محمد كمال بلحاج :باحث في القانون ومدون صحفي تقديم: تقوم قضية تنزيل الدستور المغربي الجديد بالشكل الديمقراطي المأمول على عدة اعتبارات وعوامل أساسية تتمثل على مستوى عام في دينامية الممارسة والخطاب لدى مؤسسات الدولة وسلطاتها العامة، وكذا في مقياس تشبع هذه المؤسسات بالرغبة الجادة في تفعيل دستور 2011 ومدى استعدادها لتطبيق وتنزيل المضامين الدستورية التنزيل الأنسب والسليم، كما تتمثل على مستوى خاص في تحريك الآلة التشريعية بالسرعة الزمنية المعقولة وتفعيلها من خلال آلية سن القوانين. ولعل مسألة إصدار القوانين التنظيمية تعد كإحدى الحلقات الهامة من حلقات تفعيل دستور 2011 وتكميليه. قبيل إعلان حكومة عبد الإله بنكيران عن النسخة النهائية لمخططها التشريعي لسنوات الولاية التشريعية والتي وقعته بموجب يناير 2013، أضحت قضية إقرار القوانين التنظيمية وإخراجها للوجود حديث مختلف الفرقاء السياسيين ومختلف المتدخلين في مجال التشريع، حيث تطفو جليا بين الفينة والأخرى داخل الأروقة التشريعية والإعلامية نقاشات عمومية ترتبط بالجانب القانوني والتشريعي والتي ما فتئت تفتح المجال لتقييم أداء الحكومة في هذا المضمار. وعسى ما يلفت الانتباه في محور هذه النقاشات أن أغلبها انصب حول توجيه المؤاخذات والانتقادات الحادة للحكومة كسلطة تنفيذية تمتلك بدورها حق المبادرة التشريعية، حيث لم يشكل ذلك الاختصاص المخول للحكومة حافزا إجرائيا للعدول عن تباطئها وتأنيها في طرح مشاريع القوانين التنظيمية المنصوص عليها في الدستور. تمحورت أبرز النقاشات والتجاذبات السياسية والقانونية خلال الولاية التشريعية الجارية حول رهان تفعيل الدستور من زواياه المتعددة، عل أبرزها تلك المتعلقة بإقرار القوانين التنظيمية المنصوص عليها دستوريا وصدورها بعد الموافقة النهائية عليها ونشرها بالجريدة الرسمية بعد عبروها على جميع مراحل المسطرة التشريعية الخاصة بهذه القوانين، هذا إذا شئنا أن نعتبر أن قضية إقرار القوانين التنظيمية هي مدخل أساسي في ورش تفعيل الدستور في شقه التشريعي. بغض النظر عن كون إقرار القوانين التنظيمية وإصدار الأمر بتنفيذها مقترن بدور واختصاص المحكمة الدستورية في إطار الرقابة الإجبارية على مطابقة الدستورية كما سنأتي لاحقا، إلا أنه من المسلم به قانونيا ودستوريا أن إصدار القوانين التنظيمية هو مسؤولية مشتركة بين السلطتين التنفيذية (الحكومة) والتشريعية (البرلمان) معا، مسؤولية الحكومة من وجهتين اثنين: أولا من خلال التعبير عن إرادة سياسية حقيقية وتمثيل واضح حول تصورها لمحتوى هذه القوانين التنظيمية، ومن تم أخذ المبادرة التشريعية والدفع بها كمشاريع لقوانين، وثانيا عبر الالتزام بمقتضى الوثيقة الدستورية في منطوق فصلها السادس والثمانون من الدستور، حيث على الحكومة أن تعمل وجوبا على إخراج جميع القوانين التنظيمية المنصوص عليها دستوريا وعددها تسعة عشر قانون تنظيمي، وعرضها على أنظار البرلمان في غضون هذه الولاية التشريعية التاسعة والمحددة حتما في خمس سنوات2011-2016، هذا قياسا على الجدول الزمني الذي حددته الحكومة لعملية طرح القوانين في مخططها التشريعي في الفترة ما بين سنوات 2012 و2015. أما مسؤولية البرلمان فتتجلى بدوره كسلطة تشريعية بأغلبيته ومعارضته في جدية مناقشة القوانين وتداولها سواء المعروضة عليه أو المقترحة من طرفه قبل التصويت والمصادقة النهائية عليها، وكذا عبر آلية التقدم بمقترحات للقوانين التنظيمية مثلما رأينا ذلك عبر مبادرات بعض الفرق النيابية، ولو أن الأمر كان محدودا ولم يكن بالشكل الكاف والمطلوب. قبل الخوض في مجالات القوانين التنظيمية التي نصت عليها المراجعة الدستورية الأخيرة وإبراز مدى أهميتها وما اعتراها من ملاحظات خاصة، نتطرق أولا لمفهوم ومدلول "القوانين التنظيمية".
