قلتم وثائقي؟ قلتم هي ثورة للفتنس المغربي؟ طلب مني بعض المجتهدين أن أشاهد كل هذا الكم من الأخطاء، وأجد نفسي اليوم مجبراً على التعليق على ما ارتكبته من جرم في حق عيني. في زمن تسيد التفاهة، أصبح بعض الناس في بلدي يصورون الفراغ والخواء المغلفين بكثير من غباء ويطلقون على الخلطة تسمية الوثائقي. رباه، ما هذا الفراغ؟ وسط كل هذا الكم من القبح الذي صارت عيني تتلقفه في الآونة الأخيرة، انضاف للقائمة صناع المحتوى القبيح الذين لا يدفعون الضرائب، ويصورون يومياتهم الرتيبة، ويرفقونها بشهادات أهاليهم، مع ما تيسر من موسيقى تخدم استجداءهم لعطف المشاهد، ثم يقولون بدون خجل بأنهم أعدوا وثائقياً، ويفتخرون بالإنجاز الذي لم يتحقق، ويروجون له. هم أيها السادة شبان يصورون بطريقة بدائية، كيف بدأت علاقتهم برياضة كمال الأجسام. لا يهمني أولاً التركيز على المضمون الفارغ، ولا يهمني ثانياً غياب سبب يجعل من الإخفاق تفوقاً، ومن الفشل نجاحاً، ولا يهمني ثالثاً الاستشهاد بلغة الأرقام، لأننا اعتدنا بأن كل الفيديوهات التافهة تحصد الملايين نقداً ومشاهدات، ومعها الكثير من الترحاب والتصفيق. ما يزعجني هو أن نلصق كل هذا الكم من القبح بالوثائقي، وهو الصنف الذي أفنى كبار كثر حياتهم للرقي به وبمستواه، في كل بقاع العالم. قالها الإيطالي جانفرانكو روسي مازحاً في مهرجان برلين العالمي قبل أعوام حين حصل شريطه الوثائقي "فوكوماري" على الدب الذهبي، حين حذر من أن نصل لزمن يستسهل فيه الفارغون هذا الصنف، ليصوروا عبورهم الباهت من الحياة، ويحدثوك فيما بعد عن وثائقي حول الحياة الواقعية. حينئذ كان هذا الكبير يحذر، أما الآن فقد صرنا نعيش ونتعايش مع هذا الأمر للأسف الشديد. وضعٌ شاردٌ للكاميرا، ولقطات تتزاحم فيها الأخطاء، وشهادات عائلية تصلح لفيديو يخلد لذكريات تهم أصحابها، ولأشخاص ينقلون قصصهم التي لا يمكنها أن تلهم عاقلاً. رباه، ما هذا الفراغ؟ صار العبور لقاعة كمال الأجسام معياراً نقيس به التشبث بالحلم، ونلبسه ظلماً عباءة الوثائقي. أيننا من الوثائقي الذي وُجد لكي يتطرق لحدث سياسي أو رياضي أو اقتصادي بعين محايدة، مرفوقة بسند علمي، وأيننا من الوثائقي الذي يسلط الضوء على مسار شخصيات أعطت الكثير، وبقيت جوانب عديدة من حياتها غامضة، وجاءت الوثائقيات لتكشف بالأدلة الموثقة كل المستور. عند العقلاء، يأتي آسيف كاباديا ليخرج وثائقياً مبهرا بعنوان "Amy" عن حياة الراحلة إيمي واينهاوس، ويتطرق أليكس جيبني في الوثائقي "العالم في مواجهة بوريس بيكر.."، لأسطورة التنس الألماني الذي بدأ مساره في سن السابعة عشرة، وتكاد تسامحه على خطاياه، وعلى جشعه وأنانيته مع أسرته الصغيرة، وكل التفاصيل الأخرى بما فيها دخوله السجن بعد أن تجاوز سن الخمسين، ويعثر إمير كوستوريتسا على صيغة وثائقية يضع من خلالها دييغو مارادونا تحت مجهره، مازجاً احتراف اللاعب بتهاون الإنسان. عند العقلاء، الوثائقي ندين به، ونشجع به، ونهاجم به، ونمدح به، وحين يكون العمل متقنا، وهو العنصر الأهم، يمكن أن نلمع أو نصحح به مسارات الأساطير. عندنا، يجتمع أشخاص لا أعرفهم، ولا مشكلة لدي مع الطريقة التي اختاروها لكسب قوتهم اليومي، ويشرعون في قول كل الشيء وبالخصوص كل اللاشيء، ويدخل بعضهم في مشاحنات وملاسنات مع من ينتقدون ما صور في ذلك الشيء الذي أطلقت عليه تسمية الوثائقي، وعنون ب"ثورة الفتنس المغربي". ليست هناك لا ثورة، ولم نصنع على حد علمي المتواضع أبطالاً في هذا المجال يستحقون كل هذه الضوضاء، وليس هناك وثائقي. هو فقط تجميع لمقاطع مصورة بطريقة بدائية، اعتدنا أن نرى مثيلاً لها من ذي قبل، وتحصد عندنا المشاهدات الكثيرة التي لم ولا ولن تكون دليلاً يجعلنا نطبع مع الغلط. رباه، ما هذا الفراغ؟ لم يعد هناك شيء يثيرني فيما أراه وأسمعه، وصرت في الآونة الأخيرة قادراً على تقبل كل الهراء، وتفادي التعليق على كل هذا الكم من الجهل الذي يروج له في الويب المغربي. لقد وجد كثيرون الفرصة سانحة، والأبواب مشرعة لكي يهاجمونا بالفراغ، وينالوا عنه المقابل. هو مجال غير مقنن، بالتالي يمكن لكل عابر سبيل أن يصور أشياء عبيطة، بأخطاء فظيعة، وبدون أدنى معرفة بقانون الصورة. في آخر المطاف، يرمون بمحتواهم التافه في وجه عبادٍ طبعوا مع الفراغ الذي يلد فراغاً، ويطلقون عليه تسمية الوثائقي. رباه، ما هذا العبث، وما هذا القرف، وبالخصوص ما هذا الفراغ المهول الذي يحاول صناع المحتوى الغريب أن يستغلوه؟ كنا ننادي على الدوام بتخصيص وثائقيات حقيقية وليست انطباعية لأسمائنا الكبيرة، يتم إعدادها بطريقة حرفية. للأسف، تم دعم وثائقيات ولدت ميتة، وهو ما جعل آخرين يعتقدون بأن دار الوثائقي سهلة الولوج. فتحوها، وصوروا مثلما صور كثيرون من قبلهم الغباء الذي حقق ويحقق ملايين المشاهدات، وإن كنت أشكك في صحة كل التفاصيل، بما فيها الأرقام. هنيئاً للغباء، فهناك كثيرون يعيشون معنا وبيننا، ويريدون بكل الطرق تصويره على أنه نعمة، والسلام. (*) المسؤول الثقافي في "ميدي1′′ و"ميدي1تيفي"