ثلاث سنوات مرت على اندلاع ثورة السابع عشر من فبراير/ شباط في ليبيا، عاش الليبيون خلالها تحديات جسام كادت أن تعصف بطموحاتهم نحو بناء دولة مدنية ديمقراطية بعد عقود من التصحر السياسي، والقبضة الأمنية، وقمع الحريات عاشوها في عهد العقيد الراحل معمر القذافي. الثورة التي دعا إليها نشطاء من الشباب عبر وسائل التواصل الاجتماعي سرعان ما تردد صداها في أرجاء المدن والقري الليبية، خاصة بعد نجاح ثورتي يناير في مصر والياسمين في تونس، لكن سرعان ما تحولت ثورة فبراير لحرب شرسة خاضتها كتائب القذافي ضد المدن الثائرة. ولعل سر اختيار السابع عشر من فبراير/شباط بداية انطلاق شرارة الثورة الليبية يأتي على خلفية ذكري احتجاجات شعبية، خاضها أهالي مدينة بنغازي (شرقي ليبيا) عام 2006 ضد الرسوم المسيئة لرسول الله محمد (عليه الصلاة والسلام)، أمام القنصلية الإيطالية والتي أطلقت فيها القوي الأمنية حينها النار على المتظاهرين ما أدي لمقتل أحد عشر شخصا. اختار الشعب الليبي ذات التاريخ في عام 2011 كشرارة انطلاق للثورة، قبل أن تتطور إلى مواجهات مسلحة مع قوى النظام القديم، انتهت بمقتل القذافي في العشرين من أكتوبر/تشرين الأول، ليعلن "تحرير ليبيا" في الثالث والعشرين من ذات الشهر، وتدخل ليبيا بعدها مرحلة من عدم الاستقرار الأمني، حيث يطارد شبح التوجس الأمني مواطنيها حتي الآن. عاشت ليبيا توافقاً سياسياً نسبياً خلال حكم "المجلس الوطني الانتقالي"، بقيادة رئيسه مصطفي عبد الجليل إبان الثورة، حتى انتخابات "المؤتمر الوطني العام" (برلمان مؤقت) في السابع من يوليو/تموز عام 2012، إلا أن نتائج الانتخابات أفرزت قوي سياسية منقسمة تتصارع حول نفوذها بالسلطة، حيث غابت الأغلبية القادرة على قيادة المرحلة الانتقالية، ما أدخل البلاد في أزمات سياسية متتالية، كان أخرها مطالب قوى سياسية تصدرها "التحالف الوطني الليبرالي" برفض تمديد ولاية "المؤتمر الوطني العام" بعد أن انتهت مدته القانونية، وخروج مظاهرات شعبية تطالب برحيل الحكومة، الأمر الذي تسبب في تكريث لحالة الانقسام التي تعاني منها البلاد. ويبقي الأمل يراود الليبيون الذين يستعدون الآن لإقامة الاحتفالات الشعبية بعيد ثورتهم الثالث، بتزيين الشوارع والميادين العامة، ورفع الأعلام، وإقامة الفعاليات الثقافية والفنية لتصل الاحتفالات ذروتها ليلة السابع عشر من فبراير/شباط، ويأتي ذلك رغم ازدياد الأزمات الأمنية والسياسية، وتراجع الناتج الاقتصادي في ظل وجود مليشيات مسلحة تطالب بالحكم المحلي. وفى هذا الإطار، يقول الناشط السياسي جمال الحاجي معارض على إن الخوف لا يزال يخيم على الكثير من القوي السياسية والثورية التي ترفض أي مشاركة لمن لهم صلة بالنظام السابق في المشهد السياسي الحالي، مشيرا إلى أن هناك قوي مضادة للثورة موجودة على الأرض، قائلاً: "هذه القوى تتلقي دعماً خارجياً بهدف إعاقة التغيير الاجتماعي والسياسي المرجو في البلاد". واتهم الحاجي، في تصريح لوكالة الأناضول، سياسيين ومسؤولين حكوميين بأنهم ما زالوا على صلة قوية بالنظام السابق، وأنهم يتلقون الدعم ممن أسماهم "دول الاعتدال العربي" في محاولة لإفشال الربيع العربي، معتمدين على الإدارة الوسطي، والمال السياسي الفاسد، ووسائل الإعلام لتحقيق أغراضهم، على حد قوله، من دون أن يحدد تلك أسماء المسؤولين أو الدول التي قصدها. من ناحية أخرى، يرى المحلل السياسي أشرف الشح وعضو بالمجموعة العامة الوطنية (منظمة بحثية غير حكومية) أن أركان "الثورة المضادة" هم أنفسهم شركاء الثورة باعتبار أنهم لم يتفقوا على مسار موحد للبناء، فكل طرف يتشبث برأيه في بناء الدولة، حسب وجهة نظره، دون اقتناع الأخر، وأضاف “الكل يحاول الاستحواذ على السلطة وحده ليشكل الدولة كما يريد، وهو ما عطل عملية البناء وزاد من الأزمات". وطالب الشح بالسعي لإيجاد توافق وطني حقيقي بين