I – مفهوم القوانين التنظيمية Les Lois Organiques : * : القوانين التنظيمية ومبدأ تدرج القوانين يأخذ النظام القانوني المغربي بمبدأ هرمية التشريعات وتدرجها أو بما يصطلح عليه بتراتبية القوانين، من شأن ذلك نجد الدستور المغربي الجديد بدوره ينص على إلزامية هذه القاعدة، حيث تعتبر دستورية القواعد القانونية وتراتبيتها ووجوب نشرها مبادئ ملزمة، بمعنى أدق احترام ترتيب القوانين حسب مكانتها وأهميتها وقيمتها (الدستور، القوانين التنظيمية، القوانين العادية، الأنظمة الداخلية للبرلمان…)، والمستنبطة في الأساس من طبيعة المسطرة التي تخضع لها عند سنها، حيث تختلف إجراءات وضع وتعديل الدستور عن مسطرة سن القوانين التنظيمية وعن مسطرة سن القوانين العادية وما إلى ذلك من أنواع التشريعات. على هذا المحمل جعل الدستور المغربي الجديد من الاتفاقيات الدولية أن تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية، كما خوَل للملك ولكل من رئيس الحكومة ورئيسي مجلسي النواب والمستشارين وخمس أعضاء مجلس النواب وأربعون عضوا من مجلس المستشارين إمكانية إحالة هذه الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب إلى المحكمة الدستورية لتبت في مطايقتها للدستور. بناء عليه تأتي مكانة القوانين التنظيمية حسب منطق التراتبية في القوانين في المرتبة الثانية بعد الدستور الذي يعتبر أسمى وأعلى القوانين مكانة ومنزلة، وعليه تتموقع القوانين التنظيمية من ناحية القيمة والدرجة بين الدستور وبين القوانين العادية، فهي إذن أقل من الدستور منزلة وأعلى من القوانين العادية مكانة. وبدافع استنباط الإشكالات التي يمكن إثارتها في هذه الزاوية المتعلقة بمبدأ تراتبية القوانين، نطرح التساؤل التالي: على أي أساس أو أي معيار تنبني نظرية التراتبية القانونية في تصنيف القوانين في مراتب عليا وأخرى في مراتب دنيا؟ ينحدر أصل نظرية تدرج القواعد القانونية إلى السيرة النبوية الشريفة والفقه الإسلامي، حيث كان للصحابة الكرام والفقهاء المسلمين السبق في استنباط هذه النظرية، وذلك من خلال عملهم بأحكام الشريعة الإسلامية حسب تسلسلها على النحو الشرعي المعروف: القرآن الكريم، السنة النبوية الشريفة، الاجتهاد..إلا أننا وحسب النظام الدستوري المغربي، نجد سبيلنا لتبرير الإجابة على هذا التساؤل المطروح في الأسلوب والطريقة التي يتم بها وضع الدستور ومراجعته وتعديله والتي تتميز بنوع من الجمود، حيث لا يمكن أن يتم تعديل الدستور أو مراجعته إلا عن طريق تنظيم وإجراء عملية الاستفتاء الشعبي عليه واستنفاد جميع المراحل المسطرية السابقة لهذه العملية، بخلاف مسطرة سن القوانين التنظيمية التي تعتبر أقل جمودا وصرامة من إجراءات وضع الدساتير. كما تعتبر مسطرة سن هذه القوانين بدورها أكثر تعقيدا من القوانين العادية والمتمثلة حسب الفصلين 85 و132 من الدستور في عدم جواز التداول في مشاريع ومقترحات القوانين التنظيمية إلا بعد مرور عشرة أيام على إيداعها لدى مكتب مجلس النواب، علاوة على أنه لا يتم إصدار الأمر بتنفيذ القوانين التنظيمية إلا بعد قرار المحكمة الدستورية بمطابقتها للدستور ونشره بالجريدة الرسمية. وعليه تحال القوانين التنظيمية على أنظار المحكمة الدستورية بصفة إلزامية في إطار الرقابة الإجبارية على دستورية القوانين التنظيمية، بعكس الإجراءات التشريعية الخاصة بالقوانين العادية حيث لا تخضع هذه القوانين للرقابة الدستورية بصفة إجبارية وإنما بصفة اختيارية، وبالتالي لا يجوز تغليب القاعدة القانونية الأدنى على القاعدة القانونية الأعلى، وذلك تحت طائلة عدم الدستورية وكذا في إطار التقيد بسلم تدرج القواعد القانونية.
