طنجة .. مناظرة تناقش التدبير الحكماتي للممتلكات الجماعية كمدخل للتنمية    جمعية المحامين ترحب بالوساطة للحوار‬    حموشي يخاطب مجتمع "أنتربول" بالعربية    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    النصيري يزور شباك ألكمار الهولندي    المدير العام لإدارة السجون يلوح بالاستقالة بعد "إهانته" في اجتماع بالبرلمان    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    الموقف العقلاني والعدمي لطلبة الطب    المغرب يمنح الضوء الأخضر للبرازيل لتصدير زيت الزيتون في ظل أزمة إنتاج محلية    المنصوري تكشف عن برنامج خماسي جديد للقضاء على السكن الصفيحي وتحسين ظروف آلاف الأسر    مجلس الجالية يشيد بقرار الملك إحداث تحول جديد في تدبير شؤون الجالية    حموشي يترأس وفد المغرب في الجمعية العامة للأنتربول بغلاسكو    إحصاء سكان إقليم الجديدة حسب كل جماعة.. اليكم اللائحة الكاملة ل27 جماعة    الأمازيغية تبصم في مهرجان السينما والهجرة ب"إيقاعات تمازغا" و"بوقساس بوتفوناست"        هذه حقيقة الربط الجوي للداخلة بمدريد    المغرب يعتمد إصلاحات شاملة في أنظمة التأمين الصحي الإجباري    1000 صيدلية تفتح أبوابها للكشف المبكر والمجاني عن مرض السكري    الأسباب الحقيقية وراء إبعاد حكيم زياش المنتخب المغربي … !    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    اعتقال رئيس الاتحاد البيروفي لكرة القدم للاشتباه في ارتباطه بمنظمة إجرامية    توقيف 08 منظمين مغاربة للهجرة السرية و175 مرشحا من جنسيات مختلفة بطانطان وسيدي إفني    بايدن يتعهد بانتقال "سلمي" مع ترامب    ‬‮«‬بسيكوجغرافيا‮»‬ ‬المنفذ ‬إلى ‬الأطلسي‮:‬ ‬بين ‬الجغرافيا ‬السياسية ‬والتحليل ‬النفسي‮!‬    الخطاب الملكي: خارطة طريق لتعزيز دور الجالية في التنمية الاقتصادية    2024 يتفوق على 2023 ليصبح العام الأكثر سخونة في التاريخ    الجماهير تتساءل عن سبب غياب زياش    "أجيال" يحتفي بالعام المغربي القطري    ياسين بونو يجاور كبار متحف أساطير كرة القدم في مدريد    المنصوري تكشف حصيلة برنامج "دعم السكن" ومحاربة دور الصفيح بالمغرب    مجلس جهة كلميم واد نون يطلق مشاريع تنموية كبرى بالجهة    ليلى كيلاني رئيسة للجنة تحكيم مهرجان تطوان الدولي لمعاهد السينما في تطوان    انطلاق الدورة الرابعة من أيام الفنيدق المسرحية    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    صَخرَة سيزيف الجَاثِمَة على كوَاهِلَنا !    ما هي انعكاسات عودة ترامب للبيت الأبيض على قضية الصحراء؟    انتخاب السيدة نزهة بدوان بالإجماع نائبة أولى لرئيسة الكونفدرالية الإفريقية للرياضة للجميع …    ندوة وطنية بمدينة الصويرة حول الصحراء المغربية    مورو يدشن مشاريع تنموية ويتفقد أوراشا أخرى بإقليم العرائش    بنسعيد يزور مواقع ثقافية بإقليمي العيون وطرفاية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    ضبط عملية احتيال بنكي بقيمة تتجاوز 131 مليون دولار بالسعودية    سفير أستراليا في واشنطن يحذف منشورات منتقدة لترامب    قانون إسرائيلي يتيح طرد فلسطينيين        خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    أولمبيك مارسيليا يحدد سعر بيع أمين حارث في الميركاتو الشتوي    محكمة تونسية تقضي بالسجن أربع سنوات ونصف على صانعة محتوى بتهمة "التجاهر بالفاحشة"    بعد رفعه لدعوى قضائية.. القضاء يمنح ميندي معظم مستحقاته لدى مانشستر سيتي    مزور: المغرب منصة اقتصادية موثوقة وتنافسية ومبتكرة لألمانيا    إعطاء انطلاقة خدمات مركز جديد لتصفية الدم بالدار البيضاء    إحصاء 2024 يكشف عن عدد السكان الحقيقي ويعكس الديناميكيات الديموغرافية في المملكة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدخل منهجي لتجديد الأصول (1/2)
نشر في هسبريس يوم 11 - 02 - 2014


مدخل
