الحمد لله الذي علم بالقلم علم ال إنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على النبي الأمي الأتم، وعلى آله وأصحابه أولي النهى والهمم. وبعد، فالتخريج الفقهي هو الصورة الاجتهادية الأساسية للمذاهب الفقهية منذ نشأتها، وأساسه أن القول والفتوى لا تصدر هكذا، وإنما تكون مؤسسة على القياس والمعاني المذهبية حتى تصح نسبتها إلى إمام، لئلا تتعارض الأحكام وتتنافى، وتضطرب المسائل وتتداعى. ولهذا فالتخريج موجود في كل المذاهب الفقهية، وبه تراكمت ثروة تشريعية كبيرة فيها، ويتجلى هذا في المذهب المالكي بانتقال مسائله من حوالي 36 ألف مسألة في المدونة إلى أزيد من 100 ألف مسألة في مختصر الشيخ خليل. إن التخريج عملية ضرورية لمواكبة الواقعات، والجواب عن النوازل والحوادث والسؤالات ومسايرة تطور الحياة إذ هو ضرب من الاجتهاد داخل نطاق المذهب، وبه تتكامل وجوه المسائل الناقصة التي لم تستوف، والتي لم يرد فيها نص من إمام المذهب، حيث يقوم مجتهدو المذهب بإكمالها، وبه حصل الاستمرار للمذاهب الفقهية وكتب لها الامتداد، وتم الحفاظ عليها، وبذلك ضمن الاستقرار للحياة الإسلامية في المناطق والبلدان التي تتبعها. وللتخريج المذهبي عبارات وألفاظ، يجمعها قياس المسائل بعضها على بعض، فتارة يعبرون عنه بتخريج الفروع على الفروع، وتارة يعبرون بقياس المسألة على المسألة، وكان ابن رشد الجد ربما عبر عنها بالتوجيه في كتابيه البيان والمقدمات. وفي أحيان أخرى يعبرون عنه بالإجراء، إلا أن هذا الإطلاق خصوصا بالخلاف في المسألة فيقولون: ويجري في المسالة على قول فلان حكم كذا، أو ويجري الخلاف هنا على الخلاف في كذا. ومنذ نشأة المذهب كان العلماء يخرجون المسائل على قول الإمام مالك، فالناظر في مدونة سحنون يطالعه أحيانا قول ابن القاسم "ولم أسمع من مالك في هذا شيئا" و"مسألتك مثله". ونجد عند سحنون واصبغ وابن سحنون وابن عبدوس وابن الماجشون وابن حبيب ونظرائهم من المتقدمين تخريجات كثيرة محفوظة، احتلت حيزا هاما ضمن فروع المذهب، بعضها معتمد مما حفظته لنا كتب الأمهات والموسوعات، من قبيل ابن أبي زيد القيرواني في نوادره، وابن يونس في جامعه، وأبي الوليد ابن رشد في البيان والتحصيل، والمازري في شرحه على التلقين، وابن بشير في تنبيهه وغيرهم. وقد تتابع التخريج وتتالت طبقات أئمته، وخلف الفقهاء ثروة كبيرة من التخريجات، وإذا كان السابقون قد توقفوا عند تخريجات اللخمي ومخالفة بعض تخريجاته لنصوص المذهب، فإن نظراءه وتلاميذه ومن جاء بعدهم لم يكونوا بأقل منهم غزارة في هذا الباب، وإن لم يخالفوا المذهب كما خالفه أبو الحسن اللخمي. ولله در ابن عرفة حيث رد انتقاد ابن العربي للقول المخرج، ومنعه من نسبته للشرع، فرد قوله بكلام من أنبل ما يكون، بين فيه أهمية التخريج الفروعي، وضرورته الفقهية والواقعية، فقال رحمه الله: يرد كلامه [أي: ابن العربي رحمه الله]؛ لأنه يؤدي إلى تعطيل الأحكام؛ لأن الفرض عدم المجتهد، لامتناع تولية المقلد مع وجوده، فإذا كان حكم النازلة غير منصوص عليه، ولم يجز للمقلد المولى القياس على قول مقلده في نازلة أخرى تعطلت الأحكام، وبانه خلاف عمل متقدمي أهل المذهب، كابن القاسم في المدونة في قياسه على أقوال مالك، ومتأخريهم كاللخمي وابن رشد والتونسي والباجي، وغير واحد من أهل المذهب، بل من تأمل كلام ابن رشد وجده يعد اختياراته بتخريجاته في تحصيله الأقوال أقوالا...". والجدير بالذكر أن التخريج الفقهي لا يسلم ابتداء قبل أن يعرض على قواعد الشرع ومقررات المذهب، لذلك فإن تخريجات أئمة التخريح لم تسلم من انتقادات واستدراكات وأنظار أئمة المذهب في التخريجات الفقهية تنقسم إلى نوعين من النظرة: 1- نظر أصولي: بدور على مدى اعتبار القول المخرج كالمنصوص في الدلالة على المذهب ونسبته إليه. وفي المذهب خلاف شهير في هذا، وقول الأكثرين أنه من الشرع إذا تحررت صحته، كما حكى الولاتي في نيل السول. وقال في بغية المقاصد "وأما كيفية التخريج فمحلها علم الأصول والكفيل بمعظم بيانها منه باب القياس". 2- نظر فروعي: يتبع التخريجات ويفحصها، وينظر منها ما هو صالح للاعتماد من غيره. وقد أنتج هذا النظر النقدي طبقات من الأعلام المعتمدة تخريجاتهم المنصورة تقريراتهم، وعليها حول المتأخرون من المالكية. ولتخريجات أهل المذهب مصادر كثيرة، فأقدمها المدونة نفسها، والنوادر والزيادات وتحتوي شروح المدونة والعتبية والتفريع والتلقين ومختصر ابن الحاجب ومختصر خليل تخريجات كثيرة جدا، تواصى بنقلها أهل المذهب منها ما هو مقرر، ومنها ما هو مردود، ومنها ما اختلفت مناقشتهم وأنظارهم فيه.