئيس الحكومة من قبل الملك بناء على نتائج انتخابات أعضاء مجلس النواب. وقد أدى هذا التلازم إلى نوع من الارتباط ليس فقط على المستوى القانوني وإنما كذلك على المستوى العضوي إلى درجة أن أصبح البعض يتحدث عما يعرف بالحكومة البرلمانية. هذا الدمج العضوي بين مكونات الأغلبية البرلمانية ومكونات الحكومة هو الذي يفسر تنديد المعارضة في الكثير من المرات بما تعتبره هيمنة بالمنطق الأغلبي والعددي وغالبا ما يكون لهذا التلازم والدمج بين الأغلبية البرلمانية والأغلبية الحكومية تأثير على أداء البرلمانيين الذين ينتمون إلى الأغلبية سواء في ما يتعلق بالمبادرة التشريعية أو المبادرة الرقابية وكل ما يرتبط بوظائف البرلمان. وانطلاقا مما سبق يتبين أن موضوع التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في المغرب، وكذا الكشف عن جدية تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات، في التجربة المغربية، يثير إشكالية أساسية تتمثل في ما يلي: ما هي مظاهر غياب التوازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في التجربة المغربية؟ ثم ما مدى احترام مبدأ فصل السلط من خلال ممارسة المجال التشريعي بالمغرب على ضوء دستور 2011؟ في ظل هذه الإشكالية يمكننا طرح مجموعة من الأسئلة الفرعية أهمها: – ما هي حدود المجال التشريعي للبرلمان المغربي؟ – ما مدى توازن العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية انطلاقا من مبدأ فصل السلط؟ – وما هي مظاهر اكتساح المجال التنظيمي للقانون من خلال المنتوج التشريعي والممارسة؟ سنحاول إذن أن نجيب عن هذه الأسئلة وغيرها بما يسمح لنا به المقام محاولين قدر الإمكان أن نعطي وجهة نظر متواضعة خاصة من خلال تقديم بعض من مظاهر غياب التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في المغرب حيث يثبت واقع الحال عدم احترام مبدأ فصل السلط من خلال ممارسة المجال التشريعي بالمغرب، وكذا استمرار هيمنة الحكومة على المسطرة التشريعية وعلى الأدوات الرقابية للبرلمان بسبب آليات العقلنة البرلمانية، وسنحاول من خلال هذه المقالة أن نجيب عن هذه الأسئلة وذلك بالتطرق إلى المحاور التالية: المحور الأول: حدود السلطة التشريعية للبرلمان في القانون والممارسة طبقا لمقتضيات الفصل 70 من دستور 2011، يمارس البرلمان المغربي السلطة التشريعية، فيصوت على القوانين، ويراقب عمل الحكومة، ويقيم السياسات العمومية. يمارس البرلمان السلطة التشريعية. كما تحدد الفقرة الأولى من الفصل 78 من الدستور أن لرئيس الحكومة ولأعضاء البرلمان على السواء حق التقدم باقتراح القوانين. ويحدد الفصل 71 الميادين التي يختص القانون بالتشريع فيها، بالإضافة إلى المواد المسندة إليه صراحة بفصول أخرى من الدستور، وهي اختصاصات على سبيل الحصر. وبالإضافة إلى مجموعة من النصوص الدستورية التي تبرز المحدودية القانونية للسلطة التشريعية للبرلمان، هناك محدودية واقعية وإكراهات ذاتية تشكل قيودا أخرى أفرزتها الممارسة العملية وتعد انعكاسا لما هو قانوني. ومن بين هذه الإكراهات نذكر ما يلي: أولا: رفض التكليف العمومي في المقترحات والتعديلات يسهر البرلمان والحكومة على الحفاظ على توازن مالية الدولة، وللحكومة أن ترفض