2.1 : أهمية القوانين التنظيمية وفق النظام الدستوري المغربي تصنف القوانين التنظيمية في منزلة موالية بعد الدستور الذي يسمو على جميع أصناف التشريعات، لكونها –أي القوانين التنظيمية- وُضعت لتكون مكملة له. وهذا ما يميز الدساتير المكتوبة، فسميت كذلك نظرا لطبيعة النص الدستوري، حيث أن النصوص الدستورية بطبيعتها ليست قوانين إجرائية، وإنما هي نصوص قانونية أساسية مختصرة ومقتضبة في شكلها المكتوب لا يمكن أن تضم جل التفصيلات والجزئيات التي تستوعبها القوانين الأخرى الأدنى درجة من الدستور، وهذا هو دور القوانين التنظيمية – والقوانين العادية والمراسيم التطبيقية أيضا- التي تفرد وتتطرق لهذه التفصيلات والجزئيات التي أشارت إليها الوثيقة الدستورية في مواد خاصة على سبيل الحصر دون الخروج عن المطابقة لأحكام الدستور ومضامينه. لهذا وُصفت القوانين التنظيمية عند جانب من الفقه بالقوانين المكملة خصوصا بعد استعاضة الدستور عن إعطاء تعريف لها، واكتفى فقط بتسميتها "بالتنظيمية"، فهي من جهة مصدرها هو الدستور ومن جهة أخرى هي مكملة ومفصلة له، حيث يرجع أصل تسمية القوانين التنظيمية وإدراجها كصنف خاص من القوانين داخل النسق الدستوري المغربي، يرجع إلى النموذج الفرنسي، وذاك إذا ما سلمنا إلى أن واقع ترسانة القوانين المغربية هي في معظمها محاكاة للتشريع الفرنسي. وهناك بعض الفقه الذي اعتبر أن الترجمة من الفرنسية إلى العربية لمصطلح القوانين التنظيمية هي ترجمة غير دقيقة، باعتبار أن مقابل كلمة les lois organiques في اللغة العربية هي كلمة "القوانين العضوية" وليس التنظيمية، وبالتالي كان حريا بالمشرع الدستوري أن يستعيض عن استعمال مصطلح القوانين التنظيمية بمصطلح آخر كالقوانين العضوية أو القوانين الأساسية..وذلك تفاديا للخلط بين القواعد القانونية التي تصدر عن السلطة التشريعية والأخرى الصادرة عن السلطة التنظيمية. إن ما يميز القوانين التنظيمية عن غيرها من القوانين العادية حسب المعيارين الشكلي والموضوعي أمرين، أولهما من الناحية الإجرائية حدد الدستور المغربي للبرلمان حسب مقتضى الفصل 85 من أجل التداول في مشروع أو مقترح القانون التنظيمي أجل 10 أيام بعد وضع المشروع لدى مكتب مجلس النواب، ونظرا لأهمية القوانين التنظيمية ودورها في حماية الحقوق والحريات الدستورية، لعل الغاية من تحديد هذا الأجل الدستوري تتجلى في تمكين نواب الأمة والفرق النيابية بشكل كلي من الإطلاع والتفكير والتمعن في مسودات القوانين ودراسة اللجان البرلمانية لها قبل الشروع رسميا في عملية