اعتُبِرت النخب السياسية والفكرية، دائما، حاملة لمشاريع التغيير، في الدولة والمُجتمع، وقد بلغ من جسامة الدور المنوط بها، أن تحول السياسيون والمثقفون، إلى العصب النابض في كل التحولات، التي جرت في تاريخ المجتمعات. "" يُلاحظ المُتتبعون لأداء النخب في المغرب، أن أكثر المراحل تخلفا في المشهد السياسي والفكري، ببلادنا، ارتبطت بنكوص وتراجع الدور، الذي تُؤديه النخب، فسواء تعلق الأمر بالتاريخ القديم، أو الحديث للمغرب، فإن فترات التخبط في إدارة الشأن العام، والهُوية الإديولوجية، ارتبطت، دائما بفقر كبير، في إسهامات السياسيين والمثقفين، في تنويع مصادر الاجتهاد، سواء تعلق الأمر، بنمط التدبير السياسي لأمور البلاد والعباد، أو بتغذية عناصر التفكير، في شتى مناحي الحياة الدينية والفكرية والثقافية..
فبصدد، الحقبة الزمنية، القريبة نسبيا، وبالتحديد في سنوات ما بعد الاستقلال، نشطت الحياة السياسية ، حول محور "اليسار" السياسي، فكانت إنتاجات تنظيمية وفكرية، خلقت نوعا من التوازن "الصحي" مع نمط التدبير الشمولي للدولة والمُجتمع، الذي أراده الحسن الثاني، واتضح من خلال، مسار الأمور، أن الدولة المخزنية، التي استأثرت، بوسائل تدبير الشأن العام، نجحت في تحقيق نوع من "الإجماع" حول اختياراتها التدبيرية والإيديولوجية، وذلك بسن سياسة استقطاب "نشيطة" للكوادر السياسية والفكرية، حيث انتهى أمر الخلافات السياسية، بين أقطاب ما سُمي ب "الحركة الوطنية" والنظام السياسي المخزني، إلى استتباب شكل ومضمون الدولة الذي اشتغل عليه الحسن الثاني.
ثمة في سيرة تفاصيل هذا الاستقطاب، ما يثير الدهشة، حيث نجد مثلا، أن مُعارضين شرسين للنظام المخزني، تحولوا إلى خُدام "أوفياء" لهذا الأخير.. لنطرح أسئلة من قبيل: كيف تحول رجل سياسة مُعارض، من طراز عبد الرحيم بوعبيد إلى "رجل دولة" بامتياز؟ ولماذا انتقل عبد الرحمان اليوسفي، من موقع المُعارض، فِكرا ومُمارسة، إلى وزير أول بدون شروط، في مرحلة ما سُمي ب "حكومة التناوب" ليتم التخلي عن خدماته بسهولة سنة 2002؟ وقبل هذا وذاك، ما هي العناصر المُحددة، لتحول أقطاب سياسة وتفكير مُعارض، من ضفة العمل على إصلاح النظام السياسي، أو مُناهضته، إلى القيام بأدوار استقرار ذات النظام؟ ولماذا يقف مفكرون مغاربة كبار، أمثال "عبد الله العروي" و "محمد عابد الجابري" و "محمد شفيق" وغيرهم، مواقف الصمت، على الأقل، حينما يتعلق الأمر بإبداء مواقف صريحة، في أكثر من ملف سياسي وفكري، يقتضي تحديد المسؤوليات فيما تؤول إليه أمور تدبير الشأن العام؟ وبين هذا وذاك، لماذا يصمت أيضا علماء الدين المغاربة، حينما تُثار قضايا شائكة، بصدد اختصاصهم، ويُفضلون الاصطفاف مع وُجهة نظر النظام السياسي، أو ما تواضع عليه المجتمع، بالرغم من أن "تبحرهم" في "علومهم" يقتضي اقتراف اجتهادات لا تتناسب ورغبات الدولة والمجتمع؟
تُفيد العديد من المُعطيات، أن الدولة عملت بشتى الوسائل على "إدماج" النخب السياسية والفكرية، داخل "آلتها" التدبيرية، وذلك عبر تقنية، قديمة قِدم بناء شكل ومضمون الدولة الشمولية، وتتمثل في وسائل ترغيب و ترهيب "ناجعة" تجعل مُمانعة النخب، تذهب أدراج الرياح، بمجرد بلوغ أحد أفراد النخبة السياسية والفكرية، دائرة "اهتمام" القائمين على تصريف شؤون الدولة والمجتمع.