موضوع أصول الفقه له شحنة وجدانية عالية، إن الحدود والمسافات التي تفصل الذات عن الموضوع في هذا المبحث شبه غائبة، فالموضوع الذي هو أصول الفقه جزء من الذات، ذاتنا الثقافية، إذ الفقه وأصوله "علم" إسلامي أصيل فعلا، وكل محاولات المستشرقين لإيجاد حلقة وصل بين المنظومة التشريعية الإسلامية ومنظومة التشريع الرومانية في سياق السعي لتضخيم "الأنا" الغربية لم تصمد كثيرا أمام الحقائق التي تصب كلها في إسلامية الفقه وأصوله، ولهذا اضطر المستشرق الإيطالي "سنتيلانا" الذي كان مرجعا في الدفاع عن مركزية الغرب التشريعية للاعترف في آخر المطاف بعبثية البحث عن جذور للمنظومة الفقهية الإسلامية في المنظومة الغربية تبعا لمنهجية المستشرق الفيلولوجية، حيث قال : "عبثا نحاول أن نجد أصولا واحدة تلتقي فيها الشريعتان الشرقية والغربية كما استقر الرأي على ذلك. إن الشريعة الإسلامية ذات الحدود المرسومة والمبادئ الثابتة لا يمكن إرجاعها أو نسبتها إلى شرائعنا وقوانيننا لأنها شريعة دينية تغاير أفكارنا أصلا"(1) ، وإذا كان هذا الوجه من الشعور الوجداني، أقصد الدفاع عن أصالة الفقه وأصوله ضروري لمواجهة تحديات العولمة الثقافية التي تهدد الهوية، فإننا لا نرى أي مبرر ليتحول هذا الحرص إلى عُصَاب جماعي، بحيث يصير المسلم غير قادر على مراجعة التراث وتاريخه، وبالفعل هذا ما حدث مرارا وتكرارا في تجربتنا التاريخية، ودوننا الجدل الذي رافق القراءة الجديدة التي قدمها د. نصر حامد أبو زيد لأصول الفقه في كتابه "الإمام الشافعي : وتأسيس الأيديولوجية الوسطية". وفي الحقيقة، الدفاع المرضي عن التراث والتحصن وراء الأسلاف مؤشران على تراجع الوعي الثقافي والانحدار الحضاري كما يقول المفكر الجزائري محمد أركون بحق، وإلا فإن كثيرا من العلماء الذين ينتمون للمرجعية السلفية أو "أهل الحديث" تعاملوا بمرونة عالية مع العلوم الإسلامية، وكانت لهم رؤية نسبية حيال علم معياري آخر أشد التصاقا بالمرجعية السلفية وهو "مصطلح الحدييث"، يقول ابن الصلاح "ومتى قالوا حديث صحيح فمعناه أنه اتصل سنده مع سائر الأوصاف المذكورة، وليس من شرطه أن يكون مقطوعا به في نفس الأمر (...) وكذلك إذا قالوا في حديث أنه غير صحيح فليس ذلك قطعا لأنه كذب في نفس الأمر، إذ قد يكون صدقا في نفس الأمر وإنما المراد به أنه لم يصح إسناده على الشرط المذكور والله أعلم" (2)، من هنا ضرورة نزع القداسة عن التراث، وإخضاع مباحثه وعلومه للفحص والنقد مادامت ليست قطعية، خاصة عندما يتعلق الأمر بعلم أسهم بشكل فعال في بلورة العقل العربي الإسلامي، أقصد علم أصول الفقه.
أصول الفقه والعقل الإسلامي.. أية علاقة؟
الأطروحة التي سندافع عنها هنا، والتي سنسعى للبرهنة عليها، هي مساهمة أصول الفقه كما تبلورت مع الأصولي الأول الإمام الشافعي في تشكيل العقل الإسلامي. وسنعمد في سبيل بيان ذلك إلى استحضار التصور الحديث للعقل، ومقارنة ماهيته بقواعد أصول الفقه، ثم سندعم وجهة نظرنا هذه بقراءتين من داخل الفكر العربي المعاصر اتفقتا في مقاربتهما للعقل حول إيلاء رسالة الشافعي أهمية قصوى، ثم نقدم شواهد من الفكر العربي القديم و"المعاصر" على تغلغل طريقة الشافعي "العقلية" واتخاذها كنمط في إنتاج المعرفة.
ينظر العلم الحديث إلى العقل كمجموعة قواعد تشكلت من خلال الاحتكاك بموضوع ما، فمادامت مهمة العقل الأساسية هي الضبط والتنظيم، فإن هذه العملية لا تتم من فراغ، بل التفكير هو تفكير في موضوع ما، من هنا نفهم تلك النقلة الإبستمولوجية للعقل من اليقين إلى اللايقين، من الحتمية إلى النسبية، فعلم المنطق الذي يؤمن بحتمية قاطعة كان يتعامل مع أجسام صلبة، لكن بعد أن تم اختراق الفيزياء الكلاسيكية لم يعد المنطق الأرسطي قادرا على ضبط الظواهر الجديدة، فاحتاج العقل لتطوير نفسه ووضع فيزياء جديدة، ولقد كانت السمة الأساسية لهذه الفيزياء هي الإيمان باللاحتمية والنسبية، وهذا ما يعبر عنه كونزيت بقوله "المنطق فيزياء موضوع ما" (3).
وهنا نطرح السؤال : ما هو الموضوع الذي احتك به العقل الإسلامي وحاول أن يضبطه وينظمه؟
من غير شك أن العلم المركزي في الثقافة العربية والذي كانت سائر العلوم الأخرى خادمة له هو "الفقه"، وإذا كانت علاقة الفقه بالحديث ومصلطحه أو بالتفسير أو بعلوم اللغة واضحة لا تحتاج لمزيد توضيح، فضلا عن توضيح علاقة الفقه بأصوله، فإن العلوم التي تبدو بعيدة كل البعد عن الفقه تشكلت بشكل أو بآخر تحت إملاءات هذا العلم، نقصد هنا علم الجبر الذي أسسه الخوارزمي، فهو يقول أنه ألف كتاب الجبر والمقابلة من أجل "ما يلزم الناس من حاجة إليه في مواريثهم ووصاياهم" (4)، بل والتاريخ كذلك لم تكن دواعي الاهتمام به هي معرفة الماضي هكذا بإطلاق، بل كما يقول عبد الله العروي "تحديد حكم شرعي لصالح فرد أو جماعة، لهذا السبب كثر بين المؤلفين في التاريخ أول الأمر الفقهاء" (5).
