الرياضة فعل بدني يكسب الجسم قوة ونشاطا، يؤثر به على الملكات العقلية، فتعمل على قدر من الهمة والعزم. لذلك قالوا قديما : العقل السليم في الجسم السليم. ولو أن سلامة الجسم لها مداخل كثيرة وأبواب، كالنظافة والقصد في الأكل والنوم. لكن تبقى الرياضة ذات أهمية وأثر على البدن لا ينكر. "" لكن عندما تصبح الرياضة شغل الإنسان الشاغل، وتغلب على الهدف الأسمى الذي خلق له، وكلف من أجله، حينئذ تسقط قيمة الإنسان، ليصبح عبدا لهواه، ويلتف حول ذاته فردا همه الأول الشهرة في أمر لا ينفع، وعمل لا يفيد. وهذا حكم يستغرق كل أنواع الرياضات التي انتشرت في عصرنا، وصرفت فيها الطاقات المادية السخية والجهود. بينما الآلاف المؤلفة، بل الملايين من الناس لا تكاد تجد رمقا تسد به جوعها، أو لباسا يستر عريها. لقد أفرغت الرياضة من روحها، وغدت قوالب جامدة يطلب ممارسها والقائم عليها جميعا، كسبا ماديا : مالا وشهرة، نفوذا وسلطة. وأغرقوا في ذلك وأفرطوا، فلم يسلم جسم ولا عقل. بل ساق الجشع كثيرا منهم إلى أخس الوسائل من أجل كسب السبق، ولو كان في ذلك تدمير ذاتي. فيصبح الجسم الذي كان قبل ذلك وسيلة لتربية النفس وبناء العقل السليم، يصبح أداة لتخريب بطيء محكم يهدد الجسد والعقل جميعا، وينفث سمومه من حوله ليصيب أقواما وأعلاما. وما فضائح العقاقير والمنشطات التي ما انفكت تنفجر هنا وهناك، إلا عرض من أعراض مرض عضال، ينخر الأساس الذي بني عليه الفهم الفاسد للرياضة. إن البطولات في كرة القدم مثلا، تملأ السنة كلها وتشغل مئات الملايين من الناس؛ متابعة وحوارا، نقاشا وجدالا، ومجلات ومسابقات وأسئلة وخصومات ههنا وثم، أخلافا وأحلافا بكرة وأصيلا، يتنافسون في حفظ الأسماء والنتائج، بل وحتى سبل تسجيل الأهداف، وكيف انتقلت الكرة بين اللاعبين، ومن لمسها في تلك الدقيقة ... طاقات عقلية وقدرات فكرية وسجالات منهجية، لو استغلت في نفع عام لفعلت الأعاجيب، ولطارت بالأمم في مدارج التقدم أشواطا بعيدة، ولنقلتهم في المعارف والفكر أطوارا مديدة. ونظر الناس، غوغاء الناس، فرأوا المظهر وعموا عن اللب. نظروا فرأوا المال يغدق على اللاعبين ثرا، والمجلات الباهرة تشرق بصورهم الملونة، والقنوات التلفزية تملأ الدنيا ضجيجا بتصريحاتهم الفطيرة، رأوا كل ذلك، فدارت النفوس في قواقعها دورة لم يسكن لها بعدها مطمع، واشرأبت الأعناق نحو " مثلها الأعلى " في غمرة يتساءلون : ماذا يلبس؟ وأين يركب؟ كيف يمشي ويتكلم؟ كيف يقص شعره ويحلق ذقنه؟... أمور تافهة في حياة الناس، تمسي عند كثير مبلغ همهم، ومنتهى علمهم، ومطلبا أسنى يحرصون عليه كل الحرص، ويتحرون في إتقانه كل سبيل وجهد. إنها النفوس الضعيفة المهزومة التي ترى نفسها في غيرها، وتحلم مستيقظة بواقع ما هو منها ولا هي به. أرأيت يوما سيلا من الناس مندفعا من ملعب؟ قد ملأوا الشوارع، يكادون يطيرون من الفرح. والحناجر لهجى بالنصر المبين، صخب أيما صخب وعرق بل الأكتاف؟ إنهم في غمرتهم ساهون سكرى وعما قريب يهدأون ويكشف الغطاء، وتنجلي الغشوة فيرون الواقع البئيس، بكل مرارته وهوله. إن أغلبهم من الكادحين الذين يلتقطون لقمة العيش من ههنا وثم، قد رموا بتلك الدريهمات في جيوب تخمى، وعادوا إلى بيوتهم يصبون جام غضبهم على أزواجهم، وإخوانهم، و آبائهم.... إن الغرب لم يترك لهوا إلا رمانا به، فنستقبله استقبال المشوق المستهام، ويسري في خلايانا وتتشربه نفوسنا، فنولع به ولعا يربو على أهله ومصدريه أشواطا موغلة. إنه ليس عيبا أن نأخذ عنهم ونستمتع، لكن ينبغي أن لا نقلب منطق الأمور، فخط العيش يسير متواصلا متدرجا، من الضروري إلى الكمالي، من الواجب إلى المتعة. فالدول المتخلفة، ما لها وللمباريات والدوريات والملاعب، التي تصرف عليها الملايير، والناس فيها لم يتحقق لهم أدنى مستوى من العيش الكريم. إن الغرب في نهضته التي يجني ثمارها الآن، لم ينطلق ببناء المركبات الرياضية، أو تكوين عدائين يسابقون في صراع أجوف عقارب الساعة، بل انطلقوا ببناء المعاهد، وتأسيس الجامعات، لتكوين رجال الفكر، ونشر المعرفة، وتبسيط العلوم، حتى إذا استتب لهم ذلك ومضى موكب العلم في جلاله، ينير الطريق للناس في ثقة وعزم، ولوا إلى المتعة واللهو، واشتغلوا بالبحث عن اللذة والترفيه، كفرع تابع وليس أصلا مؤسسا. وهذا لا ينفي أن البحث عن اللذة صاحب الإنسان مذ كان،أو يعني أنه انقطع حبله في عصر النهضة، وإنما هو لم يظهر بالوجه الذي هو عليه، إلا في العقود الأخيرة، وإذا كانوا قد بنوا مركبات رياضية، ونوادي وأقاموا دور الملاهي، فلقد شيدوا جامعات ومعاهد، وأنشأوا مختبرات ومكتبات مستحدثة، نبتت في المجتمع كالفطر، ورصدوا للبحث العلمي نسبا هامة من الناتج الوطني، وبذلك سار الجسم والعقل معا يكونان لحمة منسوجة بعناية، لتؤتي أكلها كل حين، بل أصبح كل شيء لديهم خاضعا لمراكز البحث. فلا يصدرون قرارا إلا بعد أن يقتلوه درسا. وبذلك استقروا على سرير السيادة ينظرون إلى العالم من عل، ويديرونه على مشيئتهم وهواهم، ويسوقون مَن دونهم إلى منافعهم هم، بعد أن عرفوا السبيل إليها، وحرموها عليهم، ومنعوهم الاطلاع على أسرارها والإفادة منها، والويل لمن سولت له نفسه نظرا بعيدا، أو تطلعا وشيكا. إن قيمة الأمة برجالها، (الرجال هنا كلمة تعم المرأة والرجل)، وليس الرجال بالأجسام الهيكلة التي تهد الجبال، أو التي تسبق الريح عدوا. فهل غيرت الأرقام المحطمة في السباقات، من حالة كينيا، وإثيوبيا، المزرية؟ هل قضت على المجاعة وأعادت كرامة الإنسان المسلوبة؟ . وإنما الرجال بعقولها، ذلك هو الاستثمار النافع. إن الله تعالى لم يأمر الملائكة بالسجود لآدم، وهو جسد من طين ساكن بارد، بل حتى نفخ فيه من روحه، فعلت درجته وعلم ما لم تعلمه الملائكة، وعجزوا عن معرفة الأسماء. فالبدن تابع والعقل سائد. فإذا انعكس الأمر نزل الإنسان دركات إلى حالة البهيمة، ليس له توجيه من عقله. وصار معرضا عن طيب نفس للاستعباد والاستغلال. وهذا ما يحدث الآن؛ حتى أصبحنا وكأننا في عهد النخاسة، بعد أن عاد الناس يباعون ويشترون، ودخل الجسم البشري أسواق العبيد كما في الماضي. إنما تغيرت الأسماء وارتفعت الأثمان لتضرب بعيدا في الخيال والحلم. واستعبد الناس برضاهم، وأكسبهم ذلك شهرة ومالا واشرأبت الأعناق إليهم، وأصبح "العبد معبودا" يلهث خلفه الملايين من ضعاف النفوس، وهكذا انقلبت الموازين في عصرنا، فأزري بالعالم وأهمل الرأي والحكمة، وغلفت المظاهر البراقة حقائق الأشياء وطمستها، فاهتم الناس بالتوافه والسفا سف عجزا وكسلا، وطلبا لأيسر السبل وأخسها، حتى أضحى الناس يعرفون الخطأ ويقعون فيه، لا جهلا به، ولكن لأنهم مسلوبو الإرادة، عميت بصائرهم، ولا سلطة لهم على أنفسهم، وأصبح الرجل منهم يصرف الآلاف على التدخين والمقاهي، ويشتكي غلاء الدفاتر والأقلام، يطلبها أبناؤه للدراسة والتعلم، وترعد فرائصه فرقا من عيد الأضحى، فإذا ضاق لعن الزمان وعابه .