بعد بيان الأسباب، المقترحات والتعديلات التي يتقدم بها أعضاء البرلمان، إن كان قبولها يؤدي بالنسبة لقانون المالية إلى تخفيض الموارد العمومية أو إلى إحداث تكليف عمومي أو الزيادة في تكليف موجود. فإذا كانت سلطة الاقتراح والمبادرة مخولة بموجب النص الدستوري للسلطة التشريعية، فإن سلطة هذه الأخيرة في تعديل مقتضيات مشروع قانون المالية محدودة جدا، حيث تقتصر فقط على إمكانية الزيادة في حجم المداخيل أو تخفيض النفقات العامة. ففي المجال المالي، يمكن إثارة عدم القبول في كل لحظة من طرف الحكومة لرفض كل مقترح من شأن قبوله أن يؤدي إلى تقليص الموارد أو الزيادة في النفقات. بيد أن هذه السلطة من اختصاصها اقتراح مشاريع قوانين تبلور حاجيات السكان، وتوجه النفقات العامة نحو تقوية البعد الاجتماعي للمشاريع المبرمجة، في حين تواجهها الحكومة بمجموعة من القيود. ذلك أنه من الصعب التقدم باقتراح قانون أو تعديل يستجيب لحاجيات السكان وليس له تأثير مالي، رغم أن المادة 56 من القانون التنظيمي رقم 130.13 المتعلق بقانون المالية الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.15.62 بتاريخ 2 يونيو 2015 في الجريدة الرسمية عدد 6370 بتاريخ 18 يونيو 2015، ص. 5810. حاولت التخفيف من هذا القيد الدستوري بتنصيصه على أن المراد بالتكليف العمومي في ما يخص الموارد الإضافية أو تعديلات تلك الاعتمادات المفتوحة برسم الفصل نفسه. ثانيا: رفض التعديل لعدم سبق عرضه على اللجان إذا كان الفصل 83 من الدستور يمنح لأعضاء مجلسي البرلمان وللحكومة حق التعديل في النصوص التشريعية؛ فإنه يخول للحكومة بعد افتتاح مناقشة مشروع القانون في الجلسات العامة لمجلسي البرلمان، الحق في أن تعارض في بحث كل تعديل لم يعرض من قبل على اللجنة التي يعنيها الأمر، وبالتالي فالحكومة وحدها تمتلك صلاحية إدخال تعديلات جديدة على مشروع القانون خلال الجلسات العامة. وبالإضافة إلى اقتصارها على التعديلات المقبولة أو المقترحة من قبلها، يمكن للحكومة طلب البت في المشروع بتصويت واحد أو التصويت المغلق " Le Vote Bloqué" لتضمن إخراج مشروعها بدون تعديلات من قبل البرلمان، والاقتصار على التعديلات المقترحة أو المقبولة من طرفها. ثالثا: حدود سلطات البرلمان في التصويت وفي قانون المالية يتضمن الدستور مقتضيات تحد من سلطة البرلمان في التصويت وتكرس ضعف دوره في قانون المالية، فتمكن الحكومة من تجاوز سلطته بعدم التصويت على قانون المالية في نهاية السنة، أو في حالة عدم صدور الأمر بتنفيذه بسبب إحالته على المحكمة الدستورية، حيث تستخلص المداخيل باستثناء المقترح إلغاؤها، وتفتح بمرسوم الاعتمادات اللازمة لسير المرافق العمومية والقيام بالمهام المنوطة بها على أساس ما هو مقترح بالميزانية المعروضة بقصد الموافقة. وطبقا لمقتضيات الفصل 75 من دستور 2011، يصوت البرلمان مرة واحدة على نفقات التجهيز (الاستثمار) التي يتطلبها، في مجال التنمية، إنجاز المخططات التنموية الاستراتيجية، والبرامج متعددة السنوات، التي تعدها الحكومة وتطلع عليها البرلمان، وعندما يوافق على تلك النفقات، يستمر مفعول الموافقة تلقائيا على النفقات طيلة مدة هذه المخططات والبرامج، وللحكومة وحدها الصالحية لتقديم