مكتب "بنخضرة" يتوقع إنشاء السلطة العليا لمشروع أنبوب الغاز نيجيريا- المغرب في سنة 2025    الشراكة الاستراتيجية بين الصين والمغرب: تعزيز التعاون من أجل مستقبل مشترك    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    وسط حضور بارز..مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة تخلد الذكرى الستين لتشييد المسجد الكبير بالعاصمة السنغالية داكار    المتقاعدون يدعون للاحتجاج ضد تردي أوضاعهم ويطالبون برفع التهميش    الجزائر تعتقل كاتبا إثر تصريحاته التي اتهم فيها الاستعمار الفرنسي باقتطاع أراض مغربية لصالح الجزائر    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي        اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور    استغلال النفوذ يجر شرطيا إلى التحقيق    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    "مرتفع جوي بكتل هواء جافة نحو المغرب" يرفع درجات الحرارة الموسمية    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري    انخفاض مفرغات الصيد البحري بميناء الناظور    موتسيبي "فخور للغاية" بدور المغرب في تطور كرة القدم بإفريقيا    معهد التكنولوجيا التطبيقية المسيرة بالجديدة يحتفل ذكرى المسيرة الخضراء وعيد الاستقلال    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بوعشرين: أصحاب "كلنا إسرائيليون" مطالبون بالتبرؤ من نتنياهو والاعتذار للمغاربة    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    الوزير برّادة يراجع منهجية ومعايير اختيار مؤسسات الريادة ال2500 في الابتدائي والإعدادي لسنة 2025    اختفاء غامض لشاب بلجيكي في المغرب    كأس ديفيس لكرة المضرب.. هولندا تبلغ النهائي للمرة الأولى في تاريخها        ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    سبوتنيك الروسية تكشف عن شروط المغرب لعودة العلاقات مع إيران    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب        ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    عندما تتطاول الظلال على الأهرام: عبث تنظيم الصحافة الرياضية    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط        كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إشكالية الثقافة العالمة والثقافة العضوية للشعب
نشر في هسبريس يوم 23 - 02 - 2015


نحو مشروع لتدريس الثقافة الشعبية بالمغرب
قبل التطرق إلى مسألة الثقافة الشعبية في علاقتها بالثقافة العالمة في المغرب، لابد من الحديث عن تجربة الغرب في معالجة هذه القضية لأن الباحثين الأجانب كانوا سباقين إلى إثارة أهمية الثقافة الشعبية. و قد جرت العادة أن يستفيد الباحثون العرب من نظائرهم الغربيين في مجال النظرية والمنهج، ولهذا ارتأينا أن نخصص هذا المقال للحديث عن الجهود التي بذلها الغربيون في التعريف بالثقافة الشعبية و التنظير لها، و على ضوء تجربتهم في هذا المجال، سنقدم في نهاية المقال مجموعة من الأسئلة التي قد تفيد في تطوير النقاش حول إشكالية تدريس الثقافة العضوية للشعب بالجامعة المغربية.إن المحاور التي سنتطرق إليها سترد على الشكل التالي:
1. مفهوم الثقافة: كيف تم تعريف الثقافة منذ بدايات القرن 19 في أوربا.
2. مفهوم الثقافة الشعبية: ما هو التعريف الذي أعطي لمصطلح "شعبي"؟
3. نظريات التقسيم الثنائي للثقافة: كيف تم تصنيف الثقافة نظريا إلى ثقافة عالمة وأخرى شعبية ؟
4. طرح أسئلة حول مصير السياسة الثقافية واللغوية بالمغرب على ضوء التجربة الأوروبية في هذا المجال، مع أخذنا بعين الاعتبار ما حصل في الماضي القريب من تجاوزات أدت في رأينا إلى تطور خجول، إن لم نقل منعدم، لمشروع إقلاع الثقافة العضوية للشعب في المغرب.
1. مفهوم الثقافة :
تم اشتقاق كلمة ثقافة "Culture" في الغرب من الكلمة اللاتينية "Cultura" و لقد حافظت مجموعة من اللغات الأوربية حسب تومسون في كتابه الإيديولوجيا والثقافة الحديثة ( 1990، ص 124) على جزء من المعنى الأصلي للكلمة في اللغة اللاتينية، ثقافة بمعنى حراثة أو زراعة "Cultivation" أو تطوير الإنتاج وترقيته وتحسينه. و منذ القرن 16، تطور مفهوم الكلمة من "حراثة الأرض" إلى "حراثة الذهن" ، أي تطوير المهارات الذهنية. و في القرن 19 استعملت كلمة ثقافة مرادفة لكلمة حضارة "Civilisation"، و إبان عصر الأنوار في فرنسا و بريطانيا، وظفت كلمة حضارة للدلالة على مرحلة راقية من تطور الثقافة، و هكذا ظهر تصور مفاده أن هناك شعوبا مثقفة و متحضرة و شعوبا بدون ثقافة أو حضارة ، وهي عبارة عن تجمعات بشرية بدائية وهمجية، وظل هذا المفهوم سائدا بالرغم من ظهور تصور كلاسيكي يتحدث عن الثقافة بصيغة الجمع، بمعنى أن هناك ثقافات، و من رواد هذا التصور نذكر على سبيل المثال هيردر وكوستاف وكليمن وتايلور الذي يعتبر أحد مؤسسي الأنثروبولوجيا الدينية. وقد كتب هؤلاء من وجهة نظر اثنوغرافية؛ بمعنى أنهم سافروا إلى مجتمعات الآخر وعايشوها، فلاحظوا أن الثقافة لا يمكن أن تنحصر فقط في أوربا، لكن ظل التصور الكلاسيكي يحمل في طياته نفحة الحضارة. و حسب هذا المنظور، يتم تعريف الثقافة على الشكل التالي :" الثقافة هي عملية تطوير مهارات ذهنية و فكرية بواسطة الاطلاع على أبحاث أكاديمية وفنون، وهي مرتبطة بالمظاهر المتقدمة للعصر الحديث" (تومسون، 1990، ص: 120). فالثقافة من هذا المنظور إذن هي المعرفة المتعلقة بالفنون و الآداب، و كل ما يرتبط بالمهارات الفنية، و هذا التصور في نظرنا قريب من مفهوم الثقافة العالمة أو الراقية.