التداول والتصويت النهائي عليها، وهو الأمر الذي نستنتجه عند قراءة أحكام الفقرة الأولى من الفصل 85 من الدستور. فضلا عن ذلك تخضع مشاريع القوانين التنظيمية قبل إصدار الأمر بتنفيذها بعد مرورها على المجلس الوزاري ومصادقة المؤسسة التشريعية عليها، تخضع للرقابة الإجبارية على الدستورية من طرف المحكمة الدستورية بعد إحالة نص القانون التنظيمي عليها، حيث لا يمكن إعمال الأمر بتنفيذ القانون التنظيمي ونشره بالجريدة الرسمية إلا بعد أن ينظر القضاء الدستوري في مدى مطابقته للدستور وتصريحه بعدم تعارض بنود هذا القانون لأحكامه، وذلك للحيلولة دون مخالفة السلطة التشريعية لنص الدستور. وعليه لا يمكن للقانون التنظيمي أن يفيد بند من بنوده إلى ما يخالف أحكام ومقتضيات الدستور، بخلاف القانون العادي الذي من المحتمل أن يحتوي على ما قد يعارض نص الوثيقة الدستورية ما عدا لو تمت إحالته اختياريا وليس وجوبا على المحكمة الدستورية من طرف الملك أو من طرف رئيس الحكومة أو المؤسسة التشريعية للنظر في صحة دستوريته. وعلى هذا المنوال تخضع القوانين التنظيمية المكملة للدستور لمسطرة تشريعية وقضائية-دستورية خاصة تتمثل في طريقة تحضيرها والموافقة النهائية عليها، تضفي عليها شكلا من الخصوصية والتعقيد في أسلوب وضعها أو تعديلها، وتحيطها بنوع من الحصانة الدستورية. وبالتالي فإن خصوصية هذه المراحل المسطرية المتبعة تجعلنا نعاود القول أنها هي التي تعكس علة تصنيف القوانين التنظيمية وتحدد موقعها في منزلة ثانية من ناحية القيمة والأهمية بعد الدستور، وهذا ما يبرر منطق هرمية التشريعات. الأمر الثاني الذي يميز القوانين التنظيمية، يتمثل في شرط تأسيسي يعود إلى نوعية المجالات والمؤسسات التي يناط لهذا الصنف من القوانين تنظيمها وتقنينها والتي تختلف إلى حد ما عن المجالات التي تختص بها القوانين العادية، حيث يحدد نص الوثيقة الدستورية على سبيل الحصر في عدد من الفصول التي يشار من خلالها لمضامين القوانين التنظيمية ويرجئ بموجبها قواعد سير بعض المؤسسات والسلطات العامة للدولة المرتبطة بنظام الحكم ومؤسسات الدولة كالبرلمان بمجلسيه والقضاء ومؤسسة الحكومة التي أحال دستور 2011 اختصاص تنظيمها لأول مرة لقانون تنظيمي، بالإضافة إلى بعض المؤسسات الدستورية الأخرى كالمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والمحكمة الدستورية، علاوة على المجالات الأخرى التي أقرها الدستور بانتمائها إلى حظيرة القوانين التنظيمية، حيث سنتطرق إليها في المحور الثاني من هذا المقال بشكل تفصيلي.
