تسود الفوضى في ليبيا ويتصاعد العنف لا سيما في شرق البلاد الذي يشهد اغتيالات وهجمات تكاد تكون يومية ضد قوات الأمن والأجانب والبعثات الدبلوماسية، وهي فوضى يقول باحثون إنها تهدّد بتحوَّل ليبيا إلى دويلات فاشلة تحكمها ميليشيات تفرض شرعيتها بقوة السلاح. فقد بادر اللواء خليفة حفتر القائد العام السابق للقوات البرية الليبية، مدفوعا بقوى رأت أنها هُمِّشت خلال فترة ما بعد الثورة، إلى إصدار بيان يوم 14 فبراير 2014 اصطُلح على تسميته "انقلابا تلفزيونيّا". وأعلن حفتر في شريط مُصوَّر وُزِّع على وكالات الأنباء تجميد عمل المؤتمر الوطني العامّ والحكومة، إضافة إلى الإعلان الدستوري المؤقَّت وتشكيل هيئة رئاسية تتولى حُكم البلاد حتى موعد إجراء انتخابات جديدة، بدا ذلك محاولة للسير على خطى الانقلاب العسكري الذي حصل في مصر في يوليو الماضي. وعلى الرغم من مسارعة السلطات الليبية إلى نفي حصول انقلاب، وإصدارها مذكرة اعتقال بحق حفتر، فإنّ الحادثة أظهرت أنَّ أمرا ما يُبيَّت للمؤسسات الليبية المنتخبة، كما بينَّت حجم التحديات التي تواجه عملية بناء الدولة، وهي في حالة ليبيا تعني بناء دولة فعلا، وليس إعادة بنائها. وهذه المهمة صعبة وتحتاج إلى حرص شديد في التعامل مع المؤسسات الوليدة. سياقات الأزمة الأخيرة جاء ما سُمِّيَ "المحاولة الانقلابية الفاشلة" في سياق سعي بعض القوى غير الراضية عن تطور المسار الانتقالي في البلاد لاستغلال الاستياء الشعبي الناجم عن تردِّي الحالة الأمنية، والسياسية، والاقتصادية التي غالبا ما تصاحب المراحل الانتقالية؛ من أجل تعزيز نفوذها والانقضاض على السلطة، علما أنّ هذه القوى لا تملك برامج سياسية بديلة، أو حلولا عملية لمشكلات ليبيا، بل يطغى على تحرك رموزها الطموح الشخصي المعتمد على تحالفات مع جهات خارجية ترعى قوى الثورة المضادة في أكثر من دولة، وتعارض مسار التحول الديمقراطي في أنحاء المنطقة. منذ أن أعلن المؤتمر الوطني العامّ، في مطلع شهر فبراير 2014، تعديلاتٍ تُمدِّد مهمَّاته التي كان يُفترض أن تنتهيَ في السابع من الشهر نفسه، اندلعت موجة من الاحتجاجات التي طالبت برحيل المؤتمر العامّ، نظرا إلى فشله في صوْغ دستور جديد في الآجال التي حددها الإعلان الدستوري الأوّل. وعبّر المحتجون في كل من طرابلس، وبنغازي، ومدن أخرى، عن رفضهم لخريطة الطريق التي أقرّها المؤتمر في جزأيْن؛ أحدهما يمنح لجنة الستين فرصة إعداد الدستور، لتنهيَ أعمالها خلال ثلاثة أشهر، والآخر متعلِّق بالدعوة إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة في حال فشل اللجنة المذكورة في إعداد الدستور الجديد. ولم تَنْجُ حكومة علي زيدان من المطالبة بالرحيل بحجة عجزها عن السيطرة على الميليشيات المسلحة والتخلص من العصابات التي أُسِّست إبّان حُكم العقيد القذّافي، وارتبطت بنظامه، ومازالت تحاول زعزعة استقرار ليبيا، يُضاف إلى ذلك فشل هذه الحكومة في إدارة الملف الاقتصادي وإيجاد الخدمات المعيشية. وعلى الرغم من تراجع المؤتمر الوطني العامّ عن قرار التمديد لنفسه، ومن دعوته إلى