بعد نشاط الحركة الإمبريالية في أوربا إبان القرن 19، ظهر تصور جديد يمكن تسميته حسب تومسون دائما بالتصور الوصفي للثقافة، و ترعرع هذا التصور في أكناف المد الأنثروبولوجي، حيث سافر عدد من الباحثين الأنثروبولوجيين إلى المستعمرات البريطانية و الفرنسية، و بدأت حركة مهمة من الكتابة الاثنوغرافية حول هذه الثقافات؛ و نسوق إليكم تعريفا للثقافة من هذا المنظور لتايلور السالف الذكر في كتابه الثقافة البدائية، يقول تايلور: " تعتبر الثقافة أو الحضارة بمعناها الاثنوغرافي، مجموعة من المعارف و المعتقدات و الفنون و السلوكيات الأخلاقية و القوانين و التقاليد و كل المهارات و العوائد التي اكتسبها الإنسان كفرد داخل المجتمع" (1903، ص:1). هكذا، أصبحت الثقافة ذات تعريف شمولي يتضمن رموز الحياة اليومية لكافة أفراد المجتمع و ممارساتها، و لم يعد يقتصر على الفنون و الآداب و السمات الراقية لمجموعة بشرية معينة. و قد انخرطت كل المجتمعات البشرية ، والطبقات الاجتماعية، والفئات الإثنية ، والأقليات على اختلاف أجناسها وأعراقها وميولاتها الجنسية في هذا التعريف، باعتبارها بنيات مثقفة، أي تعيش في أحضان ما يسمى بالثقافة الرئيسية أو الثقافة العضوية للشعب. و ظل البحث الأنثروبولوجي مستمرا على هذا المنوال حتى العقود الأخيرة من القرن العشرين؛ حيث ظهر تصور جديد للثقافة.
و أحد مؤسسي هذا التصور هو كليفورد كيرتز في كتابه تأويل الثقافات (1973)، حيث عرف الثقافة على الشكل التالي : "إذا اعتقدنا مع ماكس فيبر أن الإنسان كائن حيواني يعيش سجين نسيج من المعاني التي عمل على خلقها، فسنعرف الثقافة بأنها ذلك النسيج، و أن دراستها ليست علما تجريبيا يبحث عن قوانين وقواعد علمية موضوعية، ولكنها عملية تأويلية تبحث في المعاني والرموز" ( 1973، ص: 5). لقد أدخل هذا التصور إبدالا جديدا إلى ميدان الدراسة الثقافية، فما هو هذا الإبدال؟ على خلاف ما كان يفعله الأنثروبولوجيون في السابق، والذين كانوا ينتمون في معظمهم إلى العلوم الحقة /التجريبية، حيث كانوا يدرسون القوانين والقواعد المنظمة للعلاقات الاجتماعية، عرف كيرتز الثقافة بأنها نسيج من الرموز التي خلقها الإنسان لكي يتواصل مع ذاته و الآخر، و يمكن تسمية هذا التصور بالتصور الرمزي للثقافة. و لقد أدرج الآن هذا التصور كتصور أساسي في علم الاجتماع و الدراسات الثقافية؛ حيث أصبح دارس الثقافة عبارة عن ناقد أدبي يقوم بتأويل النص الثقافي تأويلا من الدرجة الثانية، لأن التأويل من الدرجة الأولى هو للفاعل الاجتماعي، و النص هنا يشمل أي فعل ثقافي. و ينبغي وضع هذا التصور في سياقه التاريخي، حيث يتبين من خلال التعريف أن اللغة مكون أساسي في بناء ثقافة الشعوب. هذا التعريف يرتكز بالذات على أدبيات البنيوية التي اعتبرت اللغة محورا أساسيا في تشكيل الواقع وتحديد نظرة الإنسان إليه.