نخلص مما تقدم أن الموضوع الذي شكل مادة عمل العقل على تنظيمه هو الفقه، وقد تجلى هذا التنظير العقلي للكيفية التي يجب أن يقارب بها العقل الفقه في "أصول الفقه"، فهذا الأخير كان بمثابة تقنين عقلي لنمط اشتغال العقل وهو يحتك مع النص (6)،فأصول الفقه هي تلك القواعد العقلية التي تجب مراعاتها من أجل استخلاص العقل للأحكام الشرعية من الأدلة التفصلية على نحو سليم، أو بعبارة الأصولي "المنهاج الذي يرسم للفقيه ليتقيد به في استنباطه حتى لا يخرج عن الجادة فهو يرتب الأدلة، ويبين من يخاطب بأحكام الشرع وينطبق عليه ما تقتضيه هذه الأدلة (..) ويبين القواعد اللغوية التي ترشد الفقيه إلى استخراج الأحكام من النصوص وبين الموازين التي تضبط القياس وتفيد طرق استخراج العلل الجامعة بين الأصل المقيس عليه والفرع المقيس" (7)، وبعبارة مختصرة أصول الفقه هي "القواعد والبحوث التي يتوصل بها إلى استفادة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية" (8).
إن أول ما نستشفه من هذه التعاريف الطابع الإبستمولوجي لعلم أصول الفقه، إنه ينظر في مبدأ علم الفقه، ويصبو لبناء دعامة وقاعدة متينة للفقيه (9) يستوحيها كنموذج ذهني أثناء اشتغاله، ومما له دلالة خاصة أن يقرن المتكلم الأشعري الرازي بين علم المنطق وأصول الفقه، يقول "واعلم أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة أرسطاطليس إلى علم المنطق (...) وذلك لأن الناس كانوا قبل أرسطاطاليس يستدلون ويعترضون بمجرد طبائعهم السليمة، لكن لم يكن عندهم قانون ملخص في كيفية ترتيب الحدود والبراهين. فلا جرم كانت كلماتهم مشوشة مضطربة (...) فلما رأى أرسطاطاليس ذلك، اعتزل عن الناس مدة مديدة واستخرج علم المنطق ووضع للخلق بسببه قانونا كليا يرجع إليه في معرفة تركيب الحدود والبراهين (...) فكذلك ههنا الناس كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل الفقه ويعترضون ويستدلون. ولكن ما كان لهم قانون كلي يرجع إليه في معرفة الدلائل الشرعية وفي كيفية معارضاتها وترجيحاتها فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه" (10)، فإذا كان علم المنطق بالتعريف هو "ما يعصم العقل من الخطأ"، ألا يحق لنا أن نقول تبعا لقولة الرازي أن أصول الفقه هي ما يعصم العقل الإسلامي من الخطأ؟
إننا نستطيع أن نتبين أكثر جوابا لهذا السؤال إذا استحضرنا التمييز اللالاندي بين "العقل المكوّْن" و"العقل المكوَّن"، ف "لالاند" يميز داخل كل ثقافة بين عقلين، مكوّْن؛ وهي الملكة التي تميز الإنسان كحيوان ناطق، وهي كما يقول "لالاند" مشتركة عند الجميع، أما العقل المكوَّن ف "مجموع المبادئ والقواعد التي نعتمدها في استدلالاتنا"، ومما لاشك فيه فإن القواعد التي وضعها العقل الإسلامي في استدلالاته هي نفسها تلك التي ضمّن الإمام الشافعي كتابه الأصولي الأول الذي سُمي "الرسالة".
وبالفعل، فإننا نجد بعض الباحثين العرب المعاصرين ينطلقون في دراستهم للعقل الإسلامي من رسالة الشافعي، باعتباره الطريق المختصر لمعرفة "البراديغم" أو نموذجه الذهني في الاشتغال، فالمفكر محمد أركون اقترح ثلاث استراتيجيات من أجل القبض على العقل الإسلامي "الكلاسيكي"، إما الارتكاز على دلالات المفهوم في النص القرآني ثم تتبع تطوراته داخل الفكر الإسلامي، وإما الوقوف على دلالة توظيف المفهوم عند الفرق الإسلامية ومن ثم اختيار أكثرها تعبيرا عن الخصوصية الإسلامية، وإما اختيار كتاب معياري صودق على معياريته ومرجعيته بإجماع الفرق الإسلامية، وهذه الأخيرة هي التي سيعتمدها أركون، يقول "إما أن نبحث عن نشأة هذا المفهوم بدءا من لحظة القرآن ونتتبع مساره حتى القرنين الثالث والرابع الهجري. وإما أن نستعرض مختلف مفاهيم كلمة عقل الموجودة لدى مختلف المدارس ثم نحدد من بينها المفهوم الذي يستحق صفة الإسلامي أكثر من غيره. وأخيرا إما نعتمد نصا محددا (...)، إن الخيار الأول يعيدنا إلى التاريخ الخطي للأفكار، وأما الثاني فيكسر وحدة أنظمة الفكر التي نبحث بالضبط عن وظائفها ودلالاتها. وأما الخيار الثالث فهو الأفضل" (11). لكن في أي خندق زج الشافعي بأصوله العقل الإسلامي؟
إننا لا نستطيع أن نجيب عن هذا السؤال إذا لم نحلل كتاب "الرسالة" للإمام الشافعي، وليكن محمد أركون وسيطنا في فهم جملة الإشكالات التي طرحها الشافعي.
