تتأسس العجائبية أو الغرائبية على تداخل عالمين متناقضين، عالم الحقيقة الحسية وعالم التصور والتخييل، وبالتالي يُلْفِي المتلقي ذاته بين المرئي واللامرئي، الشيء الذي يخلق لديه نوعا من الحيرة أمام ما هو كائن كواقع مُتَقَبَّل، وما سيكون كحدث خارق يثير الاستغراب. يعرف تودروف العجائبي بقوله :» هو التردد الذي يحسه كائن لا يعرف غير القوانين الطبيعية، فيما هو يواجه حدثا فوق- طبيعي حسب الظاهر» . يُفْهَم من هذا التعريف أن تَحُّقُق العجائبية على مستوى النص يَسْتَوْجِبُ استحضار شروط أساسية، تتمثل في ضرورة تردد القارئ من خلال التعامل مع الشخوص في النص وكأنها حقيقة ملموسة، هذا يحيلنا على شرط آخرحيث ينبغي على القارئ أن يحدد طريقة قراءة النص بشكل يزيح عنه التأويل المجازي لاستكمال عجائبية النص موضوع الدراسة.يضع هذان الشرطيان القارئ أمام لحظتين تخييليتين هما العجيب والغريب، والفرق الدلالي بينهما كون العجيب يجعل القارئ يقبل قوانين جديدة للطبيعة يفسر من خلالها الظواهر الطبيعية، وهذا في حد ذاته يسمح له بالخروج من العجائبية؛ بينما يتمثل الغريب في كون القارئ يعتمد قوانين الواقع باعتبارها سليمة وتسمح بتفسير الظواهر الطبيعية. وبالتالي يمكننا القول أن العجائبي يتراكب مع الغريب والعجيب إذ يحضر كحد بينهما. بالعودة إلى النص السردي «سيرك الحيوانات المتوهمة حقيبة رسومات ومنولوجات» للقاص أنيس الرافعي، يلح علينا سؤال مباشر يقفز من بين صفحاته، هل كان هذا السيرك الذي يحكى عنه أنيس الرافعي واقعا ملموسا؟ وهل حيواناته متوهمةً فعلا؟ سؤالان يستمدان مشروعيتهما من تدرج القارئ في قراءته النص السردي (سيرك الحيوانات المتوهَّمة) على اعتبار أن السؤال في جوهره يكمن في المبادئ التي أسست عليها النصوص السردية علاقتها بالقارئ بتبريرها ماتحكيه. هما سؤالان يتفرعان إلى أسئلة حول كيفية إغلاق هذا السيرك؟ ثم إن حمولة السؤال الأصل تختزلها دعوة السارد (رجاء،ادخل إلى السيرك بثقة، فلن ألتهمك) هي دعوة تفيد دلالتها الاستلزامية من فعل الأمر (ادخل) الالتماس،التماس السارد من القارئ خوض تجربة قراءة نص جديد متفرد بناء ومحتوى لعله يحقق أفق انتظار القارئ المتمرس. قد تسير الإجابة عن هذه الأسئلة في اتجاه التصديق لكون النص يقرر الصفة الإيجابية للحيوانات السيركية.إن هذه الأسئلة بما تحيل عليها من جدية تصطدم بما يفاجئنا به النص من تناقضات على مستويات متعددة، وبما يحمله من انتقاد وتعرية للواقع.ويزيدنا دهشة موقع السارد في انتمائه لفضاء هذا السيرك الذي هو من إبداعه، هذا الفضاء الفسيفسائي العجائبي، المركب والمنبعث من حقيبة تَجَحْفَل في عُقْرها المتناقضات من الشذرة والأسطورة والرسومات، هو لوحة فنية أستطيقية تُوَلِّد لدى القارئ الشعور باللذة، شعور يستند إلى اللعب الحُرِّ بين الخيال والذهن. هذا الانتماء المتلبس بين الجدية والعبثية والسوريالية والعدمية…،وهو ما يعني أن النص السردي سيرك الحيوانات المتوهَّمةمحكوم ببلاغة السخرية،ولعل القارئ يعلم المكانة التي تحتلها هذه الأخيرة في النصوص السردية من حيث صياغتُها للمفهوم الحواري البوليفوني الذي نجده عند باختين على اعتبار أن النص أمامنا هو سرد ويمكن أن يندرج ضمن جنس الرواية، (وهنا أشير إلى أن أنيس الرافعي لم يحدد جنس النص على الغلاف حيث تركه مفتوحا على مصطلح (سرد)، ولعله رام بذلك الزج بالقارئ إلى متاهة التفكير و قلق السؤال، إنما في قالب مختلف رسم انيس الرافعي من خلاله لنفسه خطا مميزا ومتميزا مؤَسَّسا على فعل الاستعارة،حيث تتعدد الأصوات والخطابات تعددا يفضي إلى حوار وصراع إيديولوجي وهو ما فرض على الكاتب أنيس الرافعي الحياد فاسحا للشخوص على اختلافها نسبة من الحرية في التعبير عن ذواتها بعيدًا عن هيمنته كسارد. ثم إن القارئ لمحتوى النص السردي «سيرك الحيوانات المتوهمة» الذي جاء مقسما بين الشذرة كتذاكر مجانية للدخول إلى السيرك،ومونولوجات أضفت الأنسة على حيواناته ، يكتشف من خلال الحوارية التي تبناها السارد، ذلك الوجود الاجتماعي الحاضر لها بشكل