على ضوء نظرية كيرتز، يعرف البدوي أحمد زكي في معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية الثقافة كما يلي : "الثقافة هي البيئة التي خلقها الإنسان، بما فيها المنتجات المادية و غير المادية التي تنتقل من جيل إلى آخر، فهي بذلك تتضمن الأنماط الظاهرة و الباطنة للسلوك المكتسب عن طريق الرموز و الذي يتكون في مجتمع معين، من علوم و معتقدات و فنون و قيم و قوانين و عادات و غير ذلك." ( 1993، ص: 92 ). إذن هذا هو التصور الذي لا زال سائدا حتى الآن، و هو أن الثقافة ليست ثقافة عالمة، بل هي ثقافة شاملة بما فيها من المنتجات الباطنة و الظاهرة للسلوك البشري المكتسب ، لكن من أين جاء هذا التقسيم الثنائي للثقافة في أوربا إلى ثقافة عالمة و ثقافة شعبية؟ هذا السؤال ينتقل بنا إلى المحور الثاني.
2. مفهوم الثقافة الشعبية :
منذ القرن 16 كما ذكرنا سابقا، والثقافة ينظر إليها على أنها مرحلة راقية أو متطورة من حياة الشعوب، أي بمعنى حضارة. إذا أخذنا المجتمع البريطاني كمثال، نجد أن الفوارق الاجتماعية بين الأرستقراطية و العامة قد أنتجت ثقافتين متباينتين (ثقافة النبلاء كنقيض لثقافة العامة). و إذا عدنا إلى مسرح شكسبير، سنلاحظ كيف قام هذا الأخير بتمثل ثقافة النبلاء على أنها ثقافة القيم و المثل الرفيعة من هامليت وعطيل إلى ماكبيث، بينما صور ثقافة باقي الشعب على أساس أنها غوغائية، فظة و همجية، إلى درجة انه أدرج في مسرحياته حبكتين دراميتين مختلفتين : حبكة خاصة بالنبلاء، وحبكة خاصة بالعوام، كذلك تم تقسيم مبنى المسرح إلى جزء خاص بالنبلاء وجزء خاص بالعامة. و لما اكتشف كريستوف كولومبس أمريكا، ووجد مجموعة بشرية تدعى الهنود الحمر، كتب شكسبير مسرحية العاصفة، وهي تصور شخصية كالبان على انه همجي بجسد مشوه، متمرد يعيش بالكهوف، و يتكلم لغة رافضة. هكذا تصور المثقف البريطاني الثقافة الشعبية أو ثقافة الآخر الذي يعيش في عوالم خارج المركز الأوربي.
و حسب أنتوني ايسثروب في كتابه الأدبي في الدراسات الثقافية (1991)، أدى ظهور البورجوازية والنظام الرأسمالي إلى إعادة إنتاج هذا التقسيم إلى ثقافة الطبقات الراقية في المجتمع و الطبقات الدنيا العاملة، و مع انتشار وسائل الإعلام و تقدم التكنولوجيا من جرائد و أفلام و إذاعة و تلفزة، تعمقت الهوة بين الثقافتين. و لم يكن الأمر مختلفا تماما في الولايات المتحدة، حيث اصطلح على الثقافة الشعبية بثقافة الجماهير (mass culture) على وزن إعلام الجماهير (mass media)، أي تم ربط الثقافة الشعبية بالإعلام. و بالفعل ساد تصور على أن الثقافة العالمة هي ثقافة لا تخضع لضغوط السوق التجارية، و لكن الثقافة الشعبية هي ثقافة تجارية استهلاكية بالأساس (سنرجع إلى هذه النقطة فيما بعد). و خلاصة القول، مع تطور الإعلام أصبح الفرق بين الثقافة العالمة و الثقافة الشعبية حتميا. كيف تم تعريف الثقافة الشعبية من طرف الدارسين في هذا المجال في بريطانيا ؟ يقول أحد مؤسسي الدراسات الثقافية في بريطانيا وهو رايموند ويليامز في كتابه الكلمات المفاتيح (1976 ص: 9 – 198 ) إن لمصطلح "شعبي" أربعة استعمالات :
1. "شعبي" بمعنى محبوب من طرف الناس.
2. "شعبي" بمعنى نقيض ّللراقي" أي بسيط و دوني، و هكذا نصطلح على الثقافة بأنها تنقسم إلى ثقافة راقية و ثقافة دونية أو شعبية.
3. "شعبي" بمعنى عضوي، حيث يمكن أن نصف الثقافة الشعبية بأنها كل ما ينتجه الناس بأنفسهم ولفائدتهم، و يحتاج هذا التعريف إلى تعريف نقيض، فما هو نوع المنتج الثقافي الذي لا ينطبق عليه هذا التوصيف؟
4. "شعبي" بمعنى كل ما تنتجه وسائل الإعلام للجماهير قصد الاستهلاك، و تحقق من خلال ترويجه أرباحا تجارية مهمة، وتنشر ثقافة تسويقية هدفها تشجيع الاستهلاك، وليس الجودة ونشر الوعي السياسي والثقافي.
