نحن في حاجة ماسة لأناس عباقرة في الكذب على الجمهور. ذلك أن كل مَن مارس السياسة، أو تدبير شأن عمومي مِن أي موقع كان، يعرف بالسليقة، أن أكثر ما تحتاجه الحشود، ليس عملا جيدا، ينتشر خيره بينهم، بل إلى مَن يُحسن مُخاطبتهم، حسب عُقولهم، ألم يصف القرآن عشرات المرات "أكثر الناس" بأنهم "لا يعقلون"؟ فكيف لِمن لا يعقل، أن يتدبر الكثير من تعقيدات الحياة، فبالأحرى أن يتبين سواء السبيل في متاهاتها؟ إنها مُعضلة حقا، لذا لم يتعب، كثيرا، أغلب الذين تولوا، أمور الناس، بفضل مواهب تسلق مراتب السلطة، لإيجاد الوصفة السحرية الناجعة، في سبيل ضبط الجماهير، وقِيادتها من أنفها، مثل ثور هائج في حلبة مُصارعة، يُجهد قِواه في الركض وراء الخِرقة الحمراء، بينما أسِنَّة الرماح تخترق ظهره، حتى يخر مُضرجا في دمائه، غير مُدرك مصدر الهلاك. "" ثمة العديد من الأمثلة الكلاسيكية، من شتى دُروب وأزقة وشوارع التاريخ البشري، عن "فن" الكذب في قيادة الجماهير، فالامراطور الروماني "سيزار" أحكم القبضة على امبراطورية شاسعة الأطراف، امتدت شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، وجعل مجلس الأمة (البرلمان) مُجرد تجمع لمُسنين مَمْرورين (من المرارة) حين عرف كيف يسلب ألباب الشعب، بفضل.. حلبات المصارعة. أما في بلدان الشرق الشيوعية سابقا، فقد شن قادة أحزاب أعلام المنجل والمطرقة، حربا شرسة، ضد وعي ملايين الناس، ليتحول القادة الشيوعيون إلى مومياءات سياسية مُحنطة، كما كان شأن "لينين" و "سطالين".. وعندما كانت تُواجه تلك الحرب صعوبات، تُشْهَرُ صكوك الاتهمات والتخوين، وينزل العقاب الشديد، بالخارجين على سلطة "الوعي" الجماعي، فيصمت الناس طوعا أو كرها، ويسير الجمهور إلى حتفه. وفي مصر، كان جمال عبد الناصر يُلقي الخُطب التي تُلهب حماسة الناس، لكنه لم يكن يُصدق هو نفسه، كلمة مما كان يقول، كما قال الموسيقار الشهير محمد عبد الوهاب. عبد الناصر وعد الناس، مثلا، أنه سيُلقي بإسرائيل في البحر، غير أنه اُلقي به في مستنقع هزيمة مُنكرة. ومع ذلك خرج الناس يهتفون بحياته، وبقائه على رأس السلطة، لأنهم كانوا في حاجة إلى... كذبه. أما نحن المغاربة، فلدينا "حب" خاص ل "فضيلة" الكذب، فيكفي أن يكون أي صعلوك، متربعا على بضع سنتيميترات، من بساط السلطة، حتى تتحول حماقاته إلى دائرة مُغلقة، يسجن فيها الناس، وتكون هي كل عالمهم، وما دون ذلك لا وزن له. الماريشال "ليوطي" أشهر مُقيم عام استعماري في المغرب، انتبه إلى ذلك، لِذا أمسك بِلجام فرس السلطان يوسف، مثل أي حوذي، قائلا له على مرأى من الناس: "مولاي أنا أول خُدامك" غير أنه في الكواليس، جعله مُجرد مُوقِّع على الظهائر الاستعمارية. بينما كان الناس يقولون: عاش مولانا السلطان. الحسن الثاني انتبه أيضا إلى هذه الخصيصة، واستثمرها بذهاء، كان مثلا يُدغدغ مشاعر العوام في خُطبه، قائلا "إن الله أنعم علينا ببلاد تُطل على بحرين، وثروات فلاحية هامة، فكان لنا الحساد وكيد الكائدين".. وفي نفس الوقت اعتمد، هو وكبار مُعاونيه، سياسة تبدير وسوء تدبير، لتلك الثروات، وحينما دق تقرير البنك الدولي سنة 1995 أجراس الخطر، قال الحسن الثاني للناس: "المغرب مقبل على مرحلة السكتة القلبية" ومنحهم أكباش فداء "مُنتقاة" من بين أضعف "المرفحين" و قال الناس: آآآآميييين. واليوم فإننا نحتاج إلى مَن يُحسن الكذب فلا نجده، فوريث الحسن الثاني، ليس على مثل مواهب والده، لأسباب اختلاف في الشخصية، ألم يقل الحسن الثاني لصحافي فرنسي: "هو هو وأنا أنا"؟. لكن شَدَّ انتباه الناس، بأي شيء مطلوب بإلحاح، لذا كانت مثلا، صورة محمد السادس مؤخرا، وهو يمشي بحذائه الصقيل فوق "الغيس" بعين تاوجطات. فهل ستعمل تلك الصورة "المُلفَّقة" على تخليص البلاد من كل هذا "الغيس" الذي يُغرقنا؟ كلا.. سيقول الناس: الملك نفسه "عفط فوق الغيس" فلماذا لانفعل نحن، وبذلك حصلنا على حل "سحري" لكل مشاكل البؤس التي تُؤثث البلاد. يجب أن نكون واقعيين، فما دمنا لا نستطيع تغيير الواقع، فلنأمل على الأقل، أن نتوفر على مَن يعرف كيف يكذب علينا، فنكون من المُفلحين. [email protected]