II – مجالات القوانين التنظيمية حسب الدستور المغربي 2011 : 1.2 : الاختصاصات المسندة للقوانين التنظيمية وفصولها في الدستور أناطت المراجعة الدستورية الأخيرة لسنة 2011 للقوانين التنظيمية الاختصاص لتنظيم عدد من المجالات وتحديد قواعد سير بعض المؤسسات الدستورية وكيفية تركيبها وتكوينها وذلك على سبيل الحصر، وفيما يلي نعرض لمجالات ومضامين القوانين التنظيمية التي نص عليها دستور 29 يوليوز 2011 مرتبة حسب الفصول: * الفصل 5: قانون تنظيمي يحدد بموجبه مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، كما يحدد بموجبه صلاحيات وتركيبة وكيفية سير مجلس وطني للغات والثقافة المغربية (من شأنه حماية وتنمية اللغة العربية)؛ * الفصل 7: القانون التنظيمي المتعلق بالأحزاب السياسية؛ * الفصل 10: قانون تنظيمي خاص بالمعارضة البرلمانية؛ * الفصل 14: قانون تنظيمي يحدد بموجبه شروط وكيفيات تقديم اقتراحات وملتمسات في مجال التشريع من طرف المواطنات والمواطنين؛ * الفصل 15: قانون تنظيمي يحدد شروط وكيفيات تقديم عرائض إلى السلطات العمومية من طرف المواطنات والمواطنين؛ * الفصل 29: قانون تنظيمي متعلق بحق الإضراب؛ * الفصل 44: القانون التنظيمي المتعلق بمجلس الوصاية؛ * الفصل 49: قانون تنظيمي متعلق بالتعيين في المناصب العليا؛ * الفصل 62: القانون التنظيمي المتعلق بمجلس النواب؛ * الفصل 63: القانون التنظيمي المتعلق بمجلس المستشارين؛ * الفصل 67: قانون تنظيمي متعلق بلجان تقصي الحقائق؛ * الفصل 75: القانون التنظيمي لقانون المالية؛ * الفصل 87: قانون تنظيمي متعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة؛ * الفصل 112: قانون تنظيمي متعلق بالنظام الأساسي للقضاة؛ * الفصل 116: قانون تنظيمي متعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية؛ * الفصل 131: القانون التنظيمي المتعلق بالمحكمة الدستورية؛ * الفصل 133: قانون تنظيمي متعلق بالدفع بعدم دستورية قانون؛ * الفصل 146: قانون تنظيمي متعلق بالجهات والجماعات الترابية؛ * الفصل 153: القانون التنظيمي المتعلق بتنظيم المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.
2.2 : ملاحظات حول سمات القوانين التنظيمية في دستور 2011 إجمالا، وكقراءة فوقية وعامة في مجالات القوانين التنظيمية المذكورة أعلاه التي نص عليها الدستور المغربي الجديد، نسجل كما يلي بعض الملاحظات المتعلقة بما جاء به دستور 2011 من مستجدات خاصة في جزئية القوانين التنظيمية : أ- جرت طبيعة النسق الدستوري المغربي حسب مختلف الدساتير المغربية من دستور 1962 إلى غاية المراجعة الدستورية لسنة 1996 أن تتطرق هذه الدساتير للقوانين التنظيمية بشكل حصري في فصول محددة دون غيرها، من هذا المنطلق يلاحظ أن المشرع الدستوري بالمقارنة مع دستور 13 شتنبر 1996 تبنى من خلال المراجعة الدستورية الأخيرة فكرة توسيع مجالات القوانين التنظيمية، حيث أن دستور 1996 نص على تسعة قوانين تنظيمية، في حين نجد دستور 2011 زاد في عدد المجالات التي أسند فيها الاختصاص لهذا النوع من القوانين "أي القوانين التنظيمية" ليبلغ عددها تسعة عشر قانون تنظيمي، وبالتالي يكون المشرع الدستوري قد تدارك إغفال الدستور السابق لمجموعة من الميادين التي لم يسند فيها الاختصاص للقانون التنظيمي والتي تعتبر بطبيعتها من المواضيع ذات الأولوية الهامة في النظام القانوني والدستوري الوطني بشكل عام. من بين هذه القوانين التنظيمية التي نص عليها دستور 2011 ولم يكن دستور 96 قد أشار إليها نذكر على سبيل المثال: * القانون التنظيمي للأحزاب السياسية ؛ * القانون التنظيمي المتعلق بسير مؤسسة الحكومة ؛ * القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ؛ * القانون التنظيمي المتعلق بالجهات والجماعات الترابية.
ب- بيد أن بعض القوانين التنظيمية المنصوص عليها دستوريا والتي يحتمل أن تبقى معلقة وعصية عن التنظيم والتقنين كما كان الشأن فيما يخص القانون التنظيمي المتعلق بالحق في الإضراب الذي نص عليه الفصل 14 من دستور 1996، حيث ظل هذا القانون التنظيمي الذي ألحقه التغييب عصيا عن تقنينه وإقراره للعمل بموجبه في هذا المجال باعتبار أن حق الإضراب هو حق دستوري، وذلك نظرا لما يرتبط به هذا المجال من إرهاصات سياسية واجتماعية نقابية تتعدى الجانب التشريعي، يلاحظ أن المشرع الدستوري من خلال المراجعة الدستورية لسنة 2011 أراد أن يضع حدا لفرضية بقاء بعض المجالات المسند للقوانين التنظيمية اختصاص تنظيم ممارستها دون صدور أو تقنين وحتى لا تتعرض لحالة من الفراغ القانوني، لهذا وضع دستور 29 يوليوز 2011 لذلك ضمانة دستورية ملزمة ومحددة الأجل للسلطة المختصة في تشريعها وذلك كما تطرقنا سلفا من خلال قراءتنا وتأملنا في مضمون الفصل 86 من الدستور.
