حين تمنحك خبرتك القرائية فرصة أو إمكانية الولوج إلى المختبر السردي المجبول بالغرائب والعجائب، للقاص المغربي المشاكس "أنيس الرافعي"، ستتيقن من أن السرد ليس مجرد بناء أحداث، أو شخوص نمطية، لا أبعاد لها في إنِّيتها الكينوناتية، وإنما هو سؤال أنطولوجي بأسلوب يتجسدن باستمرار في تخوم لا تشي بغير اللا اكتمال واللا معقول، حول ما لم يكن. إن الكتابة القصصية عند أنيس الرافعي، في عمومها، هي طرحٌ للأسئلة القلقة والمحيرة والملغزة، بحيث إنها لم تكن، في لحظة من اللحظات، تابوتا للأجوبة البديهية، الشيء الذي يجعل النص القصصي لديه، يحقق خبرة جمالية نادرة ومائزة، تجعله متفردا في المشهد السردي العربي ككل. إنها، كما تبدو للعين الفاحصة أو العابرة على حد سواء، تجربة لا أجناسية، أي إنها تقوم على التجسير الأجناسي، ما يجعلها عصية على التصنيف أو التجنيس. ويكفي أن أضرب مثالا لذلك بمجموعته القصصية الموسومة ب " مقبرة الخرداوات" التي وضعت اليد الكاتبة في مواجهة المعايير المعطاة سلفا، وفي مواجهة ميتافيزيقا العملية الإبداعية البسيطة والسطحية (إبداعا واستقبالا) التي تجعل أفق التوقع يتطابق بشكل بديهي/أنالوجي مع أفق النص، دون حلحلة أو خلخلة بلغة هانز روبرت ياوس، ذلك إن هذه المجموعة القصصية، التي هي عبارة عن تشذير سردي مضاد، شبيه بالتشذير النيتشوي مع واجب الفارق، تسعى جاهدة لتخييب أفق توقع القارئ، متصدية بذلك لكل "وعي" بويطيقي ارتكاسي/نكوصي، لا يطمئن سوى للتطابق والتماثل. لعبة التشذير نفسها نجدها تؤسس فعل التسريد في مجموعته القصصية "سيرك الحيوانات"، في حوار فني ماتع مع رسومات الفنان محمد العامري، ومن خلال مونولوغ خاطف وحاد عبر حيوانات غريبة وعجيبة، وكأني بالقاص أنيس الرافعي يؤسس لعلاقة جديدة ومعاصرة مع هذه الكائنات، على غير منوال ابن المقفع في كتابه "كليلة ودمنة". فليس صدفة، إذن، إن قلت، إن المنجز القصصي لأنيس الرافعي، منجزٌ متفرد، لأنه لا يصدر عن ذات غير واعية، بما هي مقبلة عليه، أو يدٍ تكتب ما يمليه اللسان بطبيعته الخطابية والشفاهية، التي غالب ما تزج بالمكتوب في السطحية والنمطية، (وفي التنميط تحنيط)، بل على العكس من ذلك، نجد أنيس الرافعي ينحاز، عن سبق إصرار وترصد، لمختبر التجريب، بما هو مختبر منفتح على المغامرات والمفاجآت، منذ بداية مساره الإبداعي، بوصفه (التجريب) أفقا متصيرا بالمعنى الهيراقليطي، يحفز المشروع القصصي لهذا الرجل باستمرار، بما يضمن له استكشاف العوالم الخفية في هذه الاستعارة السردية الكونية الكبرى، التي نحياها ولا نحياها، باحثا عما يدوم كأثرٍ فني/جمالي وإنساني. فإذا كان الشاعر الألماني هلدرلن، قد قال ذات تأمل شعري وجودي : "ما يدوم يؤسسه الشعراء"، فاسمحوا لي أن أقول إن "ما يدوم في السرد القصصي (الآن وهنا)، يؤسسه أنيس الرافعي"، لأن الكتابة عنده، تستجلي الكامن والغامض، وتستثير عند القارئ الشغوف بالاستكشاف، لا بوصفه آلة كسولة ومعطلة، تأملاتِ متشعبة حول أسئلة متجذرة في الكينونة، تلك المسكوت عنها. فالمتأمل لما كتبه ويكتبه أنيس الرافعي سردا، سيُلفي نفسه بالفعل، أمام تجربة قصصية بلّورية مخصوصة، تجربة تفترض قارئا خاصا، لأنها قلقة ولا تهادن، ولأنها مستفزة بأسئلتها الوجودية اللافحة، واختياراتها الجمالية الصادمة، بعيدا عما أسميه ب "الدوكسا الجمالي" عدو الإبداع والحرية والتأمل، الذي لطالما دافع ويدافع عنه، من سماهم جاكوبسون ذات مرة ب "بوليس الأدب". غرابة عوالم قصص أنيس، تفصح عنها عتباتُها الأولى، تلك التي يطالعها القارئ أول ما يقبل على النص، أقصد عناوين قصصه. تأملوا معي هذه العناوين : فضائح فوق كل الشبهات، أشياء تمر دون أن تحدث، السيد ريباخا، البرشمان، علبة البندورة، ثقل الفراشة فوق سطح الجرس، اعتقال الغابة في زجاجة، هذا الذي سيحدث فيما مضى، الشركة المغربية لنقل الأموات، أريج البستان في تصاريف العميان – دليل حكائي متخيل، مصحة الدُمى، متحف العاهات، خياط الهيئات، مستودع الأرواح البديلة، أرخبيل الفزع؛ كراسة محكيات المعزل، سيرك الحيوانات المتوهمة، مقبرة الخرداوات (وهي تشذير نتشوي، كما أسلفت، يتجسدن تحت سقف المجاز)، جميعهم يتكلمون من فمي... كلها عناوين/محميات غرائبية، تُخفي بعدا غرائبيا وعرفانيا، يلفُّ الحدائق التي تتخفّى وراء هذه العتبات. والحق، إذا ما حاولنا تصنيف هذه التجربة المائزة، تصنيفا فنيا وفق المعايير الكلاسيكية أو حتى الجديدة منها لفن القصة نفسه، فإنه يصعب على القارئ، بل وحتى على الدارس المتخصص، أن يجد لها نظيرا أو شبيها، في طوبوغرافية السرد القصصي العربي على الأقل، لأنها، تجربة سردية "بينية"، مختلفة تماما عما درجت علية عادة السرديات العربية، تجربة صادمة إلى درجة أنها تفترض قارئا "بينيا"، أو "نموذجيا" بتعبير أمبرطو إيكو، قارئا يقْوى على ممارسة لعبة التجسير والترحُّل بين الواقع والحلم، الكائن والممكن، المعقول واللا معقول، وأن يكون فاكًّا Decodeur حصيفا لشفرات المصادفات والمفارقات الغريبة. إن ما يقوم به أنيس الرافعي اليوم، من هزات إمبريقية، في الطبقات السفلى للسرد العربي، تجعله بجدارة واستحقاق لقب "سيد القادمين من المستقبل". (*) شاعر وناقد مغربي