أكد المشاركون في الندوة العلمية الدولية بفاس حول موضوع " العدالة الجنائية في ظل التطور الرقمي التحديات والانتظارات"، على ضرورة تقوية العدالة الجنائية التشريعية والمؤسساتية للتصدي للجريمة الرقمية، مشددين في هذا الصدد على الأهمية البالغة لإرساء إطار قانوني ومؤسساتي حديث وفعال لتوفير الأمن الرقمي وتحقيق الأمن القانوني والقضائي ضمن نظام العدالة الجنائية، وذلك حتى يتم تحقيق توازن بين الانتفاع بمزايا التكنولوجيات الحديثة ومواجهة مخاطرها وتحقيق السلم والحفاظ على الأمن العام وحماية المجتمع. واعتبروا خلال أشغال هذه الندوة الافتراضية، والتي انطلقت منذ مساء يوم الخميس إلى غاية يوم الاثنين، أي على مدى أربعة أيام متتالية، وتنظمها كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، التابعة لجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، وذلك بتعاون مع المنظمة الدولية للعدالة الجنائية للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، "اعتبروا " ، " أن هاجس العدالة الجنائية بات مطروحا بإلحاح في ظل التطور الرقمي من حيث مدى توفير ظروف المحاكمة العادلة وفق النمط المتعارف عليه عالميا والمكرس في الوثيقة الدستورية، ، خصوصا مع بروز نوع آخر من الضمانات لصيقة بالتطور الرقمي من قبيل الحق في عدم الاتصال والحق في النسيان، والحق في الصورة، إضافة إلى حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي، وفي ظل تزايد مستوى المخاطر التي أصبحت تهدد الحياة الخاصة للأفراد في ظل الاستعمال الواسع للمعطيات الشخصية في القطاعين العام والخاص . وأكد وزير العدل محمد بنعبد القادر، على أن المنظومة الجنائية في كافة دول العالم تعرف تغيرات وتحولات هامة نتيجة التطور الكمي والكيفي للجريمة وتطور أساليب وتقنيات ارتكابها لاسيما في إطار الجريمة المنظمة عبر الوطنية، وتزايد مطالب بضرورة تقوية العدالة الجنائية التشريعية والمؤسساتية للتصدي لها وإيجاد ردود قوية لمواجهتها في إطار مقاربة ناجعة وسياسة مضادة للجريمة. وأعلن المسؤول الحكومي على وزارة العدل من منطلق إشرافها على تدبير السياسة العمومية في مجال العدالة واختصاصاتها في وضع معالم السياسة الجنائية كسياسة عمومية للدولة في مجال الوقاية من الجريمة ومكافحتها ، فهي على وعي بالتحولات العميقة التي تشهدها العدالة الجنائية وكذا الرهانات والتحديات التي تواجهها وهي تسعى انطلاقا من هذا إلى رسم معالم سياسة جنائية فعالة قائمة على مرجعيات ومرتكزات وطنية ودولية ثابتة ومبنية على أدوات تشريعية ومؤسساتية قوية"، ونبه إلى أن مواجهة الجرائم الإلكترونية ينبغي أن تكون وفق ما يتيحه التطور التكنولوجي والتقنيات الرقمية والتي برهنت عن فعاليتها في زمن جائحة كورونا من خلال ما حققته المحاكمات عن بعد والتعاون الدولي عبر التبادل اللامادي للطلبات والوثائق من نجاح باهر على هذا المستوى، قائلا" إن الظرفية التي عاشها العالم والمغرب أكدت أهمية الرقمنة واستغلال الرقمنة والتكنولوجيات الحديثة في تدبير العدالة بشكل عام والعدالة الجنائية بشكل خاص. وقال رئيس الجامعة، رضوان لمرابط في كلمة ألقاها في افتتاح أشغال هذه الندوة الدولية التي امتدت على مدى أربعة أيام متتالية " إن العدالة الجنائية أصبحت مطالبة أكثر من أي وقت مضى بمواكبة التطور الرقمي الذي يتهدد العالم، إذ تسللت التكنولوجيات الحديثة إلى مختلف مناحي الحياة اليومية وكانت لها انعكاسات إيجابية، بإسهامها بشكل فعال في تسهيل الاتصال وحركة الاتصال وزيادة الإنتاج وتجويد الخدمات الإدارية لكن هذا التطور الهائل والمتسارع للتكنولوجيات أدى إلى استعمالها في ارتكاب جرائم متعددة ومختلفة يمتد أحيانا خارج حدود البلدان". وشدد على أن المغرب الذي كغيره من البلدان ، التي اختارت الانفتاح وإرساء دعائم مجتمع المعلومات وتوسيع نطاق الاقتصاد الرقمي فهو معني بأخطار الجريمة المعلوماتية التي تعرف تطورا كميا ونوعيا نتيجة ارتفاع عدد المستفيدين من خدمات الانترنت واتساع نطاق المعاملات عن بعد، مشيرا انه للتصدي لذاك انخرط المغرب في الدينامية العالمية الرامية إلى توفير ألأمن الرقمي. وأبرز أن استراتيجية المغرب الرقمي.