ج- نظرا لتوسيع نطاق تدخل القوانين التنظيمية بموجب المراجعة الدستورية الأخيرة مقارنة بتجارب الدساتير المغربية السابقة، أحال دستور 2011 على قوانين تنظيمية جديدة، كما أبقى على قوانين تنظيمية أصلية وسابقة وجب فقط تغييرها وتعديلها، وتم توزيعها إن شئنا التعبير حسب مجموعات دلالية، منها التي ترتبط بتنظيم وسير أجهزة ومؤسسات دستورية منصوص عليها في الدستور مثل مؤسسة الحكومة والمجلس الأعلى للسلطة القضائية والمحكمة الدستورية والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والقانون التنظيمي الخاص بالجهات والجماعات الترابية. ومجموعة قوانين تنظيمية أخرى بحكم أهميتها أبعدت القوانين العادية عن اختصاص وضعها مثل القانونين التنظيميين لمجلسي النواب والمستشارين والقانون التنظيمي لمجلس الوصاية المرتبط باستمرارية نظام الحكم بالمغرب، ثم القانون التنظيمي المتعلق بالتعيين في المناصب العليا وقانون ممارسة الحق في الإضراب والقانون التنظيمي للمالية والآخر المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، وكذا القانون التنظيمي المتعلق بتحديد طريقة تسيير لجان تقصي الحقائق، الذي أثارت مصادقة المجلس الحكومي على مشروع قانون تنظيمي رقم 13-085 المتعلق به لغطا حادا حول أحقية البرلمان بطرح وإعداد مقترحات القوانين التنظيمية بشكل عام والانفراد بشكل خاص بإعداد القانون التنظيمي المتعلق بلجان تقصي الحقائق طالما يختص هذا القانون التنظيمي بشؤون تندرج ضمن أدوار واختصاصات المؤسسة التشريعية. كما نستنتج في مجموعة أخرى قوانين تتعلق بمجالات تعكس وظيفتها تطبيق المقتضيات الدستورية الجديدة، كالقانون التنظيمي المتعلق بالأحزاب السياسية والقانون التنظيمي المتعلق بتقديم ملتمسات في مجال التشريع من طرف المواطنين، والقانون الخاص بكيفيات تقديم عرائض للسلطات العمومية من طرف المواطنين ثم القانون المتعلق بالدفع بعدم دستورية القوانين، علاوة على القوانين التنظيمية التي تعنى بالشأن الثقافي واللغوي ببلادنا.
يذكر أنه لحدود هذه الفترة تم إقرار ثمانية قوانين تنظيمية تقدمت بها المؤسسة التنفيذية، أربعة منها صدرت خلال الولاية التشريعية السابقة في إطار الفترة الانتقالية ما بين التصويت على مشروع الدستور الأخير المستفتى عليه في فاتح يوليوز 2011 الصادر الأمر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.11.91 بتاريخ (29 يوليوز 2011) وبين انتخابات 25 نونبر 2011 التشريعية، وهي القانون التنظيمي رقم 27.11 المتعلق بمجلس النواب، والقانون التنظيمي رقم 28.11 المتعلق بمجلس المستشارين، والقانون التنظيمي رقم 29.11 المتعلق بالأحزاب السياسية، والقانون التنظيمي رقم 59.11 المتعلق بانتخاب أعضاء مجالس الجماعات الترابية، في حين صدر خلال الولاية التشريعية التاسعة والحالية القانون التنظيمي رقم 02.12 المتعلق بالتعيين في المناصب العليا، هذا بالإضافة إلى القانون التنظيمي رقم 128.12 المتعلق بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الذي صرح من شأنه المجلس الدستوري في قراره رقم 14/932 بعدم دستورية بعض بنوده، ليتم تدارسه مجددا في خضم اجتماع المجلس الوزاري المنعقد بتاريخ 11 فبراير 2014، فكان