مشاريع قوانين ترمي إلى تغيير ما تمت الموافقة عليه في الإطار المذكور. ويضاف إلى ما سبق الإيداع المتأخر لمشروع القانون المالي وضيق الحيز الزمني المخصص للبرلمان من أجل الموافقة على قانون المالية، إذ ينبغي الإشارة هنا إلى أن المدة الزمنية المخولة لمجلسي البرلمان من أجل دراسة مشروع قانون مالية السنة والتصويت عليه لا تتعدى 52 يوما: 30 يوما لمجلس النواب و22 يوما لمجلس المستشارين، بينما تصل المدة الزمنية الممنوحة للبرلمان الفرنسي إلى 60 يوما، وتقدر هذه المدة بالنسبة للبرلمان المصري في 3 أشهر على الأقل. زد على ذلك غياب الجدوى في التصويت على قانون التصفية باعتباره قانونا يحصر حسابات نتيجة سنة فارطة، وحصيلة تنفيذ ميزانية تحكم فترة سابقة، وغياب الاهتمام البرلماني به على الرغم من التصرف الواسع للحكومة في بنوده مما قد يجعله يختلف عن الترخيص البرلماني، وبالتالي عدم تقييم أوجه القصور والخلل في الأداء المالي للحكومة. لكن حدود سلطات البرلمان لا تقف عند مسطرة اعتماد قوانين المالية فقط بل تتعداه إلى مضامينها، فتتضمن مواضيع ومجالات خارجة عن تلك المحددة بمقتضى المادة 6 من القانون التنظيمي للمالية 130.13، والتي يجب أن تنحصر في الأحكام المتعلقة بالموارد والتكاليف أو تهدف إلى تحسين شروط التحصيل ومراقبة استعمال الأموال العمومية، وتدخل ضمن قوانين إجرائية أو موضوعية أخرى ليس لها طابع مالي. وبذلك تخلق الحكومة ضمن قانون المالية مقتضيات تشريعية جديدة تمس بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور، وتدخل ضمن ما يسمى ب"الفرسان الموازنية"، أي تلك المقتضيات المضمنة في قانون المالية ولكنها لا تتلاءم مع طبيعة النص المنظم له، ويمكن أن يتم إضافة هذه المقتضيات بمبادرة من الحكومة أو البرلمان، توسع بموجبها مجالات تدخل قانون المالية من أجل تمرير برامجها، باعتبار أن قانون المالية وثيقة ذات طبيعة سياسية تعكس طبيعة العلاقة وموازين القوى بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. وهكذا، فقد تضمنت المادة 7(ب) من قانون مالية 2018، إقحام مقتضيات تتعلق بتضريب القطاع التعاوني، وتضمنت المادة 9 من قانون مالية 2020، عدم إلزام تنفيذ الأحكام القضائية على أموال وممتلكات الدولة والجماعات الترابية ومجموعاتها إلا في حدود الاعتمادات المتوفرة في ميزانياتها دون إخضاعها للحجز... وغيرها من النصوص، حيث تتحول الحكومة إلى المشرع الأصلي وتحد من الصلاحيات التشريعية للبرلمان الذي يصبح مشرعا ثانويا. بناء على ما سبق ذكره، يتضح أن التشريع المالي يعد جزءا لا يتجزأ من هيمنة الحكومة على التشريع العام. فإذا كان التشريع المالي إحدى أهم مجالات الاختصاص البرلماني، فإن سلطة البرلمان في هذا المجال تظل جد محدودة وغير فعالة، والسبب في ذلك راجع لمجموعة من العوامل يتعلق جزء كبير منها بتبني المشرع الدستوري لفلسفة العقلنة البرلمانية من نظيره الفرنسي، خاصة على مستوى قوانين المالية، من خلال مجموعة من القيود الدستورية والقانونية المفروضة على الاختصاصات المالية للبرلمان، والتي فوتت الهيمنة والتفوق للحكومة على البرلمان في التشريع المالي، من خلال انفراد الحكومة بإعداد مشروع قانون المالية، وإخضاع