يشهد حاضرنا نوعا من التضخم على مستوى "خطابات التنمية الذاتية"، وهذا ما يدعو مساءلتها، ليس من أجل استسهال التصريح بموقف مع أو ضد، بل بهدف تقديم قراءة في تداعيات هكذا خطابات وتوظيفها في إرساء الحقيقة عن الإنسان، إنها قراءة تندرج في نقد لكل خطاب يدعي خلاص الجميع وخلاص الفرد، ويبشر بالسعادة وبالتالي يتحول إلى أداة للسلطة ويؤسس للحكمنة، المعنى الذي أرساه ميشيل فوكو. يمكن أن نقارب هذه الرؤية النقدية "للتنمية الذاتية" من زوايا متعددة: نوعية خطاباتها، طرق ممارساتها، الحقل الإبستيمي الذي أفرزها. فما هو نموذج الإنسان الذي تتقصده خطابات التنمية الذاتية؟ ما الذي يبرر هذا الإقبال الملفت للنظر عليها؟ هل تساهم حقا في تطوير الإنسان لذاته، وبناء مشروعه الشخصي والحياتي، أم أنها تعمل أكثر على شرعنة التوجهات الحالية لسياسة الحقيقة، وتسرع عملية التطويع خدمة للمشروع الجديد للسلطة؟ رغم تنوع خطابات "التنمية الذاتية"، فهي تلتقي في كونها تنخرط في سيرورة خطاب مهتجس بالتطور داخل وعث الحاضر، فنزوع الشخص نحو التطور الدائم، يبدو ضرورة لخلق التوازن، لكنه تطور داخل عالم متغير باستمرار، شبيه برمال متحركة، تهدد كل من يكون في قبضتها بالغرق. لقد أصبح إيقاع الحياة سريع، كما أن الاستقرار في المكان والزمان غدا نوعا من الموات، خضعت الحياة للتبضيع والاستهلاك، التجدد المستمر أو الابتئاس والحرمان، لقد أصبح التغيير غاية في ذاته، لم يعد الانشغال منصبا على تغيير الحاضر، تغيير المجتمعات، تغيير الأنظمة السياسية (فشل الثورات)، بل أصبح الهاجس الأكبر هو تغيير الذات. تحيل عبارة التنمية الذاتية على معضلتين أساسيتين: جرح التسمية: فالتنمية عموما لم تحدث بدون أعطاب، فداخل المجتمعات المتقدمة، وبعد استنفاذ التنمية الاقتصادية، وانعكاساتها على الحياة الاجتماعية وعلى الخيارات السياسية، تحولت الوجهة إلى الأشخاص، من أجل العمل على إسقاط نموذج التنمية الاقتصادية (تدبير الأشياء)، على التنمية الشخصية (تدبير الأشخاص). إن جرح التنمية يكمن في كونها حملت معها التطور والتقهقر في الآن نفسه، إنها بلغة إدغار موران تنمية عمياء. إنها تنمية قابلة للانجراح، لكنها نجحت في حجب ذلك حينما جعلت الأشخاص ينشغلون أكثر بتنمية ذواتهم، تاركين للخبراء تنمية مجتمعاتهم. قابلية الانجراح نفسها، تظهر أكثر وضوحا على الشخص، فتنمية ذاته، لم تجعله في وضعية أفضل، بقدر ما أنها عمقت هشاشته، وحولته إلى كائن أكثر عرضة للانجراح. ولعل هذا الجرح يصبح مزدوجا في مجتمعات مثل مجتمعنا، لأن التنمية الاقتصادية فشلت، كما فشلت التنمية الجماعية والمجتمعية، وكما فشلت وعود الديمقراطية في إرساء العدالة والحرية، وبالتالي فأمام التعب من خطاب اليأس والإحباط من ممكنات التغيير السياسي والاجتماعي، أصبح الملجأ هو تغيير الذات، على التنمية تنجح فيها حيث فشلت في خارجها. وهم التسمية: يقوم خطاب "التنمية الذاتية" على وهم أساسي، ليس مصدره تنمية الشخص لذاته وتطويرها نحو الأفضل، فهذا شيء محمود ومشروع، بل مصدره ادعاء مطلق بإمكانية تحقيق هذه التنمية بشكل ذاتي، بمعزل عن الآخر، فالنجاح والفشل ذاتيين. يظهر هذا الوهم بشكل فاضح في الترجمة العربية، فنحن لم نترجمها بالتنمية الشخصية، بل بالتنمية الذاتية. تمة تحول استراتيجي من الخدمة العامة الجماعية، إلى الخدمة الخاصة الذاتية، يتعلق الأمر بخدمة على المقاس، وحسب قائمة الطلبات، كما هو الشأن في الطقوس التنزيلية لعبادة الاستهلاك. إن جرح ووهم التسمية، يتعمقان أكثر فأكثر داخل هكذا عالم معولم، يعمل على توسيع مجال "الخدمة الذاتية"، فحتى القطاعات الحساسة مثل الصحة والتعليم، أصبحت تتجه أكثر فأكثر إلى منطق التدبير الذاتي: بهذا المعنى نتحدث عن الطب عن بعد، والطب حسب الطلب، وبالتالي تحويله إلى علاقة فردية بين المريض ومرضه، يتحمل فيها الفرد مسؤولية صحته. الشيء نفسه يمكن قوله عن التعلم الذاتي، والدراسة عن بعد، بما هو علاقة صرفة بين المتعلم وذاته، وحده يتحمل مسؤوليتها. وكما هو الشأن في التطبيب الذاتي والتعلم الذاتي، أصبح الفرد يسعى نحو "الكوتشينغ الذاتي وبالمثل بالنسبة لتنمية الشخص لذاته، وعبر تداول خطاب "التنمية الذاتية"، أصبح الفرد يعيش داخل عالم نرجسي مغلق، تفقد فيه الأنا معالمها وتفرغ هويتها من حمولتها الاجتماعية، وتتعرض لنوع من نزع التوطين لكي تتحول إلى كيان ضبابي. يقوم فيه الفرد بعملية امتصاص ذاتي، ولكي يتجاوز هذه العزلة الاجتماعية ويضفي نوعا من الحياة على تصحره الاجتماعي، فإنه يتمركز حول ذاته، يصبح مرسلا ومرسلا إليه، يقوم بنوع من الإغراء الذاتي، بحيث يصبح في توافق مع عالم اجتماعي قيد التبخر والتشظي. يقوم هذا الخطاب على نموذج الفرد-المستعمل، الفاعل المتحكم في نشاطه، إنه وجه آخر للزبون، المهتجس بالفعالية، حيث الانتقال من وضعية الخدمة المؤسساتية إلى وضعية خدمة السوق، بالمعنى الاقتصادي الحالي، الذي يلعب فيه المستعمل دورا بالغ الأثر على مستوى التصور المتحكم في طبيعة الإنتاج. يحيل خطاب التنمية الذاتية على كون الفرد مستقل وحر وقادر على التحكم في مآله وتحمل تبعات ذلك. لكن يبقى ذلك مجرد وهم تعيشه الأغلبية بوعي فرح، فكلما امتلأ الفرد بادعاء الاستقلالية المنبثقة من رحم الذاتية، إلا وبدا أكثر تبعية لمن يرافقه ويساعده على تحقيق تنميته الذاتية. نحن إذن أمام مفارقة أولى بالنسبة لخطاب التنمية الذاتية: مفارقة الاستقلالية والتبعية. سنعود لاحقا إلى مفارقات أخرى بصدد خطابات "التنمية الذاتية"...