يرى محمد أركون أن الرسالة تضعنا أمام عنوانين كبيرين، هما "لغة، حقيقة، قانون" و"حقيقة، تاريخ"، فالإشكالية الأولى فحواها أن معرفة حقيقة القانون، أو لنقل إصدار فتوى أو النطق باسم الشارع يمر عبر وسيط لغوي، فلابد للمفتي أن يكون عارفا باللغة العربية ولسانها، يقول الإمام الشافعي "ومن جماع علم كتاب الله العلم بأن جميع كتاب الله إنما نزل بلسان العرب" (12)، والإمام الشافعي في هذه المقولة كان يتوجه بالكلام إلى من زعموا أن في القرآن كلمات غير عربية، يقول بصيغة جدلية "فقال منهم قائل : إن في القرآن عربيا وأعجميا" (13)، وهو يجيب عن هذا الاعتراض ببيان مداخل الغلط إن صح التعبير، أو لنقل أن الشافعي يرى بأن هؤلاء "العجم" وقعوا في مغالطة مفادها الاعتقاد في كون جهل العرب ببعض ألفاظ اللغة دليل على أن ذلك المجهول من غير لسانهم، والجواب الذي يقدمه الإمام الشافعي لهذا الاعتراض هو التنصيص على سعة اللسان العربي، فهو "أوسع الألسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان عربي غير نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها"، ثم يعقد الإمام الشافعي مقارنة بين العلم باللسان العربي والعلم بالسنة لدى الفقيه، فكما أن الإحاطة بكل سنة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم متعذرة على الفقيه، فإن "العلم [بلسان العرب] كالعلم بالسنة عند أهل الفقه، لا نعلم رجلا جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيئا" (14). لكن يبدو أن خلفيات هذا النقاش لا تخلو من دواعي إيديولوجية، إن بعض الفقرات في رسالة الشافعي توحي بأنه كان يود أن يؤسس لمركزية العربي في السلطة التشريعية (15)، خاصة عندما يتحدث عن ماسماه تبعية، يقول الشافعي بوضوح ودائما بصيغة جدلية، ما يعني أن آخرا ما غير عربي كان حاضرا في وجدانه وعقله وهو يحرر رسالته " فإن قال قائل فقد نجد من العجم من ينطق بالشيء من لسان العرب؟" فيجيب الشافعي "فذلك يحتمل ما وصفته من تعلمه منهم فإن لم يكن ممن تعلمه منهم فلا يوجد ينطق إلا بالقليل منه، ومن نطق بقليل منه فهو تبع للعرب فيه" (16).
لنترك علاقة الحقيقة بالقانون والتي تمر عبر وسيط لغوي كما يحدثنا بذلك محمد أركون، ولننتقل إلى علاقة الحقيقة بالتاريخ، أو بمعنى آخر كيفية ضبط الحقيقة عبر السيرورة التاريخية، بحيث يظل الحضور الإلهي دائم كمشرع ينوب عنه "موقعون". إن الآلية التي يقدمها لنا من أجل هذا الاستمرار للنص في تشكيل الواقع وتوجيهه هي القياس، فمن خلاله يمكن أن نربط العقل المشرع باللحظة التأسيسية الأولى، والإمام الشافعي يشدد على ضرورة استعمال آلية القياس كنمط وحيد لممارسة الإجتهاد حتى يقصي آليات أخرى نص عليها أئمة آخرون خاصة الاستحسان والمصالح المرسلة (17). ولابد من التنبيه على أن القياس كما هو مرسوم في المنظومة التشريعية ليس سوى استنباط ما هو موجود في النص، لذلك لا يفتأ يمثل لذلك بمعرفة القبلة، يقول الشافعي "والقياس ما طلب بالدلائل على موافقة الخبر المتقدم من الكتاب أو السنة.. كطلب ما وصفت من قبل من القبلة" (18)، ولهذا فهو لا يغفل في مقدمة رسالته على تأكيد إحاطة القرآن بكل النوازل التي قد تحدث والتغييرات التي قد تطرأ، ولو على سبيل الهدي، كما ينبهنا كما أشرت قبل على سعة السنة النبوية التي لا يمكن لأحد أن يحيط بها كما هو الشأن مع اللسان العربي، فهو بهذا التنصيص يمهد للقول بضرورة اتخاذ القياس آلية وحيدة للاجتهاد لأنه "ليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلى وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدي فيها" (19).
