يشكل تحقيق التوازن الصعب بين شراسة الجريمة وتهديدها لسلامة المواطن و احترام حقوق الأفراد عموما وصون حرياتهم من جهة، والحفاظ على المصلحة العامة والنظام العام من جهة أخرى، محور الندوة الدولية عن بعد التي تنظمها كلية الحقوق بفاس أيام 17، 18، 20 و21 يوليوز الجاري. وتشير أرضية الندوة الى أن هذا التوازن أصبح يمثل هاجس العدالة الجنائية في ظل التطور الرقمي من حيث مدى توفير ظروف المحاكمة العادلة وفقا للنمط المتعارف عليه عالميا والمكرس في الوثيقة الدستورية لسنة 2011، خصوصا مع بروز نوع آخر من هذه الضمانات لصيق بالتطور الرقمي، من قبيل الحق في عدم الاتصال، والحق في النسيان، والحق في الصورة، إضافة إلى الحق في حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي. ويعود ذلك إلى تزايد مستوى المخاطر التي أضحت تهدد الحياة الخاصة للأفراد، في ظل الاستعمال الواسع للمعطيات الشخصية في القطاعين العام والخاص، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمعاملات الإلكترونية ونشاط الأفراد على شبكات التواصل الاجتماعي، وما يتطلبه من إرساء إطار قانوني ومؤسساتي حديث وفعال لتوفير الأمن الرقمي وتحقيق الأمن القانوني والقضائي ضمن نظام العدالة الجنائية، وذلك في توازن بين الانتفاع بمزايا التكنولوجيا الحديثة ومواجهة مخاطرها. وتنكب أشغال هذه الندوة الدولية على تدارس هذا الموضوع ضمن محاور أربعة تشمل تطوير أساليب الوقاية من الجريمة ذات الصلة بالفضاء الرقمي وآليات رصدها ومكافحتها؛ وتعزيز دور القضاء وتقوية ضمانات المحاكمة العادلة من منظور العدالة الرقمية؛ وضمان نجاعة آليات العدالة الجنائية وتحديثها لمواكبة التطور الرقمي ثم تفريد المعاملة العقابية وتفعيل البدائل الحديثة للعقوبات السالبة للحرية . وتنطلق الندوة من تطور الجريمة وأساليب ارتكابها، اعتبارا لما أصبحت تشكله من تهديد لاستقرار المجتمع وسكينته وطمأنينة أفراده، الأمر الذي ازداد تعقيدا مع ظهور أنواع جديدة من الجرائم المرتبطة بالتقدم العلمي والتكنولوجي وبالظروف الاجتماعية والاقتصادية، وانتشار جرائم الأخبار الزائفة والتشهير والمساس بالحياة الخاصة للأفراد. وسجل وزير العدل، محمد بنعبد القادر، في كلمة بالمناسبة، الظرفية الخاصة التي تعرف فيها المنظومة الجنائية لكافة دول العالم تغيرات و تحولات هامة، نتيجة التطور الكمي و الكيفي للجريمة و تطور أساليب و تقنيات ارتكابها، لا سيما في إطار الجريمة المنظمة عبر الوطنية. وأشار الى تزايد الأصوات و المطالب نحو تقوية آليات العدالة الجنائية التشريعية و المؤسساتية للتصدي لها في إطار مقاربات ناجعة و سياسة مضادة للجريمة وفق ما يتيحه تطور التكنولوجيا والتقنيات الرقمية، والتي برهنت على فعاليتها في زمن جائحة كورونا، من خلال ما حققته المحاكمة عن بعد والتعاون القضائي الدولي عبر التبادل اللامادي للطلبات والوثائق من نجاح باهر. وأكد بنعبد القادر سعي وزارة العدل إلى رسم معالم سياسة جنائية فعالة قائمة على مرجعيات ومرتكزات دولية ووطنية ثابتة ومبنية على أدوات وآليات تشريعية ومؤسساتية قوية، ومن بينها تقنيات الاتصال الحديثة نظرا لأهميتها في التصريف الأمثل للقضايا وتقوية وتطوير آليات العدالة الجنائية في الأبحاث والتحريات والتحقيقات الجنائية وتسهيل عملية التعاون القضائي الجنائي مع الدول الأجنبية وترشيد التكلفة المالية للعدالة وتبسيط المساطر والإجراءات الجاري بها العمل بما يحقق الفعالية والنجاعة والسرعة المطلوبة وكذا الأمن القانوني والقضائي. وذكر الوزير بأن تحقيق التحول الرقمي للعدالة شكل موضوع برامج كبرى تهم إحداث البوابة المندمجة للولوج إلى العدالة، تعميم التبادل الالكتروني للوثائق، التدبير اللامادي للملف القضائي، اعتماد التقنيات الرقمية في تدبير الجلسات، رقمنة المقررات القضائية وتنفيذها، ونشر المعلومة القانونية والقضائية. كما تم وضع 22 مشروعا لتنزيل التحول الرقمي للعدالة. وأوضح أن وزارة العدل خصصت ضمن مشروع القانون الذي أعدته حول استعمال الوسائط الالكترونية في إجراءات التقاضي حيزا هاما لاستعمال هذه الوسائط في المجال الجنائي خلال كافة مراحل الدعوى العمومية (بحث جنائي- تحقيق- محاكمة- تنفيذ- تعاون قضائي دولي..). وتنظم الندوة التي تحمل عنوان "العدالة الجنائية في ظل التطور الرقمي : التحديات والإنتظارات"، بشراكة مع شعبة القانون الخاص، "مختبر ESSOR القانون والفلسفة والمجتمع" و ماستر العدالة الجنائية والعلوم الجنائية بنفس الكلية، وبتعاون مع المنظمة الدولية للإصلاح الجنائي للشرق الأوسط وشمال افريقيا، ووحدة القانون الجنائي بالمركز الوطني للدراسات القانونية بالرباط، والمركز المتوسطي للدراسات القانونية والقضائية بطنجة.