أن صرح المجلس الدستوري في قراره رقم 14/941 بتاريخ 15 يوليوز 2014 بعد إدخال التعديلات على مشروع هذا القانون بمطابقة كافة أحكامه للدستور، وبه وجب وكان إصدار الأمر بتنفيذه ونشره في الجريدة الرسمية بتاريخ 31 يوليوز 2014. على نفس النحو، صادق مجلس الحكومة المنعقد بتاريخ 18 يوليوز 2013 ومجلس الوزراء المنعقد بتاريخ 15 أكتوبر 2013 في اجتماع كل منهما على ثلاثة مشاريع قوانين تنظيمية دفعة واحدة وهي: مشروع قانون تنظيمي رقم 13-065 يتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة الذي صرح بخصوصه المجلس الدستوري في قرار أخير رقم 15/955 بتاريخ 4 مارس 2015 بعدم مخالفته لأحكام الدستور، ومشروع قانون تنظيمي رقم 13-066 يتعلق بالمحكمة الدستورية الصادر الأمر بتنفيذه ونشره بالجريدة الرسمية بتاريخ 13 غشت 2014، ثم مشروع قانون تنظيمي رقم 13-085 يتعلق بطريقة تسيير اللجان النيابية لتقصي الحقائق الصادر الأمر بتنفيذه ظهير شريف بتاريخ 31 يوليوز 2014 . كما تمت المصادقة خلال اجتماع المجلس الوزاري بتاريخ 20 يناير 2014 على مشروع القانون التنظيمي رقم 13-130 لقانون المالية، وذلك إلى حين استيفاء آخر المراحل الإجرائية من مصادقة البرلمان ورقابة المحكمة الدستورية وصدور الأمر بتنفيذه وشره بالجريدة الرسمية.
خلاصة: عموما، وبالرغم من كون البرلمان بصفته السلطة التشريعية بات يعتبر صاحب الحق والاختصاص الأصلي في التشريع حسب ما صاحبه دستور 2011 من أحكام ومستجدات، إلا أن الحكومة الحالية وجدت نفسها في مسار مواز ملزمة دستوريا بإيداع جميع مشاريع القوانين التنظيمية التي نص عليها الدستور الجديد وعرضها وجوبا على البرلمان في غضون الولاية التشريعية الجارية التي تلت إصدار الأمر بتنفيذ دستور 29 يوليوز 2011. إلا أنه ومع ذلك لا يستقيم العمل على إصدار هذه القوانين التنظيمية من طرف الأجهزة التنفيذية والتشريعية بالاعتماد والتركيز فقط على الزاوية التقنية والإجرائية المرتبطة بالمسلك المتعلق بمسطرة سن هذا الصنف من القوانين، وإنما ونظرا لأهمية هذا الورش التشريعي، وفي إطار العمل بأحكام "الديمقراطية المواطنة والمقاربة التشاركية" التي أوصى بتفعيلها الدستور الجديد، يُفترض أن تفتح نقاشات عمومية جدية ورصينة حول مواضيع ومجالات هذه القوانين التنظيمية مع مختلف الفرقاء المعنيين بكل قانون تنظيمي على حدا دون إغفال مقترحات ومبادرات المجتمع المدني للخروج بصيغ قانونية توافقية، هذا دون القفز على توخي عامل جودة هذه القوانين برمتها وأخذ ذلك بعين الاعتبار، وبناء عليه يظل السؤال قائما : * هل ستتمكن المؤسسة التنفيذية خلال الأجل الدستوري المحدد لها طبقا لمضامين وأحكام الدستور المغربي من الإدلاء بجميع مشاريع القوانين التنظيمية والعمل على إخراجها رغم حساسية بعضها، حتى تكون بذلك قد أقدمت من جهة على تنفيذ مخططها التشريعي، ومن جهة أخرى تكون قد استطاعت الالتزام بمقتضى الفصل 86 من الدستور؟ أم أن انشغالها بالمحطات الانتخابية القادمة وبتدبير التجاذبات والتصدعات السياسية الحاصلة داخل مكوناتها وخارجها ستحول دون إتمامها وتحقيقها لذلك، خصوصا وأن الولاية التشريعية الحالية باتت على مشارف الانقضاء ؟ * [email protected]