إن مؤدى المعنى الرابع هو أن وسائل الإعلام تعمل على نشر قيم و معتقدات تنتمي إلى طبقات اجتماعية سائدة تتحكم في وسائل الإنتاج، وتفرض تصوراتها ومعتقداتها على باقي المجتمع، لتجعل منه سوقا لترويج بضاعتها، حيث لا تقوم بتسويق منتجاتها فقط ، بل تبيع أفكارا وهمية وأحلاما طوباوية ينخرط فيها الإنسان البسيط وينساق وراءها، فيصبح مستهلكا ومروجا لبضاعة تخيلية، غير مدرك للربح الذي تحصده هذه المؤسسات التجارية من عرق جبينه. و رغم أنه يصطلح على الثقافة الشعبية باسم " ثقافة الجماهير" (mass culture) شمال الولايات المتحدة، فلقد ظلت هذه الثقافة مرتبطة بحقل السوسيولوجيا الكلاسيكية و نظريات الثقافة الشعبية المتعلقة بالتعريف الرابع السالف الذكر، لكن ظلت هناك إمكانية دائمة لاصطلاح الثقافة الشعبية على كل ما أنتجته الطبقات العاملة أو الدنيا في المجتمع. إن تعريف الثقافة الشعبية كمنتج تجاري عملت وسائل الإعلام على ترويجه و تمريره بشكل أو بآخر للجماهير لاستهلاكه، عن طريق الفرجة أو التخييل أو الدراما أو الإشهار وما إلى ذالك من ألوان إعلامية، ينتقل بنا إلى المحور الثالث.
3. نظريات التقسيم الثنائي للثقافة :
لقد تمت مقاربة ثنائية الثقافة الشعبية × الثقافة العالمة من ثلاث زوايا مختلفة، نذكر منها المقاربة الليبرالية و المقاربة الماركسية التي تنقسم بدورها إلى مقاربتين: مقاربة لوكاتشية نسبة إلى لوكاتش، ومقاربة التوسيرية نسبة إلى التوسير. يمثل المقاربة الليبرالية فرانك رايموند ليفس الذي يستمد مرجعيته من السيكولوجية الفردية وفلسفة ماتيو ارنولد الذي نادى إبان الثورة الصناعية إلى تشجيع الثقافة العالمة وتعميمها عَلى كافة شرائح المجتمع، حتى تتمكن البورجوازية الصاعدة من تمرير إيديولوجياتها والتحكم في الطبقات العاملة، عبر إيمان هذه الأخيرة بأخلاقيات العمل البورجوازي. و تعتبر هذه المقاربة للثقافة الشعبية تعبيرا عن أوهام الذات الحالمة بجميع أشكالها، فالروايات العمالية كقصص المجلات مثلا ما هي إلا تعبير عن نوازع و مكبوتات هذه الطبقات و رغبتها في تحقيق الأحلام. و من خلال هذا المنظور، تبرز الثقافة الشعبية كوسيلة لتفجير المكبوتات، أو كمتنفس يمكن للحالم أن يختبئ فيه من إحباطات الواقع. و المقاربة نفسها تعتبر الرواية العالمة أو الرفيعة شكلا من أشكال الدراسة المتأنية للواقع؛ حيث تستطيع أن تساعد قارئها على فهم واقعه و التعامل معه، لما تحمله في طياتها من أدوات علمية للدرس و التحليل. فهذه المقاربة تخلق جنسين من الأدب، جنس يبحث عن الهروب من الواقع، وجنس يفضل مجابهته والخوض في معاركه. و يتضح لنا جليا من هذه المقاربة أنها تتمسك بالتعريف الثاني للثقافة، أي هناك ثقافة رفيعة و ثقافة دونية لها علاقة وطيدة بالجانب الغرائزي في الإنسان.
و الآن ننتقل بكم إلى المقاربة الثانية و هي ماركسية في الأساس، و تنطلق من قولة ماركس و انجلز في كتابهما الإيديولوجيا الألمانية، يقولان:"تشكل أفكار الطبقات السائدة الأفكار السائدة في كل الحقب التاريخية في المجتمع" (1970، ص 64). انطلاقا من هذا التصور، اتخذت مدرسة فرانكفورت تحليل لوكاتش للثقافة البورجوازية مرجعية للتركيز على دور طرق الإنتاج في بناء الحركة الثقافية. تفضي هذه المقاربة إلى أن الفرد في ظل الرأسمالية أصبح أكثر ميلا إلى الاستهلاك من الإنتاج، و أصبح لديه وقت ثالث يعيش من خلاله على إيقاعات الإعلام و وسائله، كما أصبحت الثقافة الشعبية منتجا مفبركا للاستهلاك، بينما بقيت الثقافة العالمة في عزلة عن هذا التسويق الكثيف، نظرا لنخبويتها و مستوى تجريدها "الرفيع". يؤمن رواد هذه المدرسة بأن هذا النوع من الثقافة جعل الحركات الاحتجاجية والرافضة في جل المجالات الثقافية مزيفة، حيث تتاجر في ترويجها مؤسسات رأسمالية، وذلك ابتداء من موسيقى "الريكي" إلى الحركات النسائية و الإثنية.
