ككل يوم بارد وصقيعي، تتصدر "الإسبريسو" المركزة والقراءة الملهمة جدول أعمالي. وهما موهبتان أتباهى بهما مع محيطي وأحبط بلذتهما كامل الخيبات. هذه العشبة وتلك الرغبة متعتان تمتدان عميقا في الخلايا تمنحان الخيال واسع الحريات وتغرقان مشاريعه في كنف الحلم الملحمي. لكن في اليوم الثاني من أعياد الميلاد هنا حصل شيء غريب وعجيب أجد من الممتع جدا مشاركتكم إياه وهذه التفاصيل. بعد أن ارتديت المعطف والحذاء المصممين خصيصا لمقاومة الشتاء والبرد القارس فكرتُ في دس الهوية وتثبيت ورقة من فئة 10 دولارات في جيب المعطف الغارق قبل أن أغادر البيت الدافئ الحميم. فبرودة الخارج تشتت الانتباه، ثلاجة تردي الخشب، وتكلس الجماد بالأحرى البشرة الآدمية. تأبطت كتاب "أعلام الأدب الروسي" بأيد جامدة مصقعة بالكامل، وفي ذهني إنهاء فصول رواية "دوبروفسكي" للعظيم ألكسندر بوشكين على إيقاع موسيقى هادئة وفنجان يضبط المزاج. وكما يعلم الأصدقاء، فأنا عاشق متيم بالأدب الروسي لأنه في نظري الأكثر تأثيرا في نفسي كقارئ عربي، كما هو الأمر بالنسبة للشغوفين بالقراءة والكتاب في العالم. لأن جمالية السرد وبراعة الحبكة الدرامية في القصص والروايات وكذلك في نسج عوالم القصيدة الشعرية في أدب روسيا مبهر حقا. فهذا النوع من الأدب لا يكتفي باستحضار المراحل والحقب الأشد حساسية في تاريخ روسيا القديم والحديث، بل يعكس تأثر نخبه المثقفة بالوضع الاجتماعي تأثرا بالغ الحساسية. نتج عنه بروز أعظم الأعمال الأدبية وأرقاها وأنجب عددا من العمالقة في الثقافة والأدب في القرن الثامن والتاسع عشر الميلادي ترجمها العالم بكل اللغات. في الطريق إلى مقهى المحطة كانت السماء ملبدة بالسحب. وبين الفينة والأخرى تتراءى ندف مجهرية تتلوى في الفضاء القريب. واعتراني ذهول بعد تخشب وجهي بالكامل، وبدا لي أن الهواء البارد تمكن بالفعل من شل حركة الدم في فيه، وصرت أنظر بعينين غارقتين في حقل بصري جامد ومشتت. قادتني الخطوات المرتدة إلى شارع "الضفة الكبرى" الذي يتلوى ولا حياة فيه. وفي البعيد يلوح شبح آدمي، يخطو نحوي خطوات رياضية أكاد أسمع إيقاعها الثنائي المترادف. تجاهلت الشبح ثم تابعت السير وئيدا صوب مقهى محطة القطار غير بعيد عن مقر إقامتي هنا بروزمير. كان بابها مفتوحا على الدوام. ربما بحكم تواجد أجهزة بيع تذاكر القطار والميترو والحافلات التي تقلصت رحلاتها على نحو لافت خلال ال 24 ساعة الأخيرة. لكن باب المقهى داخلها كان مغلقا. وبدا لي الأمر مفاجأة. ذلك أن مع عطلة رأس السنة الميلادية قد يمتد إلى غد الأربعاء ثالث أيام السنة الجديدة. وللتو داهمتني فكرة إعداد فنجان "الإكسبريس" بالبيت الدافئ وإتمام الرواية هناك من جديد، وقررت تنفيذها بالعودة على الفور دون تردد. وسرعان ما وجدت خطواتي الثقيلة المتخشبة تقودني على الطريق نفسه. فجأة، أصابني ذعر شديد ووقفت جامدا في مكاني مثل رجل من ثلج. لقد شاهدت على الجانب الأيسر من الطريق بعيناي هاتين على بعد أمتار من حقلي البصري كتابا يشبه الكتاب الذي أحمله في جيب "الجاكيطة" الثلجية الضخمة التي أرتدي طيلة الخريف والشتاء. لم أتردد لحظة واحدة في التعرف عليه، إنه كتابي.. يا ساتر؟ "أعلام الأدب الروسي" هذه نسخة من كتابي بل إنه كتابي بالتأكيد؟ فمن يا ترى أتى به إلى هنا؟ وهل من قراء للأدب الروسي بالعربية هنا؟ مرت ثوان، نشطت خلالها التمثلات والتهيؤات والتخيلات والاحتمالات في ذهني المشتت. وتقاذفت بوتيرة متهافتة لكن السؤال الذي ظل صارخا، لماذا لم أفتش جيبي بحثا عن الكتاب؟ هل يكون سقط مني في غفلة باردة؟ وكيف وجد الكتاب طريقه إلى هذا المكان البارز بالقرب من محطة القطار بالضبط؟ والحقيقة أن الكتاب كان في وضعية عرض آمنة وملفتة للعابرين، كان عنوانه بارزا "أعلام الأدب الروسي " وهنا قررت قرارا خطيرا، أخذت الكتاب دون تحفظ أخلاقي ومن غير أدنى ارتباك. تصفحته، وكان إهداء رهيف على صفحته الأولى مكتوبا بخط يدي، تأكدت أنه كتابي، وضعته في جيبي الذي كان يحفظ النسخة الأولى كما تصورت لأول مرة وقفلت راجعا إلى البيت.