استوقفني مقال جريء لرجل الاقتصاد الفرنسي اللامع توماس بيكيتي، صدر بجريدة "لوموند" بتاريخ 13 أبريل 2023 غداة انتظار الرأي العام الفرنسي صدور قرار حكماء المجلس الدستوري بشأن أزمة التقاعد. المقال المتضمن لطرح أسئلة عميقة وشائكة عامة ما يتفادى فقهاء القانون الدستوري والباحثون طرحها أمام العموم والمتمثلة أساسا في الآتي: هل يجوز وضع الثقة في قضاة المحاكم الدستورية؟ الكاتب وهو يقر بالدور المهم الذي تنهض به هذه المؤسسات في كل بلدان العالم فهو لا يخفي أسفه البليغ في كونها تعتبر هشة، وتوظف لأغراض سياسية تحت غطاء قانوني قضائي، مسترشدا بعرض أمثلة عديدة لقرارات تاريخية حية في بلدان عديدة من العالم، مفادها غياب الحياد والاستقلالية في النطق بالأحكام والقرارات. في الولاياتالمتحدة قررت المحكمة العليا عام 1896 بالمشروعية التامة في تطبيق الميز العنصري في دول الجنوب؛ وهو القرار الذي دام إلى عام 1960. وفي عام 1930، اعتبرت المحكمة نفسها أن الإجراءات التي اتخذها الكونغريس الأمريكي في إطار "الخطة الجديدة" التي تبناها الرئيس روزفيلت غير مشروعة باعتبارها تعد مسا بحرية المبادرة الفردية؛ لكن عندما قام روزفيلت بتعيين عدد من القضاة الجدد عام 1936 قررت المحكمة العليا التنازل والموافقة على قرار حاسم يقضي بتحديد الحد الأدنى للأجور والتي كانت سابقا تعارضه. وليس ببعيد قررت المحكمة نفسها عام 2010 أن تحديد سقف لتمويل الأحزاب غير مشروع ويتعارض مع حرية التعبير. ويرى الكاتب أن شطط المحاكم الدستورية امتد كذلك إلى أوروبا. ففي ألمانيا، عارض وزير المالية كيرشوف المستشارة ميركل في تحديد نسبة تضريب الأجور العليا، الشيء الذي نتج عنه استياء الألمان وكانت له آثار وخيمة على شعبية ميركل التي اضطرت إلى تكوين ائتلاف حكومي مع حزب آخر والانفصال عن وزيرها؛ غير أن هذا الأخير ما إن أصبح عضوا، عام 1995، بالمجلس الدستوري حتى صدر له حكم يعتبر فيه أن كل تضريب للأجور العليا بنسبة 50 في المائة يعد مخالفا للدستور، وهو القرار الذي أثار، حينذاك، ضجة كبرى في المجتمع حيث تم التصدي له لدى محكمة النقض الألمانية من خلال التأكيد على أن القانون لا يخول للمجلس الدستوري اختصاص التحديد الكمي في تضريب الأجور. وفي فرنسا، اعتبر القضاء الدستوري أن تضريب الأجور العليا بنسبة 75 في المائة لكل ما يفوق مليون أورو هو مخالف للدستور، معللا ذلك بأن الضريبة في طبيعتها تعد بمثابة مساهمة وينبغي أن لا تكون أداة "لسلب" وإتلاف لموارد الأفراد؛ غير أن الكاتب يعتبر أن قرار رفع نسبة تضريب الأجور العليا في الولاياتالمتحدة، ما بين 1930 و1980، من 80 في المائة إلى 90 في المائة كانت له آثار إيجابية، خلافا لما يراه رئيس المجلس الدستوري السابق جون لويس ديبري، ولم يهدد أبدا دولة الحق والقانون. ويلاحظ توماس بيكيتي أن القضاء الدستوري الفرنسي تبنى مذهبا غريبا عندما اعتبر أن الضريبة على الثروة لا ينبغي لها أن تتعدى نسبة معينة من الدخل، حتى في حالة وجود دخل فاحش على الثروة، الشيء الذي يعني منع القضاء الدستوري جباية ضرائب مهمة على الثروة لميزانية الدولة، على الرغم من أن الدستور الفرنسي لا يمنع فرض الضريبة على الملكية، كما تشهد على ذلك جباية حقوق الإرث والرسوم العقارية والتي تلعب دورا أساسيا في تمويل المنظومة الجبائية والاجتماعية الفرنسية منذ الثورة الفرنسية. ويختم الكاتب مقاله بالقول إن القضاة المحاكم الدستورية عندما يسلكون هذا المنحى فهم يتقمصون ملاك الثروة؛ وبالتالي فإنهم يعدون كشركاء في أهداف هؤلاء الملاك، عندئذ يتسببون في إلحاق الضرر بوظائفهم وبالديمقراطية على السواء. ويستنتج الكاتب أنه لا ينبغي انتظار الكثير من قضاة المحكمة الدستورية، يوم الثلاثاء 13 أبريل 2023، على غرار باقي المؤسسات الإنسانية، التي ينبغي أن تكون دائما موضوع شك وحذر من خلال العمل على تقييم أعمالها ومراقبتها بطريقة ديمقراطية، وعند الاقتضاء مراجعة قوانينها، حيث لا ينبغي أن تعد سلطة مقدسة. أما بالنسبة للقرار المنتظر، فالكاتب يرى أنه من البديهي أن استعمال إصلاح نظام التقاعد لفائدة قوانين تمويل الحماية الاجتماعية هو يخالف روح الدستور وبالتالي ينبغي التصدي له ورفضه. ومما شك فيه، يشدد الكاتب، أن رفض طلب الاستشارة لدى المجلس الدستوري ستنتج عنه أزمة اجتماعية عميقة في فرنسا؛ غير أن التعبئة الديمقراطية والاجتماعية الشاملة التي ينتج عنا التغيير التاريخي هي التي ستمكن من أن يصبح القانون أداة للتحرر وليس في خدمة المحافظة على مصالح ومناصب السلطة. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فماهي القيمة الفقهية والديمقراطية التي أتت بها المحكمة الدستورية بالمغرب عندما رفضت حصر الأسئلة المتعلقة بالسياسة العامة في سؤالين اثنين أثناء فحصها لمدى مطابقة النظام الداخلي لمجلس النواب مع الدستور؟ اعتبارا لصيغة الجمع التي أتى بها الدستور أو عندما اعترضت على توسع القانون الداخلي لمجلس النواب في موضوع تعريفه لمفهوم السياسة العامة، باعتبارها "الخيارات الإستراتيجية الكبرى للدولة والتي تكتسي بحكم طبيعتها ومداها صفة الشمولية والعرضانية"؟