تنطلق المقاربة الثالثة، و هي ماركسية بالأساس، من نظرية التوسير للإيديولوجيا، و تقر هذه المقاربة على لسان ايرنست مانديل بأن فرض الإيديولوجيا السائدة على باقي المجتمع يعتبر أمرا ضروريا، و لكنه ليس كافيا لإعادة إنتاج الحكم الطبقي، و ذلك لأنه يجب أن يتم في إطار مفاوضات و تداول بين الطبقات ، يقول مانديل: "لتحقيق الهيمنة المستبطنة لطبقة على أخرى لمدة من الزمن، فإنه حتما ومن الضروري أن يقبل أفراد الطبقات المستغلة باستغلال الأقليات للفائض الاجتماعي، وأن يعتبروا ذلك الاستغلال أمرا حتميا و دائما وعادلا" (1982، ص: 29). هناك من النقاد من يعارض فكرة الهيمنة المستبطنة، مثل أبيركومبي وهيل وتيرنر، اذ يعتبر البعض أن قبول الإنسان المقهور بواقعه ليس نتيجة تخديره بإيديولوجيا الرضوخ والانصياع، و لكن نظرا لإعاقته الاجتماعية و الاقتصادية، حيث أنه يصارع الزمن من أجل البقاء. كما أن نظرية الإيديولوجيا تعطينا انطباعا عن أن الثقافة العالمة خالية من الإيديولوجيا، بينما تشكل الثقافة الشعبية مرتعا لها، و نحن نعلم أن هذا غير صحيح، فالإيديولوجيات تخترق جميع الثقافات، وتتواجد داخل البنيات اللغوية، إذ تساهم في تشكيل نظرة الذات إلى الوجود.
لقد حاول مجموعة من المفكرين والكتاب الخروج عن المألوف في كتاباتهم ، ليعبروا الحدود الفاصلة بين الثقافة الشعبية والعالمة، فأصبحت مواضيعهم تهتم بالرجل البسيط و الرتابة اليومية للحياة ، ووضعوا بذلك اللبنات الأولى لإعادة النظر في المقنن الذي كان بشكل عام أدبا رفيعا، يهتم بقضايا النخب الحاكمة، و نسوق مثال جون لوكاري و كتاباته في أدب الرعب، بالإضافة إلى كرهام كرين و قصصه البوليسية. هكذا ظهرت أجناس أدبية جديدة و آليات و مناهج مرتبطة بالثقافة الشعبية، و ليس لدينا الوقت الكافي لسرد هذه المعطيات، و لهذا نكتفي برؤوس الأقلام لنبين التجربة الأوربية في هذا المجال:
- تطور النظريات اللسانية و الأنثروبولوجية أدى إلى تفكيك الخطاب المقنن و انفتاحه على الثقافة الشعبية التي تحمل مفهوم الثقافة بمعناها الأنثروبولوجي. لقد تحولت الثقافة من المفهوم الكلاسيكي بوصفها أداة لتنمية الفكر من آداب و فنون، إلى مفهوم وصفي يشمل كل طرق الحياة الاجتماعية و الثقافية من معتقدات و تقاليد … الخ. و منذ تطور السيميائيات و انتشار فكرة اللغة كبنية مؤسسة لشخصية الإنسان وذهنيته، ظهر كيرتز بتعريفه الرمزي للثقافة، باعتبارها نسيجا من المعاني و الرموز القابلة للتأويل؛ فالذي يعبد الحجر ليس ساذجا و جاهلا، بل إنه يمارس فعلا ثقافيا له دلالته و رمزيته القابلة للتأويل من طرف الممارس والباحث.
- تطور النظريات الماركسية في حقل الإيديولوجيا؛ حيث أصبح المرء ينظر إلى الأدب كخطاب إيديولوجي لا يمكن فصله عن ما هو ثقافي و سياسي، كما أدت هذه النظريات إلى ظهور الفكر النسائي الذي لعب هو الأخر دورا هاما في تخليص الثقافة العالمة من تجريدها المثالي، و وضعها في سياق ثقافي مادي ملموس.
 تطور علم النفس نحو اللسانيات والسميائيات ، و خير مثال في هذا المجال القراءة الرائدة لفرويد من طرف جون جان لكان الذي وضح من خلالها كيف يعمل الخطاب على إنتاج ذهنية ثقافية معينة، حيث بين أن الإنسان ليس سوى مجموعة من الضمائر اللغوية التي تختلف باختلاف الخطاب من سياق ثقافي لآخر .
- ألف رايموند ويليامز سنة 1958 كتابه الثقافة والمجتمع، حيث بين كيف أن تاريخ الثقافة هو تاريخ مؤسسات ثقافية. و لقد شهد مركز بورمينكهام للدراسات الثقافية في هذه الفترة حركة فريدة من نوعها لتدريس الثقافة الشعبية ، كما أدخلت دروس جديدة للمدارس والثانويات كالدراسات الإعلامية، و الدراسات السينمائية، و الدراسات الثقافية و التواصل. و هكذا حصلت قناعة لدى الجميع بأنه لا يمكن فهم الثقافة الشعبية بمعزل عن المؤسسات الاجتماعية التي أنتجتها أو أعيد إنتاجها من خلالها، فحتى ذلك النص الأدبي المقنن الذي كان فيما مضى يعتبر نصا خاليا من الإيديولوجيا، أصبح ينظر إليه كنص مؤسساتي له علاقة بالإيديولوجيا السائدة التي تشكل بدورها فكرا للنخب السائدة، إذ لا يمكن دراسة الثقافة دون دراسة القنوات و الطرق التي تمر عبرها من شخص لآخر، و من فئة اجتماعية لأخرى.