سلطة البرلمان لمجموعة من القيود الدستورية والقانونية في تعديل هذه القوانين والتصويت عليها ومراقبة تنفيذها بعد المصادقة عليها. رابعا: الحدود المتعلقة بالإكراهات الذاتية للسلطة التشريعية وتتعلق هذه الإكراهات بتركيبة البرلمان، حيث أن العديد من النواب والمستشارين ليس لديهم مستوى تعليمي أو تكوين أو خبرة، ولا يتوفرون على الكفاءات والمؤهلات الضرورية لإنتاج القواعد القانونية والتقصي والبحث ومراقبة عمل الحكومة، وبالتالي ليست لديهم إمكانيات المساهمة بفعالية في الإنتاج التشريعي وخاصة المالي. وهذه النسبة من البنية الفكرية الضعيفة أو الهشة تجعل من السهل التأثير على العديد من أعضاء المجلسين من طرف الحكومة. إضافة إلى أن الجهاز التنفيذي يتحكم في مصادر المعلومة والمعرفة (الإحصائيات، المعطيات، الدلائل، الحقائق، الأرقام، الملفات...) مما يبقي الرقابة البرلمانية حبيسة الشكليات دون إمكانية النفاذ إلى جوهر وعمق الأشياء، وفي المقابل إمساك الإدارة بسلطة مقتنعة وحاسمة في العديد من الأمور. كما أن وجود أغلبية مساندة للحكومة تفوق عدديا أصوات المعارضة يضمن لها تمرير مشاريع القوانين، وتوفر لمقتضياتها الحصانة من التعديل أو الإلغاء. ولقد أظهرت حصيلة تفاعل الحكومة مع مقترحات القوانين البرلمانية هيمنة السلطة التنفيذية على التشريع، مقابل ضعف المبادرات البرلمانية المعتمدة خلال النصف الأول من عمر الولاية التشريعية الجارية، فإلى حدود الأسبوع الأخير من شهر يونيو من سنة 2024، بلغ عدد المبادرات التشريعية بمجلس النواب ما مجموعه 284 مقترح قانون، وصلة منها ستة مقترحات إلى مرحلة المصادقة بالغرفة الأولى للبرلمان، كما أن 76 في المائة من هذه المبادرات التشريعية تقدمت بها أحزاب المعارضة (216 مقترحًا)، بينما تقدمت أحزاب الأغلبية ب 68 مقترح قانون إلى حدود ما مر من الولاية التشريعية الحادية عشرة، وهو ما يمثل قرابة 24 في المائة، وكان للفريق الحركي حصة الأسد ضمن هذه المقترحات، إذ تقدم ب 75 مقترحًا (26 %)، متبوعًا بالفريق الاشتراكي، ثم المجموعة النيابية للعدالة والتنمية، فالأصالة والمعاصرة، والتقدم والاشتراكية، والتجمع الوطني للأحرار، والاستقلال، ثم النواب غير المنتمين، فالفريق الدستوري الديمقراطي الاجتماعي. ووافقت الحكومة مبدئيًا، خلال هذا النصف من الولاية التشريعية الحالية، على 12 مقترح قانون قادم من مجلس النواب، بينما تمت المصادقة بالمجلس ذاته على ثمانية مقترحات قوانين، ضمنها مقترح مشترك بين فرق الأغلبية وفرق المعارضة باستثناء العدالة والتنمية، بالإضافة إلى مقترحين تمت إحالتهما من مجلس المستشارين. وتعتبر هذه الحصيلة بالنسبة للحكومة جيدة، إذ سبق للوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالعلاقات مع البرلمان، الناطق الرسمي باسم الحكومة، مصطفى بايتاس، أن قال، خلال جلسة عمومية للأسئلة الشفوية بمجلس المستشارين يوم 11 يونيو الماضي، إن الحكومة أعطت "أهمية بالغة" للمبادرات التشريعية بالبرلمان، وأوضح، جوابًا على أسئلة آنية طرحها كل من فريق التجمع الوطني للأحرار والفريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية والفريق الحركي وفريق الأصالة والمعاصرة ومجموعة الدستوري