أضحى الحديث عن التنمية الثقافية شأنا خاصا، لا يستهوي شرائح واسعة في المجتمع، بل إن غالبية الناس إن لم نقل كلهم لا يلقون الوقت الكافي للمطالبة بحقهم في التنمية الثقافية، وحتى الذين ينتجون الثقافة أصبحوا قلة، ولأن فعل التأليف والإنتاج الذاتيين قد سكن وجدانهم، تجدهم يعضون بالنواجد على فعل الكتابة، بل إنهم يعتبرون النهوض بالشأن الثقافي فرض عين، وكرسوا أوقاتهم لتنوير العقول، والتعريف بالموروث الثقافي الوطني، واستجلاء معالمه، وخصائصه، وإبداع ما يمكن إبداعه من فنون، وأنواع أدبية. وإذا كانت دور النشر والمؤسسات الثقافية، لم تعد تشغل بالها بالمثقف الجاد، وأصبح مبتغاها في غالب الأحيان هو خدمة بعض الأسماء الثقافية التي أبلت البلاء الحسن في التنمية الثقافية في وقت من الأوقات، وأبت أن تعترف بالأقلام الثقافية الجادة، ولم تؤمن بفكرة الأجيال. إن البحث في تمفصلات ومنعطفات التنمية الثقافية لا ينبغي أن ينحصر في إنتاج الماضي، فمد جسور التواصل بين مختلف الإنتاجات الثقافية أصبح أمرا يفرض نفسه وبإلحاح، وما أحوجنا اليوم إلى نفض الغبار عن كل ما ألف من إنتاج ثقافي وفي كل الفنون، عبر حقب ثقافية متعاقبة، تحمل جينات وأنوية صلبة، قد تساعد لا شك في التفكير مجددا في تنمية ثقافية، قد تستفيد منها كل فئات المجتمع التي هي في حاجة ملحة إلى ثقافة جادة تحد من فوضى ما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي من ثقافة مبتسرة ومشوهة، لا ترقى لخدمة الإنسان وتنميته ثقافيا، وأستثني في هذا السياق بعض الكتابات الجادة التي تنشر بين الفينة والأخرى على جداريات "فيسبوك" لكتاب ومؤلفين أفنوا زهرة شبابهم في القراءة والكتابة، ولم يستندوا على جدارياتهم إلا بعد أن خذلتهم دور النشر، وتخلت عنهم المؤسسات الثقافية. وأعتقد أنه حان الوقت لإعادة النظر في المنعطفات المحركة للتنمية الثقافية، بعد أن فقدت الثقافة الجادة بوصلتها، ولم تعد مؤثرة في شباب اليوم. ولا أحد ينكر الطاقة الإيجابية التي يتمتع بها الشباب لخدمة التنمية الثقافية، لكن هذه الطاقة ملزمة بمدها بنسغ الحياة حتى تستمر وتؤثر في فئات واسعة فرض عليها ألا تنخرط في دعم الثقافة الجادة وأرغمت على أن تنعزل للقراءة والكتابة المتقوقعة على الذات، وتكتفي بالنقد من وراء ستار. وهذا ما نلمسه على الأقل في العدد القليل الذي يحضر الندوات العلمية ترضية للخواطر أو لغرض في نفس يعقوب، وهنا لا بد من استثناء بعض الندوات العلمية والملتقيات الثقافية التي تحتفي بالجمهور المثقف وتبوئه المكانة التي يستحقها في مجتمع المعرفة، ولا يمكن أن نبني تنمية ثقافية حقيقية من غير أن نشرك النخب الثقافية المهتمة بالثقافة العالمة والثقافة الشعبية، وعندما نتحدث عن النخب فإننا نستحضر الجمهور المثقف الذي يؤمن بدوره بفكرة تلاقح الأجيال الثقافية التي تؤمن بالاختلاف وتنتصر للفنون بغض النظر عن منتجها والمؤسسة الثقافية التي ينتمي إليها. وبعبارة أخرى فإن التنمية الثقافية لكي تمارس تأثيرها المباشر على الإنسان لا بد من تمثلها للتفاعل المثمر بين الباث للون من ألوان الثقافة وبين المتقبل لذلك اللون، ونترك لهذا الأخير فرصة التعبير عن هذا التفاعل بتحويل الأثر الثقافي إلى رأسمال لا مادي يمكن ملامسته في أشكال حضارية ترى بالعين المجردة. وإلا كيف يمكن أن نقر بتنمية ثقافية محورها الإنسان والحياة الاجتماعية تتمظهر فيها سلوكات لا ثقافية ولا مدنية؟ إن إعادة النظر في مفهوم التنمية الثقافية أصبح يفرض نفسه وبإلحاح، لذا فإن المثقف ملزم اليوم بالخروج من برجه العاجي لينخرط في هموم المجتمع وشجونه عبر الانخراط الفعلي في جمعيات المجتمع المدني، وألا يكتفي بدور الناقد الذي يغدق الوصايا من وراء حجاب، فعندما تصل الثقافة الجادة إلى المتلقي المشبع بقيم الاختلاف، وينتج هو الآخر ثقافة تؤمن بالاختلاف والتعدد، آنئذ تبدأ التنمية الثقافية في التشكل، وتتمظهر في أشكال فنية وأنماط وأنواع أدبية وثقافية تمارس تأثيرها على الجمهور العريض المهتم بالثقافة العالمة والثقافة الشعبية على حد سواء.