يمكن أن نجمل مرامي الشافعي من تأليف كتابه في نقطتين، الأولى إقرار السنة كسلطة تشريعية لها استقلاليتها في التشريع استنادا على القرآن الذي يدعو إلى طاعة الرسول، وهي فكرة سادت بعد الشافعي وإلا فقبله كان الاختلاف محتدما بين فريقين كما يقول الشافعي نفسه، والثانية هي التشريع للمشرع (20) أو تقنين الرأي واشتراط موافقة الخبر المتقدم، وكلاهما يؤسسان لفعل عقلي واحد يقوم على القياس ويلغي التاريخية. يقول محمد أركون "إن مؤلف الرسالة قد ساهم في سجن العقل الإسلامي داخل أسوار منهجية معينة سوف تمارس دورها على هيأة استراتيجية لإلغاء التاريخية" (21).
لكن رغم أن محمد أركون انتبه لتأثير الرسالة في توجيه العقل الإسلامي، فإنه حصر ذلك في إطار تيولوجي معين، فالرسالة شدت المسلم إلى نص معين وحقبة زمنية معينة وذلك باعتماد القياس، أما محمد عابد الجابري، فقد ذهب إلى أبعد من ذلك، فهو الآخر يعترف أن الإمام الشافعي هو المشرع الأكبر للعقل العربي، وأن قواعده التي وضعها تتنزل من العقل العربي منزلة قواعد المنهج التي وضعها "ديكارت" للعقل الفرنسي الأوروبي، يقول الجابري "إذا كانت مهمة الفقه هي التشريع للمتجمع فإن مهمة أصول الفقه هي التشريع للعقل (...) وأن القواعد التي وضعها الشافعي لا تقل أهمية بالنسبة لتكوين العقل العربي الإسلامي عن قواعد المنهج التي وضعها ديكارت بالنسبة لتكوين الفكر الفرنسي خاصة والعقلانية الأوربية الحديثة عامة" (22)، لكن الشافعي بالنسبة إلى الجابري لم يكن تأثيره محصورا في توجيه طريقة اشتغال التيارات ذات الاتجاه الديني السلفي، بل إن الشافعي خط الحدود الإبستمولوجية للعقل العربي ككل، لقد طغى على العقل العربي توظيف القياس، لكنه ليس دائما قياسا مشدودا إلى اللحظة التأسيسية الأولى في تاريخنا، لا بل طالت تيارات أخرى لا ينتابها ذلك الشعور الانبهاري حيال الماضي الإسلامي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن القياس سيصير الفعل العقلي الوحيد الذي ستنهجه باقي العلوم التي تشكلت داخل الثقافة العربية الإسلامية.
لنفصل قليلا في ما يقصده من دعواه، لقد لاحظ الجابري من خلال استعراضه لمختلف القراءات التي "يزخر" بها الفكر العربي أنها جميعها سلفية، إنها كلها تتحصن وراء سلف، فالسلفية الدينية تلغي الحاضر وإكراهاته من خلال الدعوة إلى الرجوع لمنهج السلف، والسلفية الماركسية تتكئ في تحليلها للتراث على سلف آخر وإن كان من غير تاريخنا، فهي تستند على طريقة التحليل الجدلي المادي في مقاربة التراث وقضايا الساعة، أما السلفية الاستشراقية فتستمد أدواتها المنهجية من سلف آخر هو المستشرق، يقول الجابري وهو يلخص هذه الفكرة "الفكر العربي الحديث والمعاصر هو في مجله فكر لاتاريخي يفتقد إلى الحد الأدني من الموضوعية، ولذلك كانت قراءته للتراث قراءة سلفية تنزه الماضي وتقدسه وتستمد منه الحلول الجاهزة لمشاكل الحاضر المستقبل وإذا كان هذا ينطبق بوضوح كامل على التيار الديني فهو ينطبق أيضا على التيارات الأخرى باعتبار أن لكل منها سلفا يتكئ عليه ويستنجد به " (23)، وهذه الآفة التي يرزح تحتها الفكر العربي القديم والمعاصر على حد سواء ترجع بالأساس إلى ترسخ آلية القياس التي نظّر لها الإمام الشافعي "حتى أصبحت الفعل العقلي الوحيد الذي يعتمد عليه في الإنتاج المعرفي" (24).
ولا نعدم أمثلة على ترسخ الأصول التي وضعها الإمام الشافعي في العقل العربي الإسلامي، سواء من الماضي أو الحاضر، فمسألة الخلافة التي كانت أول إشكالية واجهها العقل الإسلامي لن تقارب مقاربة ممنهجة إلا بعد أن وضع الإمام الشافعي كتاب الرسالة، لذلك نلاحظ تطابقا تاما بين المنهج الذي وضعه الإمام الشافعي والأسلوب الذي اتبعه أبو الحسن الأشعري في كتابه "الإبانة عن أصول الديانة"، ولعل التأثير الذي مارسه الإمام الشافعي على أبي الحسن الأشعري يتبدى لنا من خلال الوقوف على عنوان الكتابين؛ صحيح أن الإمام الشافعي لم يضع عنوانا للكتاب، لكن الإشكالية الكبرى التي عالجها في رسالته عنوانها "كيف البيان؟"، أما أبي الحسن الأشعري فعنوان كتابه هو "الإبانة"، والبيان والإبانة سيان.