مكثف داخل النسيح اللغوي ذاته، وهو ما يساهم في بناء تلك العلاقة الاجتماعية القائمة بين المبدع والمتلقي. يعتبر تواري السارد خلف مونولوجات الحيوانات المتوهمة وجها من وجوه السخرية المنبجسة من واقع التناقضات بين جريرة كشف الواقع وبين ضرورة ستره، تناقضات مثيرة للسخرية من منظور «التردي» الذي جاء به جان كوهن حيث لا يقتصر على الاتجاه نحو السلب بل يتجه أيضا نحو الإيجاب عبر العبور من القيمة إلى الضد في محاولة لإعادة بناء الذات بعد عملية الهدم، وهو ماسعت إليه حيوانات السيرك، يقول على لسان بعضها:(ليست لدي خوارق كثيرة، عدا هذه المقدرة السرية والفريدة من نوعها التي تتمثل في قابلية أخذ هيئة ستة حيوانات بديلة محددة بالاسم والصفة…/ وبمجرد ما صرت حرا طليقا.. متأهبا للرسو قرب بركة ماء… حتى شعرت بأن سيقاني تخلت وأعرضت عني… ألمي مختف ولا وجود له، غير أني مصر على الوصول بأي ثمن…/ بينما نحن جيلا تلو جيل نقيم هنا في محطة الانتظار الأزلية والكبيرة هي الأرض نُمَوِّه جلودنا بالتخفي…ثم نحلم ونترقبان تحط مركبتنا كي تحملنا إلى مسقط رؤوسنا حيث كنا نتزحلق فوق حمم البراكين دون أن تحترق جلودنا المصفحة…) ويستمر هذا التردي عن طريق التحول والتبدل، وتلك سخرية تتأسس على مفارقة زمانية تصل إلى توصيف الانفعالات الذاتية وشخصنة المعاناة في التبدل عبر طرح السؤال مجددا : لماذا يقع الاختيار تحديدا علي بالذات وليس على ذلك الرخو ثنائي الجنس؟ لماذا هرب خيالي الأغر نحو خيال شقي على هذه الشاكلة؟ تكشف هذه المفارقات وغيرها، داخل المتن السردي، عن سخرية مريرة إذ تصور ذلك الانفصال بين واقع الحال وهو الكائن، وبين التمثلات الذهنية لدى الشخصيات، هذه التمثلات التي هي في العمق بناء نظري لحمولتها المعرفيةمن خلال عمليات الحدوث والتحويل والتخزين لمعارفها. بالعودة ثانية إلى شخصيات «سيرك الحيونات المتوهمة»، وطريقة بنائها ، نلفيها إحدى الآليات التي اعتمدها السارد في إنتاج السخرية من خلال إضفائه عليها ازدواجية الصفة في ممارستها كشف المخبوء من جهة، والرغبة الجامحة في إثبات الهوية من جهة ثانية وهو وجه من وجوه السخرية الناتجة عن التحول الرديء والإحساس بالمرارة، وبالتالي يكون السارد الساخر في تدرجه عبر مونولوجات هاته الشخصيات، وهو يبث فيها صفات الأنسنة ويؤول بها نحو ترد مستمر، قد صاغ رؤيته من زاوية النقد لا من زاوية التشكيك واليقين، حيث بدت الشخصيات المتنوعة من خلال سلوكاتها ومواقفها وقناعاتها حزينة مدمرة وغير راضية ،و حالمة في ذات الآن. إن هذا التناقض بين ما هو كائن وما يفترض أن يكون هو طريقة متعمدة لإنتاج سخرية تتوافق مع توليفة من التوصيفات المبذَّرة في ثنايا الحوارات المونولوجية بما لها من طاقة على إنتاج السخرية. يقول «مكثتَ حائرا أشد الحيرة أمام الواقعة الغريبة لسقوطي الصاعق/رجاء لا تضحك علي ساخرا من فضلك/ رجاء لا تضحك مني هازئا لو تكرمت/ أخال أنهم توهموا الأمر مجرد افتراء/ اليوم وأنا أخشى على مصيري حد الرعب وعلى ظلي المهدد في سلامته الوجودية..» كما أن الوصف يأخذ ألوانا من العجائبي التخييلي في رسم يشبه خريطة الهروب على صفحة البطن البيضاء الناصعة للقرش بشتى خطوطها ومسالكها ورموزها وأسرارها المتعسرة.. كي يواصل رحلته السرمدية صوب العدم. إن بلاغة السخرية التي جسدها النص السردي «حيوانات السيرك المتوهمة: حقيبة رسومات ومونولوجات» تختزل دلالات الألم الذي ينتهي إلى التيه وهو في اعتقادي الشخصي الهدف الذي سعى إليه أنيس الرافعي وليس المتعة والهزل، إذ شكل السيرك بحيواناته كوة على العالم الذي يجتر في مفارقة غريبة مختلف التناقضات. إن قارئ هذا النص حيث الحيوانات المؤنسنة لا تعيش الزمن، ولا تصنعه بقدر ما تعيش صراعا على هامشه، يستوعب أن هذا الصراع يحيل على إشكالية أكبر تتمثل في السلطة الزمنية وما تكرسه من استبداد واستعباد على اعتبار أن الزمن هو مظهر نفسي لا مادي، ومجرد لا محسوس، ويتجسد بمدى الوعي به، من خلال ما يتسلط عليه بتأثير الخفي غير الظاهر، لا من خلال مظهره في حد ذاته.