انتخابات مبكرة في "أسرع وقت"، فضلا عن دعوة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات الليبيين إلى الإدلاء بأصواتهم يوم 20 فبراير لاختيار لجنة الستين المنوط بها صوْغ الدستور، فإنّ بعض الأطراف أصرَّت على التصعيد. لقد أبرزت التطورات الأخيرة مدى ضعف المجتمع المدني والسياسي الليبي (بما فيه الأحزاب). وما زاد الأمور سوءا تبلورُ خريطة سياسية جعلت من القوى المحلية والمناطقية لاعبا أولا في المعادلة السياسية الجديدة. وتتمثّل هذه القوى في المجالس المحلية، والتجمعات القبَلية، والميليشيات المسلحة. فتمكَّنت هذه القوى من زيادة نفوذها، ومن التأثير في الحياة السياسية الليبية، على حساب بناء مؤسسات على المستوى الوطني، وخصوصا في قطاعي الأمن والجيش. لقد دفع الصراع الذي احتدم بين القوى المحلية والنخب السياسية التي يضمها المؤتمر الوطني العامّ بكثير من القيادات السياسية البارزة إلى الخروج من المعادلة إمّا بطريقة الانتخابات، وإمَّا بالضغط الشعبي، وإمَّا بموجب قانون العزل السياسي. تحديات تواجه بناء الدولة شكَّلت المحاولة الانقلابية الفاشلة الأخيرة مؤشرا جديدا دالا على حالة الفراغ السياسي والدستوري، والأمني التي تعيشها ليبيا، واتَّضحت في الهزَّات الأمنية المتلاحقة، وكان أبرزها سيطرة مجموعات مسلحة قريبة من مجلس "برقة" بزعامة إبراهيم الجضران على ثلاثة موانئ لتصدير النفط، في شهر أكتوبر 2013، ومطالبتها بزيادة حصة شرق ليبيا من العائدات النفطية. وقد تركت هذه العملية في يد جماعات مسلحة خارجة عن سلطة الدولة، وذات طموحات انفصالية، موانئ تصل قدرتها التصديرية إلى 600 ألف برميل من النفط يوميّا؛ أي ما يمثّل نصف إنتاج ليبيا. وكان الجضران استولى سابقا مع جماعته المسلحة على هذه الموانئ خلال الثورة على العقيد القذافي واستفاد منها في تصدير النفط لحساب الثوار، لكنه استخدم جزءا من هذه العائدات أيضا لمصلحته؛ فقد قام ببناء مجموعة مسلحة خاصة به، لم تلبث أن تحوَّلت إلى قوة عسكرية يستند إليها مجلس برقة الذي يرأس الجضران مكتبه السياسي في دعوته إلى إنشاء دولة فيدرالية. وعلى الرغم من أنّ الحكومة تمكنت من حظْر تصدير النفط بإغلاق المنافذ البحرية ومنْع أيِّة سفينة من الرسوِّ أو التحميل، فإنّ استمرار بقاء الموانئ خارج سيطرتها يشير إلى مدى الضعف الذي يعتري الدولة الليبية نتيجة عدم التمكن من بناء جيش وطني قادر على الحفاظ على وحدة البلاد وفرْض الأمن والاستقرار في أرجائها. وفي الوقت الذي أغلقت فيه مجموعات مسلحة موانئ تصدير النفط في الشرق، أدَّت الاضطرابات السياسية غربَ البلاد، علاوة على سيطرة الميليشيات، إلى تعطيل خط أنابيب يربط حقلين كبيرين للإنتاج بمحطات التصدير، وتكررت إضرابات عمال منشآت النفط وحراسها بسبب الأجور وأوضاع العمل في هذا القطاع الحيوي الذي يعتمد عليه اقتصاد البلاد. ومن نتائج ذلك تهديد الاقتصاد الوطني بتبعات كارثية، وفقدان ثلاثة أرباع الناتج المحلي الإجمالي، و90 بالمئة من موارد الخزينة العامة، وفي ذلك تقويض لقدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها. من