التي نهلت من التوجيهات الملكية بهذا الخصوص أسهمت في توفير سبل تنمية الاقتصاد الرقمي وتسهيل ولوج ألأفراد لتكنولوجيات المعلومات ، فضلا عن إرساء إطار مؤسساتي وقانوني حديث وفعال لمواجهة أخطار الجريمة المعلوماتية. وأشار في هذا الصدد إلى التحديث الذي طبع أيضا منظومة العدالة، منبها إلى أن الرقمنة أصحبت ضرورة ملحة وحاجة قائمة، إذ لايمكن التفكير في مستقبل العدالة بمعزل عن الرقمنة ، بل يؤكد على أن ورش إصلاحها لايمكن أن يحالفه النجاج ما لم يتم اعتماد الرقمنة لاستئصال مشاكل البطء خلال هذه الفترة الاستثنائية"، ولفت بهذا الخصوص إلى الأهمية التي اكتساها اعتماد الرقمنة خلال فترة حلة الطوارئ الصحية، قائلا: لولا الاستعدادات القبلية والتهيئة المسبقة لتوقفت حركة المحاكم عن أداء خدماتها توقفا كاملا، وهذا وحده كاف ليؤكد ضرورة تعميم الرقمنة ليس في مجال العدالة فقط بل في كل القطاعات التي يمكن أن تستفيد من الخدمات الرقمية " ومن جهته، اعتبر حسن فتوح في عرض ألقاه نيابة عن مصطفى فارس، الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، الرئيس الأول لمحكمة النقض، على " أن كسب رهان عدالة جنائية متطورة تساهم في بناء دولة الحق والمؤسسات وتكرس الأمن المجتمعي في بعده الأخلاقي والرقمي والحقوقي رهين بتأهيل المنظومة الجنائية سواء منها الإجرائية او الموضوعية وملاءمتها مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان ومع الوثيقة الدستورية بالشكل الذي يجسد التفاعل مع اجتهادات وتوصيات آليات الأممالمتحدة المعنية بحقوق الإنسان ويضمن احترام الحريات الفردية والحقوقية والسياسية داخل المملكة" وشدد في ها الصدد، على أن يتم في ذلك اعتماد مقاربة مندمجة تستجيب لكل التحولات المتسارعة في مجال الإجرام الإلكتروني مع التأكيد على ذلك مع أولويات السياسة الجنائية التي يجب أن تحرص على ضمان الأمن الأخلاقي وتحقق الاستقرار الاجتماعي". وأقر بأن المغرب اليوم أمام تحدي أنماط جرائم مستجدة وشائكة أفرزها الاستخدام السيئ للتطور والتقدم العلمي والتقني في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وشبكة الانترنت وهو ما يقتضي، وفق المسؤول القضائي، العمل بشكل حثيث على مكافحة هذه الجرائم وذلك عبر التعبئة الشاملة للجميع كل من موقعه . واشترط أن يتم ذلك وفق تصور عام مضبوط ومحدد الأهداف يراعي خصوصية الظاهرة ويستحضر التطور الذي تعرفه آلياتها من خلال قراءة نقدية ودقيقة للمزايا والنواقص ورؤية استشرافية بحمولة حقوقية، تروم تعزيز سبل الوقاية من هذه الجرائم ورصدها والكشف عن مرتكبيها وإصدار عقوبات رادعة في حقهم :. واستطرد قائلا"، إن السلطة القضائية بالمملكة ومن موقعها الدستوري والتزاماتها القانونية ،يحرص باعتباره قطب الرحى في جميع ألأوراش الحقوقية اعتماد حكامة قضائية تروم تطبيق الشرعية وحماية قرينة البراءة وضمان المحاكمة العادلة من خلال تبسيط الإجراءات وتمكين أطراف الدعوى الجنائية من ممارسة الطعون في الأحكام القضائية والاستفادة من حقوق الدفاع في جميع مراحل التقاضي ". ومن جانبه، أكد كريم آيت بلا، في تدخل ألقاه نيابة عن محمد عبد النباوي، رئيس النيابة العامة، الوكيل العام لمحكمة النقض، أن رئاسة النيابة العامة تعتبر مسألة تتبع تنفيذ السياسة الجنائية في مجال الجريمة ذات الصلة بالتطور الرقمي من أولويات السياسات الجنائية، مؤكدا انخراط المغرب في مسار محاربة الجريمة المعلوماتية خاصة وأنه صادق على اتفاقية مجلس أوروبا حول الجريمة المعلوماتية، اتفاقية بودابيست، والتي تسعى عبرها الدول إلى تطوير ترسانتها القانونية لمواجهة هذا النوع من الإجرام المتطور. وقال مؤكدا على " أنه لاأحد يستطيع إنكار أهمية التكنولوجيات الحديثة في الحياة اليومية، فقد سمحت بتسريع عملية الإنتاج والإدارة وسهلت الاتصالات وأسهمت في