لقد أدى التقدم السريع والهائل في تكنولوجيا الاتصال والمعلومات الى إحداث طفرة نوعية على كافة مناحي الحياة، بحيث أضحى الاعتماد على الوسائل الإلكترونية الحديثة ضرورة حتمية لا مفر منها، تسعى الدول إلى تحقيقها من خلال الانتقال إلى التدبير الرقمي بدل الطرق والأساليب التقليدية، بهدف إرساء مجتمع عصري قادر على مواكبة الركب الذي أحدثته الثورة المعلوماتية. ولا شك أن التطور السريع لتقنيات المعلومات والاتصالات سيشكل تحديا لجميع المجالات والأنشطة والممارسات في المجتمع، وعلى رأسها الإدارة، باعتبارها البنية الأساسية لأي نشاط إنساني، إذ لا يمكن مسايرة التطورات التي يعرفها العصر دون تطوير الإدارة لتواكب التحديات التي هي سمة القرن الواحد والعشرين، بحيث تعددت التسميات التي يمكن أن تستعمل للدلالة على استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في العمل الإداري، كالرقمنة والإدارة الرقمية والإدارة الإلكترونية وغيرها من المفاهيم المتقاربة. وفي هذا الصدد، ارتكز القانون رقم 54.19 بمثابة ميثاق المرافق العمومية على الرقمنة للتأسيس لخدمة عمومية ذات جودة عالية سهلة الولوج وشفافة، كما تمت بلورة وصياغة القانون رقم 55.19 المتعلق بتبسيط المساطر والإجراءات الإدارية اعتمادا على الرقمنة كآلية لتفعيل هذا القانون ولبلوغ أهدافه المتمثلة في تعزيز الثقة بين الإدارة والمتعاملين معها، إلى جانب القوانين ذات الصلة بالمجال الرقمي، من قبيل القانون 53.05 المتعلق بالتبادل الإلكتروني للمعطيات القانونية والقانون 43.20 المتعلق بخدمات الثقة بشأن المعاملات الإلكترونية، والقانون رقم 08.09 المتعلق بحماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي ... وإذا كانت أهداف الرقمنة تتجسد بالأساس في تبسيط الإجراءات والمساطر الإدارية وعصرنتها وتجاوز الإكراهات التي كانت تعترض الخدمات التقليدية، من خلال الحرص على الاستخدام الأمثل لوسائل التكنولوجيا الحديثة لما لها من إمكانيات وقدرات في تلبية حاجيات ومتطلبات المواطنين والمواطنات بشكل سريع وسلس، وكذا تسهيل الخدمات المقدمة للمرتفقين عن طريق معالجة الملفات والمهام المرتبطة بالإدارة بطريقة الكترونية تعتمد على الإنترنت فقط، فإن تعميمها ليس بتلك العملية السهلة، بحيث هناك مجموعة من التحديات والإكراهات، منها ما يتصل بواقع رقمنة الخدمات الإدارية (قلة الموارد البشرية المؤهلة والمختصة في المجال المعلوماتي ومحدودية التجهيزات المعلوماتية وضعف الميزانية المرصودة لرقمنة الخدمات العمومية)، ومنها ما يرتبط بالمخاطر الناجمة عن الاختراق المعلوماتي والفجوة الرقمية (الجرائم المعلوماتية التي تعيق تقديم الخدمات بجودة عالية، بحيث تظل المخاطر واردة إلى جانب ضعف الترسانة القانونية المؤطرة للخدمات الرقمية). وخير مثال على ذلك تطبيق هويتي الرقمية الذي اعتمدته وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة للتسجيل في مباراة التعليم والترشيح لاجتياز امتحان البكالوريا بالنسبة للأحرار، بحيث اعترضت المترشحين مجموعة من الصعوبات – وصفت من قبل البعض بالسهل الممتنع، فيما وصفها البعض الآخر بأنها أسلوب من أساليب الإقصاء المباشر- منها ما يتعلق بالجانب التقني للتطبيق المعلوماتي الذي لا يتعرف على المعلومات المضمنة بالبطاقة الوطنية للمترشح، ومنها ما يتصل بالأجهزة المستعان بها، التي ينبغي أن تتوفر على خاصية NFC، ما قد يساهم في حرمان شريحة واسعة من التسجيل الإلكتروني، وبالتالي فوات الفرصة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى إذا كانت الهوية الرقمية تسمح بالولوج إلى الخدمات عبر الإنترنت بطريقة آمنة وبسيطة، وذلك باستخدام البطاقة الوطنية للتعريف الإلكترونية على الهاتف الشخصي، فإن الأمر سيزداد تعقيدا في الحالة التي قد تتم الاستعانة بهاتف شخص آخر للقيام بهذه الخدمة، وبالتالي تعريض المعطيات الشخصية لخطر سوء الاستعمال أو استغلالها في أمور قد لا تحمد عقباها. ولعل الاعتماد على الرقمنة في كافة المعاملات بكونها حجر الزاوية في إصلاح الإدارة يتطلب تجنب النقائص التي تعتري بعض جوانب الإصلاح الرقمي الذي سيؤثر لا محالة على الأهداف المنشودة منها، وعلى الإستراتيجية التي تروم الدولة تحقيقها. وفي الأخير يمكننا القول إن الحديث عن رقمنة الخدمات الإدارية ليس بالأمر الهين، كما أن الرقمنة بمفهومها الدقيق وأهدافها الإستراتيجية لا تتوقف على الاستعانة بوسائل التكنولوجيا الحديثة من أجل تقديم خدمات عن بعد للمرتفقين بقدر ما ينبغي أن تقدم هذه الخدمات بطريقة سلسة وسهلة؛ وهذا ما لا يتحقق في العديد من الخدمات الرقمية المبرمجة التي تم اعتمادها من قبل الإدارات والمؤسسات العمومية المغربية، ولعل خير مثال على ذلك ما ذكرناه أعلاه. كما أن إنجاح ورش الرقمنة رهين بتحسين البيئة التشريعية التي تضمن حماية البيانات والمعطيات الشخصية للمرتفقين من مخاطر الجريمة المعلوماتية، بما في ذلك الفيروسات والهجمات الإلكترونية والاختراقات التي تطال سرية المعلومات، إلى جانب تأهيل الرأسمال البشري في المجال الرقمي لتجاوز الإشكالات والتحديات التي تطرحها البيئة الرقمية. (*) دكتور في الحقوق وباحث في التشريعات الاستهلاكية