كلمة "سيبر" جذورها تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر، وهو مصطلح يحاول وصف الحلقات المغلقة لأنظمة المعلومات. وفي السياق الراهن لشبكات الحاسوب، نشأ المصطلح -كما يشير إلى ذلك فرد كابلان في كتابه "المنطقة المعتمة"، الصادر عن سلسلة عالم المعرفة- عن رواية "نيورومانسر"، رواية الخيال العلمي التي كتبها ويليام جيبسون في العام 1984، وهي قصة جامعة استشرافية على نحو مخيف، تتناول القتل وأعمال الفوضى في عالم الفضاء السيبراني الافتراضي. حرب المعلومات قديمة قدم الحروب ذاتها: ابتدأ الأمر قديما عندما كانت الجيوش الرومانية تعترض اتصالات العدو، وتواصل في الحرب العالمية الثانية، حيث استطاع خبراء التشفير البريطانيون والأمريكيون تكسير الشيفرة الألمانية واليابانية، الذي كان عنصرا حاسما في انتصار الحلفاء. وهو الأسلوب ذاته الذي اتبع في الحرب الباردة، حيث ظل الجواسيس الروس والأمريكيون يعترضون اتصالات بعضهم البعض من إشارات راديوية (لاسلكية)، وذلك للحصول على الأفضلية في الحرب الجسيمة المخيفة المقبلة. فعلى امتداد مدة الحرب، عملت وكالة الأمن القومي الأمريكي على إقامة قواعد حول العالم، لاعتراض وترجمة وتحليل كل أساليب الاتصالات داخل الاتحاد السوفياتي، لم تسلم منه العاصمة موسكو، حيث زُودت السفارة الأمريكية هناك بمعدات إلكترونية لجمع محادثات كبار المسؤولين، بمن فيهم ليونيد بريجنيف. وقبل غزو العراق، تمكن الضباط الأمريكيون من النفاذ إلى عمق شبكة صدام للقيادة والسيطرة، عبر الاتصال بالشركات الغربية التي ركبت الألياف الضوئية في بغداد والبصرة ثم إلى الكويت بعد غزوها، ومنهم علموا مواقع التبديل. وكانوا في كل خطوة يعلمون ما يصدره صدام وقيادات الجيش من تعليمات، وبالتالي معرفة تحركات الجنود، "وفصل رأس هيكل قيادة العدو عن جسده من القوات المقاتلة". كما استخدمت الوسائل الإلكترونية في تعطيل المولدات التي تزود المرافق الحيوية للدولة بالكهرباء، ومنها المنشآت العسكرية، من دون إطلاق قذيفة واحدة، مما أكسب الولاياتالمتحدة أفضلية في الحرب. الأمر يتعلق إذن، بالسيطرة على المعلومات، فالحروب تُدار، ليس "بالأسلحة أو الطاقة أو المال فقط، إنها تُدار بالآحاد والأصفار... الأمر يتعلق بمن يسيطر على المعلومات"، تغذية الخصم بمعلومات خاطئة أو عرقلة أو تدمير أو إرباك القادة.... القصف بالآحاد والأصفار يسد ما لم تسده راجمات الصواريخ: إن عصر التكنلوجيا المعلوماتية، فرضت على الإنسان ابتكار وسائل غير مسبوقة لحماية نفسه، فالحدود الجغرافية الكلاسيكية لم يعد لها معنى، حيث يمكن الوصول إلى النظم الحيوية المتواجدة داخلها عن بعد، دون الحاجة إلى المواجهة العسكرية. فاللص "المعاصر يستطيع أن يسرق باستخدام الحاسوب أكثر مما يسرق بالبندقية، وربما يكون إرهابيو الغد قادرين على إلحاق ضرر باستخدام لوحة مفاتيح أكثر من الضرر الذي يحدثونه باستخدام قنبلة". وقد أورد فرد كابلان بالكثير من الأحداث التي نفذ منها القراصنة إلى عمق منظومات العدو، بدقة وفعالية. فقد استطاع القراصنة تعطيل أنظمة مناورات عسكرية: كندا، أستراليا ونيوزيلندا، بالسيطرة على الحاسوب الشخصي الخاص بالقائد الأمريكي، وأرسلوا إليه رسائل بريد إلكترونية وهمية خادعة، مما أدى إلى تشويه منظوره بشأن ساحة المعركة، ... وفي حرب حقيقية، تعني الهزيمة". كما رُصدت في عهد ولاية كلينتون، عملية اختراق لمركز سلاح الجو، واعتبرت في حينها الشرارة الأولى للحرب السيبرانية، وكانت الشكوك تحوم حول بغداد مصدرها، إلى أن تبين في ما بعد، أن الأمر يتعلق بصبيين صينيين يتنافسان على من يخترق البنتاغون أولا. كما لجأ بوتين إلى القصف بالآحاد والأصفار، وغمر شبكات مستخدمي الأنترنيت بإستونيا، التي استاء شعبها الميال إلى النمط الغربي، للتخفيف من ضغطه، وأعمال الشغب التي اندلعت في 27 أبريل 2007، فتعطلت الحواسيب والهواتف وكل أجهزة التواصل، الشيء الذي ساهم في إخماد فتيل الثورة. وبعد نهاية الحرب الباردة، تفوقت روسيا على جورجيا، في توترات التي سادت بين الحكومتين، بفضل قراصنة الحاسوب الذين كانوا يزودون موسكو بمعلومات عن الجيش الجورجي. كل هذه الشواهد وغيرها كثير، تؤكد على حقيقة مفادها، بأن الأسلحة السيبرانية يمكن أن تؤدي دورا ذا فعالية في حسم المعارك، لا يقل أهمية وفتكا عن الأسلحة النووية. هذا بالإضافة إلى قدرته على اختراق الحواسيب المركزية للمؤسسات الحيوية كالماء والكهرباء ومختلف الدوائر الحكومية.... "فعلى مدار سبعة أعوام، كان قراصنة الحاسوب في شنغهاي هم المسؤولين عما لا يقل عن 141 هجوما سيبرانيا ناجحا، في عشرين قطاعا صناعيا رئيسيا، يتضمن مقاولي الدفاع والمنشآت المائية وأنابيب النفط والغاز والبنى الأساسية". وهو ما حذا بماكونيل إلى القول: "أولئك الإرهابيون التسعة عشر الذين شنوا هجوم الحادي عشر من شتنبر، إذا كانت لديهم مهارة سيبرانية، وإذا كانوا قد اخترقوا مخدمات أحد البنوك الكبيرة في مدينة نيويورك وأفسدوا ملفاته، لاستطاعوا إحداث أضرارا اقتصادية أكثر مما أحدثوا بهدمهم البرجين التوأمين". خاتمة: إن الوصول إلى معنويات الجيوش، بهدف تحطيم قدرتها القتالية، وإرادتها وتثبيط عزيمتها في خوض المعارك، غاية لا تقل شأنا عن إنهاكه وتحطيمه جسديا، وتأكدت فعالية هذا المسعى في الكثير من المحطات أوردها الكتاب بتفصيل. ولكل فعل رد فعل، فبقدر ما تسعى الأنظمة إلى اختراق نظم الخصم، بقدر ما تسعى إلى تحصين نظمها، أسهب الكاتب في سرد هذا التاريخ.