جهة أخرى، في الوقت الذي تواجه فيه الحكومة تحديات سياسية وأمنيَّة متنامية على مستوى البلاد، فإنّ قدرتها على السيطرة على الميليشيات، التي يُفترض أنها تخضع لها، تتراخى. فعلى الرغم من وقوع عدد كبير من هذه الميليشيات التي تشكلت إبَّان الثورة تحت سيطرة وزارة الداخلية أو الدفاع، كما هو الشأن بالنسبة إلى كتيبة الصواعق، وكتيبة القعقاع التي كانت قد وجهت الإنذار للمؤتمر الوطني العامّ في 18 فبراير، فإنها مازالت تحتفظ بهيكليتها الخاصة وتتخذ قراراتها بمعزل عن الجهات الرسمية. فهذه الأوضاع الأمنية غير المستقرة تَحُدُّ، على نحو متزايد، من قدرة الدولة على فرْض هيبتها في جميع المجالات، ولا سيما في النظام القضائي الذي لا يملك القدرة على تنفيذ قراراته؛ لأنه لا يستند إلى قوى أمنية مهنية، وغير متحزبة، للاضطلاع بمهمَّاته التنفيذية، خصوصا مع استمرار حالة الصراع والتجاذب المتعلِّقة بمشروع الدستور وشَكْل الدولة ونظامها السياسي ومسائل العدالة الانتقالية وقانون العزل السياسي والمصالحة الوطنية. إلى أين تتجه الأزمة؟ نظرا إلى التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي تواجهها البلاد، ونظرا إلى الخلاف المحتدم بخصوص شرعية استمرار المؤتمر الوطني العامّ في ممارسة مهامه، قرَّر المؤتمر التراجع عن التمديد لنفسه، وتقريب موعد الانتخابات، وهو الخيار الأسلم؛ فالخضوع لإنذارات ميليشيات مسلحة ومطالبها المتعلِّقة بالرحيل، دون إيجاد بديل، يعني إدخال البلاد في حالة فراغ دستوريٍّ ينجم عنه تدهور كبير في الوضع الأمني، علما أنّ الذهاب إلى انتخابات دون الاتفاق على قواعد الحكم وأسُسه - عبر صوْغ الدستور أولا - خيار يحمل في ثناياه أيضا أخطارا متربِّصة بالديمقراطية وبوحدة البلاد في آن واحدٍ. من ثمَّة، إذا لم تسارع النخب الليبية إلى التوافق، وإلى وَأْد خلافاتها والتضحية بجزء من تطلعاتها الفئوية؛ من أجل إعادة بناء الدولة التي غيَّبها نظام القذافي طوال أكثر من أربعة عقود، فسوف تتحوَّل ليبيا إلى دولة فاشلة، أو دويلات فاشلة عديدة، تحكمها ميليشيات تفرض شرعيتها بقوة السلاح. وهذا الأمر يصحُّ في شأن التيارات الإسلامية وغير الإسلامية، والقبائل، والنخب المدنية أيضا. لا يمكن إدارة ليبيا إذن، تمهيدا لإعادة بناء الدولة، دون تنازلات تقدمها القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة. وتاريخيّا عُرفت القبائل الليبية برفضها لغة العنف في ما بينها، وكُوِّنت في المدن الليبية والمنافي نخب مدنية، قادرة على التوصَّل إلى تسويات وحلول وسطى. وبناء على ذلك فإنّ ما يجب أن يحكم سلوك النخب السياسية والأمنية الليبية، في مثل هذه الأحوال، الحرص على المؤسسات الوطنية والمصلحة العامة ووحدة الدولة قبل أيِّ شيء آخر، وعدم السماح لأيِّة جهة - مهما كان توجُّهها - بفرْض نفسها عن طريق القوة؛ لأنّ ذلك سوف يُدخل البلاد في أتون صراع أهلي مُدمِّر، خاصة أنّ السلاح في المجتمع الذي تحكمه الروابط التقليدية؛ القبَلية أو الجهوية أو المناطقية، أمر متاح. *المستقبل