الديمقراطي الاجتماعي، أن الحكومة تسعى جاهدة لتفعيل التزاماتها الواردة في البرنامج الحكومي، وتعمل على تعزيز التعاون البناء والتواصل المستمر مع البرلمان، في إطار "احترام فصل السلط وتعاونها المثمر". وفي تعليق على هذه الحصيلة من حيث المقترحات التي قبلتها الحكومة، يمكن القول إنها تدخل ضمن المتوسط، الذي يتراوح بين 12 و24 مقترحًا في الولاية التشريعية الواحدة، وعلى الحكومة أن تبذل مجهودًا أكبر في التفاعل مع مقترحات القوانين ويلاحظ بجلاء كبير أن عملية تفاعل الحكومة مع المقترحات لا تسير بسلاسة خلال هذه الولاية التشريعية، لأن هناك جانبًا مرتبطًا بأغلبية عددية مريحة للحكومة، وهناك تمرين ديمقراطي مهم وهو ضرورة مناقشة المقترحات في اللجان، ثم بعد ذلك رفضها أو قبولها، وهنا نشدد بقوة على ضرورة منح المعارضة الفرصة للتعبير عن موقفها السياسي من خلال المقترحات، بغض النظر عن قبول الحكومة للمقترح من عدمه، وذلك طبقا لما ينص عليه الفصل 82 من الدستور. وذلك كما يلي "يضع مكتب كل من مجلسي البرلمان جدول أعماله. ويتضمن هذا الجدول مشاريع القوانين ومقترحات القوانين، بالأسبقية ووفق الترتيب الذي تحدده الحكومة"، كما حدد الفصل ذاته يوما واحدا على الأقل في الشهر لدراسة مقترحات القوانين، ومن بينها تلك المقدمة من قبل المعارضة. ومن جهتها، تنتقد أحزاب المعارضة "هزالة" حصيلة تفاعل الحكومة مع مقترحاتها في مجلس النواب، وترى أنها تتجاهل العديد من المقترحات، خصوصًا بعض المقترحات الناجعة التي يكون لها أثر إيجابي وقد تساهم في عملية تجويد التشريع بالمغرب. وغالبا ما تشدد هذه الأحزاب على أن التشريع يعد من اختصاصات البرلمان الأصيلة، لكن مع ذلك ترفض الحكومة الكثير من مقترحات القوانين، بل ترفض حتى مناقشتها في اللجنة، وهذا يعتبر "إفراغًا للمؤسسة التشريعية من مهامها". وتدعو هذه الأحزاب الحكومة إلى احترام الدستور والنظام الداخلي لمجلس النواب واحترام المعارضة والتفاعل مع مبادراتها التشريعية. ويمكن تجاوز هذه العقبات والاختلالات عبر اجتهاد المؤسسات الحزبية في تزكية الكفاءات والأطر ذات التكوين في ميادين القانون والاقتصاد، حتى تتمكن المجالس التشريعية من تقديم مقترحات قوانين في مستوى الاستجابة لمختلف الأولويات التشريعية، وكذا تمكن الأعضاء من المناقشة الدقيقة والوافية والعميقة لمشاريع القوانين المقدمة من قبل الحكومة بالتنقيح والتعديل والإضافات داخل اللجان والجلسات العامة. فالخلاصة الأساسية التي يمكن أن نستشفها من خلال ممارسة سلطات واختصاصات المؤسسة التشريعية بالمغرب، هي هيمنة السلطة التنفيذية على سيرها وممارستها ويكرس هذا المعطى منطوق النص الدستوري حيث تتدخل الحكومة في كل مراحل المسطرة التشريعية ابتداء من جدول الأعمال، للتحكم في جدولة أعمال مجلسي البرلمان بخصوص أسبقية برمجة مشاريع ومقترحات القوانين وفق الترتيب الذي تحدده الحكومة. المحور الثاني: هيمنة المجال التنظيمي للحكومة على المجال التشريعي يشمل مجال التنظيم ما لا يدخل ضمن اختصاص القانون، ويدخل ضمن صلاحيات السلطة التنفيذية باعتبارها هي الهيئة الرئيسية ضمن مكونات النظام السياسي المغربي المكلفة مباشرة بتدبير شؤون الدولة والمسؤولة عن تنفيذ البرامج والمشاريع وتنزيل السياسات العمومية في مختلف المجالات، ولا يجب أن يتدخل مجال التنظيم في مجال التشريع إلا بعد حصوله على الموافقة البرلمانية، وتحديد وتوضيح التدخلات التنظيمية للحكومة ضمانا لمبدأ فصل السلط. أولا: ما لا يدخل ضمن مجال القانون يمارسه التنظيم إذا كان القانون هو مختلف القواعد ذات القيمة التشريعية التي تصدر عن البرلمان كاختصاص أصلي طبقا لأحكام الدستور؛ فإن الغرض من إصدار النصوص التنظيمية هو تنزيل القانون إلى الواقع وتطبيق تلك القواعد العامة التي تحتاج غالبا إلى قرارات تبين كيفية تنفيذها، باعتبار السلطة التنفيذية هي الأقدر على معرفة التفاصيل اللازمة لتنفيذ القوانين، فيختص المجال التنظيمي بالمواد التي لا يشملها اختصاص القانون. وقد استلهم المشرع الدستوري المغربي هذه الصيغة لضمان توازن السلط وتوزيع الاختصاص بين القانون والتنظيم من دستور الجمهورية الخامسة الفرنسية لسنة 1958، حيث تم النص على تحديد مجال القانون وإعادة تنظيم الاختصاص التشريعي من أجل تقييد اختصاصات السلطة التشريعية ومنح السلطة التنفيذية مجالا تنظيميا إلى جانب اختصاصاتها التقليدية. ولا بد من الإشارة إلى أنه بالإضافة إلى المقررات التنظيمية الصادرة عن أعضاء الحكومة، تتوفر الجماعات الترابية أيضا في مجالات اختصاصاتها وداخل دائرتها الترابية على سلطة تنظيمية لممارسة صلاحياتها. ثانيا: التشريع الحكومي بواسطة قانون الإذن يعتبر قانون الإذن بمثابة ترخيص يمنح بموجبه البرلمان للحكومة الأهلية القانونية لممارسة الوظيفة التشريعية لمدة معينة ولهدف محدد استثناء من اختصاصه التشريعي. فطبقا لمقتضيات الفصل 70 من دستور 2011 في فقرته الثالثة "للقانون أن يأذن للحكومة أن تتخذ في ظرف من الزمن محدد، ولغاية معينة، بمقتضى مراسيم، تدابير يختص القانون عادة باتخاذها، ويجري العمل بهذه المراسيم بمجرد نشرها، غير أنه يجب عرضها على البرلمان بقصد المصادقة عند انتهاء الأجل الذي حدده قانون الإذن بإصدارها". فبموجب تشريع الإذن من البرلمان وهو الإذن الذي تستطيع بموجبه الحكومة إصدار مقتضيات خطيرة قد تكبح الحقوق أو ترهن الوضع الاقتصادي للبلاد، يمكن للحكومة أن تصدر نصوصا قانونية وكذا فتح الاعتمادات اللازمة لسير المرافق العمومية واستخلاص المداخيل بمقتضى مرسوم: – فتح اعتمادات إضافية خلال السنة في حالة الضرورة الملحة وغير المتوقعة وذات مصلحة وطنية بعد إخبار لجنتي المالية بالبرلمان (المادة 60 من القانون التنظيمي 130.13)؛ – إحداث حسابات خصوصية للخزينة (المادة 26 من القانون التنظيمي 130.13)، وإحداث مرافق الدولة المسيرة بصورة مستقلة (المادة 21 من القانون التنظيمي 130.13)؛ – فتح الاعتمادات اللازمة لسير المرافق العمومية واستخلاص المداخيل، في حالة عدم التصويت على قانون مالية السنة أو لم يصدر الأمر بتنفيذه بسبب إحالته على المحكمة الدستورية في 31 دجنبر (الفصل 75 من دستور2011)؛ – وقف تنفيذ بعض نفقات الاستثمار. وكمثال على وقف تنفيذ بعض نفقات الاستثمار، نذكر ما فعلته حكومة السيد عبد الإله بنكيران عندما أوقفت تنفيذ 16 مليار درهم من نفقات الاستثمار سنة 2014. ثالثا: إصدار مراسيم قوانين بين الدورات طبقا لمقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 81 من دستور2011، تمارس الحكومة عدة صلاحيات تشريعية عبر مراسيم قوانين لغاية معينة ذات مصلحة وطنية وذلك "خلال الفترة الفاصلة بين دورات البرلمان، باتفاق مع اللجان التي يعنيها الأمر في كلا المجلسين"، وتعرف "بمراسيم الضرورة" أو "المراسيم التشريعية" أو "مراسيم التسبيق"، حيث يتم عرضها على البرلمان للمصادقة عليها خلال دورته العادية الموالية. ويودع مشروع المرسوم بقانون لدى مكتب مجلس النواب فتناقشه اللجان المعنية بالمجلسين بالتتابع من أجل التوصل إلى قرار مشترك في شأنه وإلا فتحسم فيه اللجنة المختصة بمجلس النواب. وقد اعتبر المجلس الدستوري المغربي في قرار له أن قرار رقم 37.94 الصادر في 16غشت 1994 بمناسبة نظره في القانون رقم 93.33 المتعلق بالصحون المقعرة، المقصود في هذا النص هو تلك الفترة التي تفصل بين دورتين نيابيتين عاديتين خلال الولاية التشريعية نفسها. وإذا كانت الحكومة هي صاحبة المبادرة بإصدار مرسوم قانون حسب تقديرها لوجود حالة الضرورة، حيث يعرف اللجوء إلى إصدارها غلوا كبيرا دون الرجوع للبرلمان، فإن هذه السلطة التقديرية تخضع لرقابة البرلمان. وجدير بالذكر أن هذه المراسيم التي تصدر في "الغيبة المؤقتة" للبرلمان لا نجد لها مقابلا في الدستور الفرنسي، الذي جعل مسطرة التفويض مقتصرة في شكلها على اتخاذ أوامر رئاسية بناء على قانون الإذن. رابعا: تغيير النصوص التشريعية من حيث الشكل بمرسوم طبقا لمقتضيات الفصل 79 من دستور 2011 "للحكومة أن تدفع بعدم قبول كل مقترح أو تعديل لا يدخل في مجال القانون وكل خلاف في هذا الشأن تبت فيه المحكمة الدستورية، في أجل ثمانية أيام، بطلب من أحد رئيسي المجلسين، أو من رئيس الحكومة. وفي السياق نفسه وطبقا لمقتضيات الفصل 73 من الدستور: "يمكن تغيير النصوص التشريعية من حيث الشكل بمرسوم، بعد موافقة المحكمة الدستورية إذا كان مضمونها يدخل في مجال من المجالات التي تمارس فيها السلطة التنظيمية اختصاصها " والمحكمة الدستورية أثناء نظرها في هذه النصوص إما تقرر بأن النص ذا طبيعة تنظيمية وبالتالي يمكن لرئيس الحكومة أن يغيره من حيث الشكل بمرسوم، أو أن تقرر بأن النص ذا طبيعة تشريعية وبالتالي يبقى النص المحال من حيز مجال القانون ولا يحق لها أن تغيره من حيث الشكل. إضافة إلى إمكانية حل مجلس النواب من طرف رئيس الحكومة طبقا الفصل 104 من الدستور، بعد استشارة الملك ورئيس المجلس ورئيس المحكمة الدستورية بمرسوم يتخذ في مجلس وزاري، بعد تقديم تصريح يتضمن دوافع قرار الحل وأهدافه أمام مجلس النواب. خاتمة: تأسيسا على ما ورد ذكره، يبقى واردا بأن نقول لقد ضيق دستور 2011 إلى حد كبير من اختصاص البرلمان في المجال التشريعي، في حين قام بتوسيع نطاق المجال التنظيمي على حساب مجال القانون، وخول للحكومة الدور الأساسي في المسطرة التشريعية، الأمر الذي أضحى معه البرلمان مشرعا استثنائيا في ظل هذا التحديد والتضييق، وهو ما يتم تكريسه أيضا بتخويل الدستور للبرلمان أن يفوض للحكومة جانبا من سلطته التشريعية. لذلك؛ يجب التأكيد على ضرورة احترام مبدأ فصل السلط والوقوف عند حدود اختصاصات المؤسسة البرلمانية ذات المشروعية التمثيلية ضمانا لسمو النص الدستوري.