لقد ابتدأ الإمام أبو الحسن الأشعري لإثبات صحة سياسة الماضي وبالتالي إضفاء ما يمكن إضفاؤه من المشروعية على ولاية أبي بكر الصديق، من أول مصدر من مصادر التشريع ألا وهو القرآن الكريم، وحاول انتزاع بعض الآيات تومئ ولو على نحو متعسف في دلالتها على مشروعية خلافة أبي بكر، ثم نجده بعد ذلك ينتقل إلى السنة، ومنها مباشرة إلى المصدرين الآخرين، وهما "الإجماع" و"الاجتهاد"، وهذا الأخير خصوصا اتخذ منه مفتاحا ناجعا لفتح ما استغلق من تاريخ خلافات الصحابة، فباسم الاجتهاد يبرر أبو الحسن الأشعري ما نشب من صراع، يقول "وأما ما جرى بين علي والزبير وعائشة رضي الله عنهم أجمعين فإنما كان عن تأويل واجتهاد، وكلهم من أهل الاجتهاد" (25).
قد يتساءل القارئ بعد أن وضحنا بما يكفي أن العقل العربي يوظف القياس كآلية وحيدة في نشاطه الذهني : وأين يكمن الخلل في توظيف العقل العربي لآلية القياس؟
إن القياس بالفعل آلية عقلية علمية مكنت المفكرين الإسلاميين الأوائل من تدشين صرحهم الفكري، سواء في الفقه أو في النحو أو الكلام.. إلخ، لكن مع مرور الزمن، عندما يصير العربي يوظف هذا النشاط الذهني بطريقة لاشعورية فإنه يُستلب لا محالة ويذهل عن حاضره، إن الأصل أو تلك اللحظة المقيس عليها هنا تستحوذ عليه، ويتحول الواقع إلى فرع، أو مجرد هامش في لاشعوره الفكري، وهكذا يتحول الإنسان الذي يغالي في توظيف القياس إلى كائن حالم، يعيش آماله على مستوى الحلم(الأصل)، في المقابل يتجاهل واقعه بإكراهاته وتحدياته (الفرع).. لذلك ومن أجل ممارسة "قياس واقعي" لابد من قلب طرفي المعادلة بحيث يصير الواقع أصلا ومادونه فروع نستحضرها لا لنسقطها كما هي على واقعنا، بل لنعتبر بها، ف "اعتبروا يا أولي الألباب".
تاريخية الأصول ورهانات المقاصدية :
1. تشويه الأصول
لعلنا بعد مناقشتنا الطويلة لتأثير أصول الفقه في العقل الإسلامي قد وقفنا على أهمية هذا المبحث، من هنا فإن أي عمل تجديدي للعقل العربي الإسلامي لابد أن يبتدئ من ها هنا، من خلخلة أصول العقل، وهي أصول الفقه، وإعادة تأصيل الأصول بالشكل الذي يجعلنا نعيش عصرنا وواقعنا بكل حيثياته وإملاءاته، بعيدا عن أي توجيه خارجي، لكن ومع أهمية ما ذكرنا من دواعي تجديد أصول الفقه، فثمة محددات أخرى تفرض علينا أن نتوجه إلى هذه المنظومة هدما في سبيل تشييد بناء أخرى؛ وهما تقادم الزمن، مما جعل الكثير من هذه الأصول عرضة لتشويه خطير لا يخلو في كثير من الأحيان من توظيف إيديولوجي سافر كما سنرى، والأهم من هذا تاريخية الأصول، وهذا ما انتبه إليه أحدهم، يقول "علم الأصول التقليدي الذي نلتمس فيه الهداية لم يعد مناسبا للوفاء بحاجاتنا المعاصرة حق الوفاء لأنه مطبوع بأثر الظروف التاريخية التي نشأ فيها بل بطبيعة القضايا الفقهية التي كان يتوجه إليها بالبحث الفقهي" (26)، فلنمض في بيان تاريخية الأصول، لكن قبل ذلك لنوضح ما أشرنا إليه من تشويه الكثير من الأصول.
أ‌. لا اجتهاد مع مورد النص : كثيرا ما تُشْهر هذه القاعدة الأصولية في وجه أي اجتهاد مع نص أشار إليه الشارع ولو "على سبيل الهدي" كما قال الشافعي، وفي اعتقادي سبب إساءة توظيف هذه القاعدة هو عدم الحرص على ضبط المفاهيم، من هنا فمفهوم النص يُحَمّل بالدلالات المعاصرة التي نضفيها عليه، بينما النص في الماضي –والقاعدة طبعا وضعها الأقدمون- يحمل دلالات أخرى كما سنرى.
إننا من أي طرف من أطراف القاعدة قبضنا وضبطنا سنقف على زيف القاعدة، أقصد سواء بدأنا بتعريف "الاجتهاد" أو "النص"؛ شرط الالتزام بالمنظومة الأصولية في تعريف المفاهيم، سندرك أن المواطن التي توظف فيها القاعدة والمرامي المبتغاة من ورائها لا تحظى أبدا ب "تأييد أصولي".
لنبدأ بمفهوم الاجتهاد، يقول أحد الناظمين :
والاجتهاد إنما يكون في كل ما دليله مظنون
أما الذي فيه الدليل القاطع فهو كما جاء ولا منازع
وهكذا فالاجتهاد لا يكون إلا "في كل ما دليله مظنون"، أي الذي لا قطعية في دلالته بل يحتمل التأويل، بمعنى آخر؛ أنه حمال أوجه ويقبل دلالات أخرى، فالنص الذي لا اجتهاد معه ليس هو النص القرآني أو الحديث بإطلاق، بل هو رتبة من رتب دلالة الحكم، يقول الشيخ الخضري "قسم الشافعية الحكم إلى ظاهر ونص، فالظاهر عندهم الذي له دلالة ظنية راجحة نشأت عن وضع أو عرف فإن صرف عن هذا المعنى الظاهر، فأريد به المعنى المرجوح لقرينة فهو المؤول. والنص ما دل على معنى بدون أن يحتمل معنى آخر. وعرفه في المحصول بأنه اللفظ الذي لا يتطرق إليه احتمال" (27).
