فحص مهين "" ...شعرت برغبة في البكاء في القيء في الصراخ في الجري بعيدا.. لكنها لم تجرؤ سوى على جر رجليها المنتفختين وحمل ملفها الأبيض بيد بينما كانت الأخرى تضغط على أسفل ظهرها علها تسكت بعض الألم.. بعد أن أغرقها الشعور بالعجز والمهانة.. صوت رقيق يتقدم منها لينتشل أجزاء من روحها التي لا تزال تطفو على السطح..امرأة متوسطة العمر تلبس بذلة بيضاء وتضع على شعرها كيسا أحضر، ربتت على كتفها وأخذت الملف من يدها لتضعه على سريرها وتعود إليها وهي تبتسم وتمسك يدها وتقول لها مبتسمة "اصبري الله معاك وتمشاي ما ترجعيش للفراش امش على قد ما تقدري وادعي الله..دابا يولي هاد الشي كل تعاويد (سيصبح كل شيء من الماضي)" منذ أن كانت طفلة صغيرة في المدرسة الابتدائية علمها معلمها الحاج أن "الكلمة الطيبة صدقة" وأن "الابتسامة صدقةّ" لكنها لم تعرف معنى ذلك إلا في هذا المكان، حيث كانت تكفي ابتسامة هذه المرأة العابرة وكلماتها المشجعة لتنقدها للحظات وتخفف عنها الألم وتنسيها كل الإهانات التي تعرضت لها منذ أن دخلت، ترى لماذا لا تبتسم كل العاملات في هذا المكان؟ لماذا يبخلن علينا حتى بكلمات طيبة؟ وهي في غمرة فرحها بكلمات عابرة كما يفرح طفل بلعبة جديدة، رأت ممرضة تخرج امرأة على كرسي متحرك في اتجاه قاعة الولادة، تنهدت وتمنت لو يأتي دورها هي أيضا الآن حتى تتخلص مما هي فيه.. مشت قليلا في الممر وتوقفت كثيرا كلما هاجمها ألم المخاض، إلى أن دخلت إحدى المولدات ترافقها ممرضة وبدأت توجه الأوامر للنساء بأن يلزمن أماكنهن ليتم فحصهن وتحديد لحظة ولادتهن.. كانت تستمع لمجريات الفحص التي بدأت في الممر المقابل، وتسمع الأنين والآهات والألم تقطعها أوامر غريبة تصدر عن المولدة التي جاءت للفحص والمراقبة :"حلي أللا رجليك...هزي قاعك..." شعرت بالحرج وهي تستمع إلى هذا القاموس الذي كان يمكن أن ينتمي إلى أي مكان إلا إلى هذا المكان الذي تستقبل فيه كائنات بشرية تتنفس هواء هذا العالم لأول مرة، تساءلت وهي تتقزز من الأوامر الصادرة بصوت مرتفع كأنها تصدر عن جلاد، ترى هل يعاملون كل النساء اللواتي يشرفون على توليدهن بنفس القاموس وبنفس اللهجة؟ ترى هل هذه المولدة عندما ستذهب إلى الشارع المقابل في الصباح لتعمل ساعات إضافية في المصحة الخاصة حيث تلد نوعية أخرى من نساء هذا الشعب، هل تقول لإحداهن "هزي قاعك" بهذه اللهجة القاسية الآمرة؟ كانت تعرق الجواب على سؤالها لأنها تتذكر جيدا كيف كان يستقبلها طبيبها في العيادة الخاصة، وكيف كان يشجعها ويجاملها، وكيف كانت الممرضة التي تعمل عنده تساعدها على خلع ملابسها وتساعدها على الصعود على سرير الفحص.. غريب أمر هؤلاء الأطباء، يعاملون نفس الشخص بطريقتين مختلفتين، فهو عندما يدفع سواء في المصحة أو في العيادة يصبح ملكا ويطبق عليه قانون "كل زبون ملك" لكن عندما يدخلون إلى المستشفيات العمومية، حتى لو كانوا أمام زبون دفع الفاتورة عند المدخل، فما دامت نقوده لا تصب مباشرة في جيوبهم يغيرون القناع ويغيرون القاموس الذي يختارون منه كلماتهم.. وهي سارحة في تفكيرها كادت تصدق أنها في أحضان إحدى مصحات حي أكدال قبل أن يفاجئها صوت الممرضة :"يالله آللا حيدي سروالك وطلعي للفراش.." نظرت إلى الفراش العالي وهي تفكر كيف ستصعد إليه دون مساعدة، لكن الصوت الذي واصل "سربي راسك راه ما كايناش غير انت" جعلها تسرع وتمسك بيديها وسط الفراش وتبذل كل جهدها لتصعد، لتتقدم منها الممرضة وتساعدها على ذلك وترفع ملابسها إلى الأعلى..زاد ألمها لكن خوفها من أن تسمع أية كلمة أخرى تجرحها جعلها تحاول التماسك وتضغط على أسنانها وهي تشعر أن المولدة تعبث فيها كأنها تعبث في محرك سيارة دون أن تنبس ببنت شفة، لتلتفت إلى الممرضة بعد ذلك وتبدأ في تدوين ملاحظاتها وتقول لها "هادي حتى للصباح.." وتغادر نزلت تلك الكلمة على مسامعها كالصاعقة"يا إلهي سأقضي كل الليل في هذا المكان رفقة هذه الآلام ولن يفعلوا من أجلي أي شيء.. سترت جسمها وتدحرجت من سريرها وحاولت أن تسأل الممرضة التي بدأت بالمساعدة في فحص امرأة أخرى"راني كنتقطع بالوجع..ما يمكنش ناخذ شي حقنة ولا شي حاجة باش نولد الليلة.." أجابتها صاحبة البذلة البيضاء ّآللا غير صبري شوية..خلي الأمور تمشي بشكل طبيعي" ..مادامت الأمور تمشي هنا بشكل طبيعي لماذا تحاربون الولادة في البيوت؟ أليست طبيعية أكثر؟ أليست الولادة على قمة جبل قرب كومة حطب ولادة طبيعية وربما أقل مهانة من الولادة هنا؟ إذا كان هذا حال أكبر مستشفى فالعاصمة يا حسرة الله أعلم كيف تلد النساء في المدن الصغيرة.. لم تجرؤ على البوح بشيء مما يروج في ذهنها، لكنها واصلت ذرع الممشى جيئة وذهابا إلى أن يأتي الفرج من عند الله. أنقر هنا لقراءة الجزء الأول أنقر هنا لقراءة الجزء الثاني