تعزيز قدرات ألأجهزة ألأمنية في الوقاية من الجريمة وضبط الجناة، غير أن هذا التطور التكنولوجي رافقه ظهور عناصر جديدة ارتبطت أساسا بالتماسي الملحوظ بين ازدياد منسوب الاتصال عن بعد من جهة وتهديد الحق في الخصوصية من جهة أخرى، على نحو فرض توسيع نطاق حماية الحياة الخاصة. " ونبه إلى أن تطور ارتكاب الجرائم وتسخير التكنولوجبات الحديثة للمساس بالمصالح الفضلى للأفراد والمجتمعات، أصبح يفرض بقوة على مختلف الفاعلين في حقل العدالة مواكبة هذه التطورات،مشيرا إلى التطور الذي شهده على هذا المستوى الواقع التشريعي بالمغرب، وذلك بصدور عدة قوانين تواكب هذه المستجدات من قبيل تجريم المساس بنظم المعالجة الآلية للمعطيات. هذا فضلا عن القانون المتعلق بالتبادل الإلكتروني للمعطيات والقانون المتعلق بحماية الأشخاص الذاتيين اتجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الرقمي والقانون 13.103، المتعلق بمكافحة العنف ضد النساء الذي تضمن في طياته مقتضيات تجرم الاعتداء على الحياة الخاصة فضلا عن المقتضيات ذات الصلة تجريم بنشر الأخبار الزائفة. ولفت إلى إن تدبير الوضع الذي فرضته حالة الطوارئ الصحية ، وذلك عبر اعتماد المحاكمة عن بعد والشكايات الإلكترونية، أكد على نجاعة هذا الخيار الذي قدم حلولا واقعية ذات نفع كبير لمنظومة العدالة الجنائية، مشيرا أن الأرقام المتعلقة بأعداد القضايا التي تمت تصفيتها وأعداد المعتقلين الذين تمت محاكمتهم وإعداد الشكايات التي تمت معالجتها، تعكس حقيقة أهمية اعتماد التكنولوجيا بل وحتمية هذا التوجه في ظروف معينة . ونبه إلى أن هذا الخيار يجب أن يرافقه أو لايغفل ضرورة الاشتغال على إطار قانوني متكامل ومنفتح على التجارب المقارنة مع استحضار خصوصية قطاع العدالة بالمغرب ومراعاة الثوابت الحقوقية التي أقرتها المواثيق الدولية. فيما وضع مصطفى الناوي في تدخل باسم أمنة بوعياش رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ثماني مخرجات لإدخال الرقمنة كعنصر أساس في مجال العدالة الجنائية على وجه الخصوص، مؤكدا أن الرقمنة المتزايدة تثير إشكاليات حقيقية لمهنيي العدالة ككل كما بالنسبة للمتقاضين أنفسهم ، فما بالك إذا تعلق الأمر بعدالة جنائية تنظر جوهريا في حقوق أساسية من قبيل الحق في الحياة والحق في السلامة البدنية والنفسية والحق في المحاكمة العادلة، ويلعب فيها القاضي واستقلاله وتجرده وقناعته وتفاعل الأطراف دورا أساسيا. وأكد عضو المجلس الوطني لحقوق الإنسان أن الانخراط السلس والسليم للعدالة الجنائية في المسار الرقمي لابد أن يتلازم ويتزامن مع من زاوية المقاربة الحقوقية مع أمور أساسية تتلخص في المخرجات الثمانية، والتي يأتي على رأسها تعديل القانون الجنائي الحالي من خلال إعادة النظر بكيفية جوهرية في بنيته وفلسفته ولغته . وكذا تعديل قانون المسطرة الجنائية بما يحقق التوازن بين الدفاع والاتهام ويقوي قضاء التحقيق ودوره ويعزز ضمانات المحاكمة العادلة ويعطي لوسائل الإثبات وإجراءات تحقيق الدعوى مكانتها وقوتها اللائقتين بها، ويكرس قواعد العلنية والحضورية والتواجهية باعتبارها من الضمانات الجوهرية للمحاكمة العادلة . وأوصى المجلس في هذا الصدد بالعمل على النشر الاستباقي المنهجي عبر الانترنت وغيره من الوسائل المتاحة للمعلومات القانونية والقضائية تحقيقا للشفافية وتطبيقا للقانون 13.31، المتعلق بالحق في الحصول إلى المعلومات، ولاسيما المادة 10 منه، خاصة ما يتعلق بالعمل القضائي لمحكمة النقض باعتبارها أعلى جهاز قضائي في البلاد. كما تشمل المخرجات بمثابة توصيات، إقرار برامج للتكوين وتقوية القدرات لفائدة مختلف مهنيي العدالة وبرامج تحسيس المواطنات والمواطنين مع أخذ الأبعاد الترابية والمجالية بعين الاعتبار وتفعيلها وإشراك مختلف الفاعلين والمتدخلين وفعاليات المجتمع المدني فيها، اعتبارا لما منتظر منها في ضوء هذا التحول والقطع مع بعض الترسبات السلبية ، فضلا عن الدعوة إلى إحداث أجهزة جديدة للضبط والمراقبة والتقييم المستمر .