- بدأ الاهتمام بثقافة الآخر في إطار منظور فوكوي لا يؤمن بالأحداث والظروف التاريخية ، ولكن بنصية التاريخ وحبكته القصصية. أكد فوكو أن التاريخ أو بالأحرى الجينيالوجيا -- لأنه لم يكن مرتاحا لاستعمال كلمة تاريخ نظرا لحمولاتها الإنسناوية -- يجب كتابتها من وجهة نظر أولئك الذين يقفون على هامش التاريخ، وبالتالي فضحايا التاريخ هم ضحايا واقع و خطاب. لقد هزموا مرتين، هزموا من جراء القهر الذي مورس عليهم من طرف الحاكم، وهزموا من جراء التهميش الذي طالهم من طرف الثقافة العالمة. انتشر فكر جديد يقول إن التاريخ روايات صمت الأذان بجلجلة الغزاة و صهيل الفاتحين، فقد حان الوقت للإنصات إلى المهمشين والمقهورين و المحكومين والتابعين: يجب أن نبحث عن التاريخ في الروايات غير المدونة لضحايا التاريخ ، و هكذا بدأت ثقافة الذات المقهورة تطفو على ساحة المدارس و الجامعات.
لم يعد خفيا على أبناء الفقراء والطبقة العمالية في أوربا أن ثقافتهم، كثقافة الطبقات الراقية، جديرة بالدرس و التحصيل، فكرة أن الأدب ليس منتجا تجاريا، و أن الثقافة الشعبية فلكلور يخضع للبيع و الشراء، فكرة تقادمت و حل محلها المفهوم الماركسي " نمط الإنتاج " mode of production"؛ أي أن كل منتج ثقافي يجب أن يدرس في إطار السياق التاريخي الذي تم فيه إنتاجه و تلقيه، وهكذا تطورت الدراسات السوسيولوجية والأدبية و تداخلت.
في أواخر القرن العشرين شكك رايموند ويليامز في أطروحة ليفس بأن مفهوم الثقافة يقتصر فقط على الثقافة العالمة، فإذا كان الأدب هو ثقافة النبلاء، إذن فالثقافة الشعبية تعتبر إنتاجا للطبقات العمالية، و لقد انتقد ريتشارد هوكارت --أحد مؤسسي الدراسات الثقافية في بريطانيا-- هذا الرأي و قال إن الفعل الثقافي ليس بهذه السهولة، فلا يمكن لفئة اجتماعية أن تنتج ثقافة حرة في معزل عن أخرى، لأن هناك بنيات اجتماعية متداخلة.
لقد عمل ويليامز وهوكارت على نشر الفكر الماركسي البنيوي كمنهج لمقاربة الثقافة الشعبية، و لقد لفتت الماركسية نظر الدارسين إلى إبدال جديد "New paradigm" و هو دراسة أنماط إنتاج الثقافة الشعبية واستهلاكها، كما ساعدت الماركسية البنيوية على فهم النص في إطار علاقته بالإيديولوجيا السائدة، أي في علاقته بالبنيات والمؤسسات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية التي ساهمت في إنتاجه ، وكذلك التي تساهم في استهلاكه، حيث كان الأمر مقتصرا في الماركسية التقليدية على دراسة أنماط الإنتاج فقط، مع إغفال الحتمية اللغوية. لقد خلصت أبحاث هوكارت إلى أن الثقافة الشعبية ليست إنتاجا ثقافيا مستقلا عن الطبقات العمالية، و لكن هي بمثابة مجموعة من المعاني و الرموز التي تستبطنها هذه الطبقات حين يتم توزيعها من طرف مؤسسات إيديولوجية تتحكم فيها السلطة الاقتصادية. و هنا نعود إلى أطروحة الهيمنة المستبطنة السالفة الذكر، فنجد أنفسنا بين أطروحتين متناقضتين: فكر شعبي رافض من إنتاج الطبقات العمالية، و فكر شعبي مدجن، لأنه استبطن إيديولوجيات اقتصادية وسياسية معينة موجهة من طرف مؤسسات ثقافية / إيديولوجية كالإعلام.
لقد وصل الوضع الراهن في إنجلترا إلى ظهور جامعات يسارية تدرس الثقافة الشعبية لتعلن عن إيديولوجيا جديدة، إيديولوجيا التضامن مع الإنسان المقهور، و لقد ولج هذه الجامعات كجامعة Essex مثلا طلبة من نيكراكوا، وكولومبيا، ونيجيريا، و ماليزيا و دول أخرى من العالم الثالث كالمغرب، و هذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن مشروع الدراسات الثقافية في بريطانيا هو مشروع مجتمعي موجه بالخصوص إلى الطلبة الأجانب الذين سافروا إلى أوربا، تاركين وراءهم زخم ثقافة شعبية ترزخ تحت وطأة أنظمة شمولية استبدادية، ذلك هو حال ثقافتنا الشعبية في الماضي البعيد والقريب. لقد طالها تهميش إن لم نقل اجتثاث قصد الحفاظ على مشروع الدولة، و كأن الثقافة الشعبية نقيض لهذا المشروع. عند هذه النقطة بالذات نقف لنتساءل حول ما وقع في مغرب ما بعد الاستقلال. ( نحن لا ندعي أن المغرب الوسيط كان أفضل حالا مما هو عليه الآن ).