كافة شركاء الثورة أنفسهم لتجاوز المرحلة الانتقالية، واصفاً ذلك بالتحدي الرئيس في ليبيا، ويؤيد الشح الرأي القائل بضرورة الدخول في "مرحلة انتقالية ثالثة" لكي تصل البلاد لحالة النضوج السياسي الكافي في كتابة "عقد اجتماعي دائم" (الدستور)، مشدداً على أهمية وضع نقاط توافق تكون بمثابة قاعدة ارتكاز بين كافة الأطراف. واعتبر الشح أن ما حدث قبل أيام من محاولة "انقلابية تلفزيونية" أظهر أن الرأي العام بالبلاد متفق على أنه لا مجال لعودة "حكم العسكر" والاستبداد من جديد، وأن الجميع متفق على ضرورة حماية مكتسبات الثورة وبناء دولة مدنية ديمقراطية، لافتاً إلى أن التململ من المؤتمر الوطني ومطالبة متظاهرين له بالرحيل يعد نوعاً من الضغط الشعبي لتقويم مسار الدولة وحلحلة المشاكل العالقة. وكانت قوى سياسية ومدنية قد رحبت بما أعلنه حزب العدالة والبناء الإسلامي - ثاني أكبر فصيل سياسي في البلاد – عن دعوته للمؤتمر الوطني الذهاب مباشرة لانتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة بهدف توسيع دائرة التوافق الوطني والحفاظ على السلم الاجتماعي. واعتبر رئيس الدائرة السياسية بالحزب محمد الحريزي، خلال حديثه للأناضول، أن هذه الدعوة تعد سعياً لوحدة الصف وعدم استغلال المرحلة الانتقالية من قبل البعض، مؤكداً ضرورة الحفاظ على المسار الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة. وتعيش البلاد على وقع تجاذبات تؤثر بشكل مباشر على العملية الديمقراطية ومسارها خصوصاً في ظل وجود قوي قبلية ومسلحة مؤثرة بالمشهد، بالإضافة لانعدام الحوار الوطني الشامل بين كافة الأطراف. وفي المقابل، فشل المؤتمر الوطني العام في تغيير الحكومة الحالية التي يعد رئيسها حليفاً للتحالف الوطني، حيث عجز ما يقارب 99 نائباً في الإطاحة برئيس الوزراء الحالي علي زيدان الذي يملك حلفاء من الكتل النيابية تضمن بقاءه بالمنصب، مع استحالة الوصول للنصاب القانوني المقدر ب 120 صوتاً لإقالته، الأمر الذي تسبب في قطيعة بين الحكومة والمؤتمر، وهو ما انعكس في صور من عدم التعاون والتنسيق فيما بينهما، وتزايد معدلات الفساد والعجز بالحكومة، وانقسام الكتل النيابية. وكان المركز الليبي للبحوث السياسية قد كشف في تقرير له، صدر مؤخرا، عن أن عدم التوصل لاتفاق أو إطار مشترك بين الكتل النيابية ينذر بعواقب وخيمة، وذلك بالنظر لعدم إدراك طبيعة المرحلة الانتقالية، والظروف الاستثنائية التى تمر بها البلاد. وإضافة لما سبق فإن هناك غياب لعوامل المرونة السياسية، والقدرة على المناورة، وعدم فهم طبيعة مطالب الكتل لبعضها، وغياب التقييم الموضوعي لأثار فشل العملية السياسية، كما أن هناك غياب للآليات الملائمة لإدارة عملية التفاوض بين الفرقاء. وكانت الكتل النيابية عادت واتفقت، مطلع الشهر الجاري، على خارطة طريق جديدة تنص على الاستمرار في انتخاب الهيئة التأسيسية للدستور والبدء بعملها خلال مارس/آذار المقبل، والاستماع لتقرير بشأنها في مايو/أيار حول مدى إمكانية كتابة الدستور في أربعة أشهر أم لا. وفى حال، قررت الهيئة عدم قدرتها كتابته خلال هذه المدة، يعلن المؤتمر البدء في انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة، وهو ما رفضه تحالف القوي الوطني الذي طالب بضرورة الدخول مباشرة في هذه المرحلة بعد تظاهر المئات الرافضين لخارطة الطريق. ويبقى أنه حتى الآن، لم يتم حسم الجدل بعد، حول طبيعة الجهة التي يمكنها استلام السلطة، وما إذا كان "مؤتمر وطني جديد" وفق النظام الفردي أم مجلس للنواب ورئيس للدولة. ولعله وسط هذه الخلافات الكثيرة، فإن هناك توافقًا بين كافة الأطراف على أن انتشار السلاح يشكل عقبة أمام تحقيق إنجازات على الأرض بالفترة الانتقالية، فمع انتشار السلاح، وغياب السيطرة الفعلية عليه تتعاظم التحديات ضد السلطة الحالية بالبلاد. *وكالة أنباء الأناضول