وحتى نوضح مراتب الدلالة بشكل واضح كما هو عند جمهور الأصوليين، نقدم التفاصيل التالية :
1. الواضح الذي لايقبل إلا معنى واحدا، هذا هو النص.
2. الذي يحتمل معنيين لكن أحدهما هو المعنى الراجح (الأقوى) والآخر معنى مرجوح (محتمل)، هذا هو الظاهر.
3. الذي يحتمل معنيين كلاهما يساوي الآخر في درجة الاحتمال، هو المجمل.
4. الذي يحتمل معنيين غير متساويين في درجة الاحتمال، ولكن المعنى الراجح (الأقوى) ليس هو بالمعنى القريب (الظاهر) كما في الثاني، بل الراجح هو المعنى البعيد، هذا النوع هو المؤول.
إن هذه الأخطاء الشائعة تكشف بوضوح الهوة الموجودة بين مفاهيم الماضي والحاضر، لقد تم تحديث المفاهيم لكن لم يرافق ذلك التحديث المفاهيمي تجديد آخر دلالي، فالقواعد لا تزال هي هي كما كانت في الماضي، ونحن نقرأ تلك القواعد على ضوء ما نفهمه، أو على ضوء تلك الدلالات التي نتداولها في خطابنا المعاصر، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى توظيف إيديولوجي سافر، بحيث يتم استغلال هذا "الجهل" بمدلولات الألفاظ الأصولية لتمرير قناعات إيديولوجية معينة، وهذا ما عبر عنه أحدهم بقوله "إن الخطاب الديني حين يرفع في وجه العقل والاجتهاد مبدأ لا اجتهاد فيما فيه نص يقوم بعملية خداع إيديولوجي ماكرة، لأنه لا يعني بالنص ما يعنيه التراث، وهو الواضح الجلي النادر، فإذا أضفنا إلى ذلك أن تحديد ماهو نص والتفريق بينه وبين ماليس كذلك أمر خاضع للخلاف والاجتهاد في تاريخ الثقافة الإسلامية، أدركنا حجم الخداع وماداها. إن الخطاب الديني المعاصر لا يكتفي بتثبيت النص وسلبه حركته بالخلط بين المفهوم الحديث والمعنى القديم لكلمة النص، بل يسعى لتثبيت دلالته بإعلان نفي الاجتهاد، مفسحا المجال لنفي التعدد وثتبيت الواقع طبقا لما يطرحه هو من آراء واجتهادات (28).
ب‌. الإجماع :
يعد الإجماع الأصل الثالث من أصول الاستدلال بعد الكتاب والسنة، لكن على الرغم من الهالة التي تضفى على هذا الأصل فإن البحث الفاحص في المناقشات التي أثارها الأصوليون حوله يحملنا على التحفظ في توظيفه والحذر الشديد من رفع هذا الأصل، لكن العكس هو الحاصل والشائع للاسف الشديد، فقد عمت البلوى بمن لا يفتئون يشهرون بطاقة الإجماع في وجه كل من ينحو منحى تجديديا اجتهاديا، من هنا ضرورة إضاءة هذا الأصل بطرح جملة إشكالات أصولية تحملنا من غير شك على التثبت قبل الإدلاء بأي إجماع أو الاحتجاج به.
من الإشكالات التي تفرض نفسها علينا ونحن نتأمل تعريف الإجماع الذي هو "اتفاق جميع المجتهدين من الأمة الإسلامية في عصر من العصور بعد وفاة النبي على حكم شرعي في واقعة"، تعذر معرفة المجتهد من المقتصد، فليس ثمة عتبة ما معلومة لبلوغ مرتية هذا الاجتهاد، هذا فضلا عن استحالة انعقاد الإجماع كما هو محدود (أي معرف، فالحد هو التعريف) بالنظر إلى الانشقاقات التي تحدث بسبب الاختلافات الناجمة عن الانتماءات المذهبية، فمجتهد ما ينتمي إلى مذهب معين يرى الآخر غير مجتهد، أو حتى لا يعتد باختلافه، وهكذا فإجماع ما إن انعقد فلا يعدو أن يكون اتفاق علماء مذهب معين على حكم معين ولا يطال ذلك كل فرقاء الأمة، وهذا خلاف التعريف الأصولي للإجماع. ومما يؤيد استحالة انعقاد الإجماع من منظور عقلي، أن المجتهد عندما يصدر حكما لابد أنه يستند على دليل ما، فالاجتهاد لا ينبني من على فراغ، فإن كان هذا الدليل قطعيَّ الدلالة سقطت الحاجة إلى الإجماع، وإذا كان الدليل مظنونا استحال عادة اجتماع المجتهدين عليه، وإلا لو اتفق العلماء على دلالته فهو نص قطعي الدلالة، وهنا كذلك كما قلنا سابقا تسقط الحاجة لانعقاد الإجماع.