4. أسئلة حول مصير السياسة الثقافية واللغوية بالمغرب
كيف إذن آل مصير نظير هذا المد الماركسي الأوربي في المغرب، مع العلم أن الماركسية الأوربية قامت بزعزعة خصومها الرأسماليين على مستوى أعلى هرم في السلطة الاقتصادية والسياسية ؟ إذا عدنا بعقارب الساعة إلى الوراء، ووقفنا لنتأمل واقع حال الجامعة المغربية في الماضي القريب خلال السبعينيات والثمانينيات، سندرك ما وقع لها، و بما أننا لا نود الخوض في تفاصيل ما حصل، فإننا نكتفي بالقول إن الفكر الماركسي تمت محاربته بشتى الطرق كالقمع التعسفي و الاعتقالات و المنع، بل تم تهميش الفلسفة بمنع انتشارها في الكليات، و تم إنشاء بديل يتجلى في شعبة الدراسات الإسلامية، كذلك تم إقبار معهد الدراسات السوسيولوجية في الرباط، وتشتيت هذا العلم إلى معارف جزئية وتقنية عبر مجموعة من المؤسسات، مما منع من تشكل هذا العلم باعتباره مؤسسة قائمة بذاتها. و يبدو أن هناك علاقة إقصاء بين الثقافة العالمة والشعبية في المغرب، و يتجلى هذا الإقصاء في المظاهر التالية:
-انتشار إيديولوجيا مخزنيه اختزلت عملية التربية و التعليم في تلقين معارف و علوم مجردة من البيئة المغربية المعيشة والسياق السوسيو-اقتصادي والتاريخي المحدد لوجودها، و تلك المعارف التي ارتبطت بهذا السياق كانت غالبا ما تعمل على تكريس المنظومة السلطوية بأشكالها المختلفة، أما بخصوص الخطاب الرافض و الذي كان نادرا و مشتتا فكان مصيره القمع و التبخيس ( الخبز الحافي لمحمد شكري، و كتابات المرنيسي على سبيل المثال). و حتى بالأمس القريب، كان رجل التعليم يشكل بطل النكتة المغربية التي تمثله في صور مضحكة ساخرة.
- انتشار ثقافة دينية عالمة (و مما زاد الطين بلة، عدم تنوع المذاهب الدينية في المغرب، انظر على سبيل المثال التجربة التونسية) حيث خطأت هذه الثقافة جميع أشكال التدين الشعبي، بينما وجب تفكيك الرموز الثقافية و قراءتها قراءة علمية. و اعتبرت الثقافة الدينية السائدة هذا النوع من الممارسات إسلاما خاطئا و رفضته، و رفضها لهذا الإسلام لم يغير من واقع الأشياء.
-تم اختزال الثقافة الشعبية في مفهوم الفلكلور، أي منتجات ثقافية تسوق لتسلية البورجوازية و السياح، في حين أن الثقافة الشعبية ثقافة عضوية تعبر عن هموم الشعب وطموحاته، وهي بمثابة سلوك سوسيولوجي منبثق من البيئة الاجتماعية التي تنشأ فيها حيواتنا و هوياتنا وذواتنا، كما أن هذه الثقافة بمعانيها و أفكارها ورموزها هي التي تحدد نوع اللغة التي تشكل ذهنية الفرد داخل المجتمع. فإذا كانت هذه الثقافة أسطورية و خرافية، فبالتالي ستنتج معان و أفكارا و تعابير خرافية و أسطورية تشكل ذهنية ذلك الفرد. نسوق إليكم مثال الاعتقاد في استحواذ الجن على الإنسان والتحكم في أفكاره وسلوكه، فبعد دراسة مستفيضة لهذه الظاهرة في المغرب، رفقة عدد من الباحثين الأجانب، توصلنا إلى خلاصة مفادها أن الامتلاك الجني شكل من أشكال المقاومة والاحتجاج، لأنه يعبر عن إحباطات فئات اجتماعية تعاني أشكالا مختلفة من الهيمنة. كما تظل هذه الممارسات الغيبية شكلا مقبولا اجتماعيا، مادامت لا تؤذي النظام الاجتماعي، وهي تشكل قناة من قنوات التفريغ وتحرير الذات من القيود لفترة وجيزة، تتم بعدها العودة بحيوية ونشاط إلى رتابة الحياة اليومية بشتى أشكالها من خنوع وطاعة وتسليم بالقدر. ومن أهم خلاصات هذه البحوث أن الإنسان البسيط ليست له القدرة على استيعاب القوى الهيكلية التي تحدد هويته ومسار حياته من خلال تمثلاتها التجريدية، ولهذا يختزل هذه القوى في كائن جني لطيف–عنيف-- ذي تمثل ملموس ومقبول-- يتمكن من صرعه ومحاورته وإبرام عقد هدنة معه إلى حين (انظر محمد معروف وبول ويليس 2010 "الروح الإسلامية للرأسمالية"، 2015 "الربيع العربي في المغرب" ، ومعروف 2010 "الأولياء والعدالة الاجتماعية في المغرب: نموذج اثنوغرافي للمحكمة الأسطورية لسيدي شمهاروش"، 2007 طرد الجن باعتباره خطابا للسلطة في المغرب).