أفادني أحد أطر وزارة الداخلية، شديد الصلة بموضوع استقطاب النخب، خلال العقود الماضية، أن الوزارة المذكورة، زمن عرابها "إدريس البصري" كانت لديها "خُطط" مدروسة لجعل ألمع أطر الأحزاب السياسية، والجامعات ووسائل الإعلام.. تشتغل بشكل أو بآخر، مع مصالح "أم الوزارات".. أسماء "كبيرة" تحولت إلى مُجرد "عتاد" تقني في شتى مجالات التدبير التيقنوقراطي، وفق الهاجس الأمني، للوزارة المذكورة، وفي التفاصيل حسب نفس المصدر، أنه كثيرا ما كان يحدث، أن يتحول أحد "عتاة" التفكير المُستقل، في السياسة والفكر، إلى "مُتعاون" نشيط مع إريس البصري، كيف ذلك؟ يُجيب المصدر: كان ذلك يحدث بطريقة بسيطة، حيث يتصل أستاذ جامعي، أو إطار سياسي "مُستقطب" بصديقه أو زميله، الذي يكون في وضع "مشروع" للاستقطاب، فيُخبره بشكل "وِدِّي" عن الحاجة إلى مجال اختصاصه، في أحد مصالح وزارة الداخلية، وذلك مُقابل تعويض مادي، أضعاف ما يتقاضاه في منصبه الجامعي، أو الوظيفي، ويُبتلع "الطعم" بسهولة. وبذلك - يستطرد نفس المصدر- أمكن تحويل خيرة أطر الجامعات والأحزاب.. الخ، إلى موظفين غير رسميين لدى وزارة الداخلية، وتحولت الجامعات والأحزاب السياسية، إلى مجرد حديقة خلفية لإدريس البصري، وهو ما يُفسر المآل البئيس، الذي توجد عليه المُؤسسات التعليمية والسياسية المذكورة.
وحسب أحد الأساتذة الجامعيين، استقينا رأيه في الموضوع، فإنه لم تعد هناك حاجة، فيما بعد، للاستعانة ب "وسطاء" استقطاب "مقبولين" بل أصبح هناك تنافس محموم، بين النخب الجامعية، للحصول على "شرف" وامتيازات خدمة الإدارة المخزنية، كيف ذلك؟ يقول الأستاذ الجامعي "م.ظ": "كان العامل محمد العفورة يُنظم كل أسبوع جلسات لعب (الكارطة) بمنزله، وكان ضيوفه من زملائه القُدامى في الجامعة، ومنهم باحثون معروفون، مثل أستاذ العلوم السياسية (ع.أ) وفي كل (طرح كارطة) كانت الأعين عالقة بشفاه "العفورة" لمعرفة اسم الأستاذ المحظوظ، الذي سيتلقى إشارة تولِّيه إحدى المهام المخزنية بوزارة الداخلية، كالإشراف على دراسة مُعينة، أو مجرد "مهمة" فارغة، تمنحه الوجاهة والمُقابل المادي".
هكذا إذن فاق العرض الطلب، وغدا التنافس شرسا، بين الأطر الجامعية، لتظل الاستثناءات قليلة جدا، تحتاج إلى قنديل "ديوجين" لرؤيتها في واضحة النهار.
إذا كان هذا هو حال العقود القليلة الماضية، من زمن الحسن الثاني وإدريس البصري، فما هو الحال يا تُرى حاليا؟
قد يكون من قبيل توضيح الواضحات، التعريج، على الكثير من تفاصيل استقطاب نُخب سياسية وفكرية، في زمن ما اصطُلح عليه ب "العهد الجديد".. مثل تحول كوادر سياسية، كانت محسوبة على اليسار الراديكالي، نظير الراحل "إدريس بنزكري" و "أحمد حرزني" و "لحبيب بلكوش" وغيرهم، إلى خُدام الدولة في مجالات سياسية وحُقوقية، إلا أن الجديد في موضوع الاستقطاب بنسخته الجديدة، يتمثل في اتخاذه لبوس"مُحاكمة" ما أصبح يُنعت، ويا للغرابة ب "العهد البائد" و "سنوات الرصاص" وما إلى ذلك من الأوصاف القدحية، لكن مع جُزئية مُحددة ومُهمة، هي أن المُحاكمة المذكورة، تمت وتتم، بناء على إطار مرسوم سلفا، من قبيل عدم الذهاب بعيدا، في إدانة النظام السياسي، وبالتالي، اتخذت عملية "مُراجعة" دفتر النظام المخزني برمتها صبغة "عملية تجميل" كما قال بعض المُنتقدين.
مهما كان من أمر فإن "نجاعة" عمليات الاستقطاب، التي ينهجها النظام السياسي، تجد استمرارية مُلفتة، تصل الأمس باليوم، حيث "تتعزز" صفوف خدمة أجهزة الدولة، بمختلف مؤسساتها وأجهزتها، مُقابل الفقر الشديد، الذي توجد عليه باقي التنظيمات السياسية والاجتماعية، والفكرية، التي يُفترض أنه منوط بها، خلق توازن سياسي وفكري، مع الدولة، لبلوغ أفضل البدائل المُمكنة، في خضم البحث عن المشروع المجتمعي الأحسن، لا مُجرد خدمة تصورات الدولة المخزنية القائمة.