ولهذا يقول عبد الوهاب خلاف "والذي أراه الراجحَ أن الإجماع بتعريفه وأركانه التي بيناها لا يمكن عادة انعقاده" (29)، بل ونُقل عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال :" وما يدعي فيه الرجل الإجماع فهو الكذب. من ادعى الإجماع فهو كذاب. لعل الناس قد اختلفوا ما يدريه ولم ينتبه إليه. فليقل لا نعلم الناس اختلفوا"، كما نقل عن الإمام مالك بأنه لا يقر إلا بإجماع أهل المدينة، وهذا غير الإجماع المتعارف عليه الآن، وذهب ابن تيمية إلى إمكانية انعقاد إجماع الصحابة فقط، أما ما بعده من العصور فذلك متعذر.
إن هذه الإضاءات حول مفهوم الإجماع والخلافات المثارة حوله تحملنا على التحفظ من الاختجاج به، ولأن العكس هو الشائع فإن مهمة التجديد وإعادة النظر في المنظومة الأصولية التي ورثناها ضرورة حتمية للوقوف في وجه أي تزييف للوعي.
هوامش:
(1) انظر مقالته في كتاب تراث الإسلام، بإشراف توماس أرنولد، دار الطليعة. بيروت. 1952. ص431.
(2) التقييد والإيضاح في شرح مقدمة ابن الصلاح للحافظ العراقي . تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان. بيروت. 1961. ص21.
(3) حول تحليل هذه المقولة وعلاقتها بالعقل، انظر :
محمد عابد الجابري. تكوين العقل العربي. بيروت. مركز دراسات الوحدة العربية. 2009. ط10. ص 25.
(4) محمد بن موسى الخوارزمي، كتاب الجبر والمقابلة. تحقيق علي مصطفى مشرفة ومحمد موسى أحمد. دار الكتاب العربي. القاهرة. 1968.
(5) عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي. الدار البيضاء. المركز الثقافي العربي. 2006. ط5. ص80.
(6) يقول محمد أبو زهرة في تعريف الفقه "العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية"، انظر.
محمد أبو زهرة، أصول الفقه. دار الفكر العربي. [د.ت]. ص 6.
(7) نفسه، ص 9.
(8) عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه. دار القلم. 1986. ط 20. ص 12.
(9) نلاحظ أن نوعا من التطابق ثمة بين غايات علم الأصول ومرامي المبحث الفلسفي الموسوم "الإبستمولوجيا"، فهذا الأخير يعرفه "لالاند" في معجمه الفلسفي بقوله " الدراسة النقدية لمبادئ العلوم ولفروضها ونتائجها بقصد تحديد أصلها المنطقي وبيان قيمتها وحصيلتها الموضوعية"، فعلم أصول الفقه هو إذا إبستمولوجيا الفقه، إذ غايته بيان "الحصيلة الموضوعية" لعمل الفقيه.
(10) فخر الدين الرازي، مناقب الإمام الشافعي. تحقيق د. أحمد السقا. القاهرة. مكتبة الكليات الأزهرية. 1986. ط1. ص 157.
(11) محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي. ترجمة هاشم صالح. الدار البيضاء. المركز الثقافي العربي. 1998. ط3. ص 66-67.
(12) محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة. تحقيق أحمد شاكر. بيروت. دار الكتب العلمية. [د.ت]. ص 156.
(13) نفسه، ص 157.
(14) نفسه، ص 158.
(15) نصر حامد أبو زيد يذهب إلى أبعد من هذا، يقول "وفيما يتصل بمذهب الشافعي فإنه لا يتركنا للتخمين، بل يعبر عن انحيازه للقرشية بطرائق متعددة : فهو يحتفي احتفتاء خاصا بالمرويات التي تؤكد فضل قريش على الناس كافة، وهو ثانيا لا يكتفي بالاتفاق مع جمهور علماء أهل السنة بحصر الخلافة في قريش دون غيرها من قريش، بل يذهب فيما يرويه عنه تلاميذه إلى أن الإمامة قد تجيء من غير بيعة إن كان ثمة ضرورة..."، انظر
نصر حامد أبو زيد، الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية. الدار البيضاء. المركز الثقافي العربي. 2007. ط1. ص96.
(16) الشافعي، الرسالة. ص 160.
(17) الاستحسان هو أن يعدل المجتهد عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول، وأما المصالح المرسلة هي المصالح الملائمة لمقاصد الشارع الإسلامي، والإمام مالك هو الذي حمل لواء الأخذ بالمصلحة المرسلة.
انظر مثلا : محمد أبو زهرة، أصول الفقه. ص 279.
(18) الشافعي، الرسالة. ص 156.
(19) نفسه، ص 136.
(20) محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي. ص 96 وما بعدها.
(21) محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي. ص 74.
(22) محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي. ص100.
(23) محمد عابد الجابري، نحن والتراث : قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي. الدار البيضاء. المركز الثقافي العربي. 1993. ص 19.
(24) نفسه، ص 17.
(25) أبو الحسن الأشعري، الإبانة عن أصول الديانة. تحقيق بشير محمد عيون. دمشق. مكتبة دار البيان. 1990. ط3. ص 178.
(26) حسن الترابي، تجديد أصول الفقه. الدار السعودية للنشر والتوزيع. 1984. ط1. ص 13.
(27) محمد الخضري، أصول الفقه. المكتبة التجارية الكبرى. 1969. ط6. ص 130.
(28) نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني. القاهرة. سينا للنشر. 1994. ط2. ص 125-126.
(29) عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه. ص 49.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.