إذن فإشكالية الثقافة العضوية للشعب ليست بالأمر السهل، و تحتاج إلى وقفة للتأمل في مسارها، لأن السؤال العريض الذي يطرح نفسه علينا هو: ما نوع الهوية الثقافية، وما نوع مشروع المواطنة الذي نسعى إلى تكوينه عن طريق التربية و التعليم؟ هل نبحث عن ترسيخ الإحساس بالانتماء وتوطينه، أم نبحث عن إظهار ولاءات للمؤسسات الحاكمة، أم عن الشعور بالامتنان والوفاء للسلطة الأبوية، أم عن الارتباط بالأرض (البلاد jus soli)، أم عن العصبية (الانتماء إلى القبيلة—الدم jus sanguinis)؟ ما نوع السياسات اللغوية و الثقافية التي يطرحها مغرب العولمة؟ كيف يستطيع المغرب، باعتباره مؤسسات، إعادة بناء ثقافة رئيسية تضم جميع الروافد العضوية لمكونات هذه الثقافة من امتدادات جهوية وأمازغية وحسانية؟ هل تتوفر الدولة على تراكم علمي يمكنها من مجابهة إشكالية تدريس هذه الثقافات، وتدريس اللغة العامية بما فيها الأمازيغية، ليس فقط في المستوى الجامعي، بل كذلك في المستوى الأولي والثانوي ؟ يجب أن نطمئن أصحاب السليقة أنه لا خوف على مصير الفصحى، باعتبارها لغة القرآن و الدستور و الإدارة الحكومية في ظل مشروع تدريس اللغات المحلية ، لان البحث في هذه اللغات سيغني معاجمها، ويكيف بنياتها مع متطلبات المجتمع وحاجياته.
هذه أسئلة تظل مطروحة للدرس والبحث، لكن نرى أنه من الضروري في الفترة الراهنة الإلمام بآليات و مناهج جمع الثقافة الشعبية وتحليلها. إنه لا مناص للجامعات المغربية التي تتوفر على مسالك في العلوم الإنسانية من مأسسة مناهج البحث الاثنوغرافي والانثربولوجي في تخصصاتها، لكي تتمكن من جمع هذا التراث بمختلف تشعباته ، ووضعه تحت مجهر تتلون عدساته ونظرته للواقع بتلون النظريات العلمية. هل سنبقى دائما في حاجة إلى "مستشرقين" من أمثال بول باسكون --السوسيولوجي المناضل-- لإنشاء حركات ومراكز لدراسة المجتمع والثقافات المحلية؟
بدون اعتماد البحث الاثنوغرافي و الأنثروبولوجي، لن يتمكن المغاربة من تدوين ثقافتهم و فهم ذواتهم ولغاتهم، و من أجل إنجاز دراسات علمية جادة حول الثقافة الشعبية، لابد أن يطلع الباحثون المغاربة على ما قدمه الدارسون في الغرب من آليات و مناهج لدراسة الثقافة الشعبية، لأنهم كانوا سباقين إلى اقتحام هذا المجال ، و حققوا نتائج هامة في دراساتهم مكنتهم من خلق إبدال جديد حول النظريات الثقافية. متى سيأتي ذلك اليوم الذي ستدخل فيه العيطة والحضرة وأحواش والراي والغيوان وأغاني خربوشة، والحلقة، والتبراع الحساني والزجل والحكاية الشعبية والأمثال والسبع بوالبطاين او بالمون عند الأمازيغ، والتغنجة والعنصرة وعاشوراء ورمضان والأعياد وميمونة والكديدة وحليلو وتكشبيلة (من أغاني المورسكيين) وباقي العوائد والمعتقدات والطقوس والممارسات السحرية البرامج الأكاديمية في الجامعة المغربية؟ انه لمن المفارقات الصارخة أن ترى هرولة أكاديمية نحو برامج دخيلة مستنسخة من دراسات أدبية وإعلامية ، لا لشيء إلا لأنها قذفت بها رياح عاتية من مناخ العولمة الغربية ، وتخجل من وضع الثقافة العضوية للشعب تحت المجهرالأكادمي. نحن لا ننكر على الغرب تقدمه العلمي، لكن نحن في حاجة إلى استعارة تأملية تراجع الأسس النظرية للمناهج ، وتعمل على تطويرها لتكييفها مع الواقع المحلي القديم/ الجديد. ولا يفتونا في الأخير أن نثني على كل مجهود أكاديمي، سابق الزمن وخاض معركة البحث و الإشراف على بحوث من هذا النوع لإحداث تراكم علمي سيذكره التاريخ، إذ لا يعقل أن حفنة صغيرة من السوسيولوجيين المغاربة رغم ما أنجزه الكثير منهم من بحوث جادة في هذا الصدد هي المنوط بها البحث في مواضيع كهذه . هذا مشروع ضخم يجب أن تجند له طاقات كبيرة، و يتطلب موارد مادية وبشرية ومؤسسات وتكوينات توجه الأبحاث في هذا الاتجاه. إن مشروعا كهذا سيعمل على تطوير المنتج الثقافي والاقتصادي المرتبط به، ويمكننا من فهم ذواتنا وهوياتنا ، وإعادة بناء ثقافاتنا على مبادئ تعطي للمواطنة أبعادا ثقافية جديدة، و بفضل هذا المشروع أيضا، قد نستطيع صياغة ولاءات وروابط اجتماعية جديدة نوطد بها نسيجنا الاجتماعي.
- أستاذ بجامعة شعيب الدكالي - الجديدة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.