تعددت التعريفات التي قدّمها الدارسون لمفهوم الثقافة الشعبية في الدراسات النقدية، ما جعل البحث فيها يتطلب جهدا مضاعفا لكي يستطيع النقد أن يحيط بها جميعا. الباحث الإنكليزي جون ستوري أستاذ الدراسات الثقافية بجامعة سندرلاند، في كتابه ?النظرية الثقافية والثقافة الشعبية?، الصادر عن مشروع كلمة بأبوظبي، ومن خلال جهد أكاديمي رصين يقدم دراسة شاملة عن النظرية الثقافية، كمدخل لفهم العلاقة القائمة بين الدراسات الثقافية والثقافة الشعبية. وترجم الكتاب الباحثان صالح أبوأصبع وفاروق منصور. يطرح جون ستوري في كتابه ?النظرية الثقافية والثقافة الشعبية?، على المستوى النظري منذ البداية عند دراسته لمفهوم الثقافة الشعبية مشكلة تحديد معنى جامع له، بسبب الطريقة التي يستخدم فيها، وسياق الاستعمال الخاص به، ولذلك يقترح الباحث تعريف مفهوم الثقافة أولا، فيقدم ثلاثة تعريفات بناء على اقتراح الباحث وليامز أولها التعريف الذي تتمّ فيه الإشارة إلى عملية التطور الفكرية والروحية والجمالية، بينما يعني التعريف الثاني أنها طريقة حياة محددة وهي تعني ثالثا النصوص والممارسات الرئيسية الدالة على المعنى أو على إنتاجه أو مناسبة إنتاجه. الأيديولوجيا كمفهوم حاسم يرى ستوري أن من ضرورات البحث تناول مفهوم الأيديولوجيا قبل البحث في مفهوم الثقافة الشعبية، نظرا لدوره الحاسم في مجال هذه الدراسة. وكما هي حال مفهوم الثقافة من حيث تعدّد الدلالات، فإن لمفهوم الأيديولوجيا معاني ودلالات متعددة تبدأ صعوبة تحديدها عندما تستخدم للدلالة على الثقافة الشعبية نفسها، ما يجعلها مصطلحا هاما لدراسة طبيعة هذه الثقافة. في هذا الإطار يقدِّم الباحث خمسة تعريفات مختلفة يخلص منها إلى استنتاج أن الثقافة والأيديولوجيا تشملان إلى حدّ كبير المشهد المفهومي نفسه، لكن ما يميز الأيديولوجيا هنا، هو ما توحي به من بعد سياسي بحيث توحي بأن دراسة الثقافة الشعبية، هي أكثر من مناقشة أسلوب الناس في الحياة. ويعترف الباحث بأن كتابه هو محاولة جزئية لتعريف هذه الثقافة، وذلك من خلال المقاربات النقدية المختلفة التي عملت على تثبيت معناها، الأمر الذي يجعله يتوقف عند ستة تعريفات لهذه الثقافة، يبدؤها أولا من حيث تعريفها بأنها الثقافة التي يرغب فيها ويحبها الكثير من الناس نقطة انطلاق، بينما يحاول في مستوى آخر القول بأنها الثقافة المتبقية بعد أن تمّ إقرار ماهية الثقافة الرفيعة. أو القول بأنها الثقافة الجماهيرية المعدّة لاستهلاك جماهيري واسع، يجعل منها ثقافة تجارية ميئوس منها، لأنها منتجة على نطاق واسع للاستهلاك الجماهيري، في حين أن هناك من يرى أنها عالم لحلم جماعي أو أشكال من الخيال العام. تشترك هذه التعريفات على تنوّعها في حقيقة واحدة، هي أن الثقافة قد انبثقت في مرحلة ما بعد التصنيع والعمران، ولذلك يسعى الباحث في هذا الكتاب إلى الالتزام بهذا التعريف لأنه يظل في إطار النظرية الثقافية. الثقافة والحضارة يحدد ستوري مجال الدراسة في هذا الكتاب بالبحث في التنظير الذي قاد المنظرين الثقافيين إلى استكشاف الأرض المتغيرة لهذه الثقافة، والمناهج النظرية التي اعتمدها هؤلاء في دراساتهم، بغية تعريف القارئ بالطرق المختلفة التي تمّ التعامل من خلالها مع هذا المفهوم، وما انتهى إليه في ضوء هذه الأبحاث. وفي هذا السياق يبحث في تاريخ هذه الثقافة الذي شكل القرن التاسع عشر لها بداية التغيير الجوهري في علاقتها بالسياسي، بعد أن خسر من هم في السلطة وبصورة كبيرة وسائل السيطرة على ثقافات الطبقات التابعة في ضوء مساهمة التصنيع والعمران في صناعة ثقافة شعبية، نجم عنها انفصال حاسم عن الثقافة الشعبية التي كانت سائدة. ويربط تاريخ ظهور دراسة الثقافة الشعبية في العصر الحديث بالأعمال التي قدمها ماثيو أرنولد، والتي أسست طريقة خاصة لرؤية هذه الثقافة ووضعها داخل المجال العام للثقافة تحت مسمى الثقافة والحضارة. أما في الولاياتالمتحدة فقد انخرط المفكرون هناك بعد سنوات العقد الأول، الذي تلا الحرب العالمية الثانية في مناقشة مفهوم الثقافة الشعبية، الذي تعرض لمواقف متضاربة توزعت على رفض القول بأن أميركا هي أرض هذه الثقافة، أو الادّعاء بذلك، والمطالبة بأن يتولى المفكرون الأميركيون قيادة العمل على بناء أرقى ثقافة شعبية عرفها العالم. يحاول ستوري عبر تناوله لأعمال مجموعة من الدارسين صدرت في أواخر خمسينات القرن الماضي وبداية ستينياته أمثال هوغارت وريموند وليامز وتومبسون وستيوارت هول أن يكشف عن النصوص التي أسست لظهور النزعة الثقافية، والدور الذي لعبه كل واحد منهم في مجال الدراسات الثقافية، لا سيما وليامز الذي كان أكثرهم تأثيرا من خلال إسهامه في تحديد كيفية فهم النظرية الثقافية، أو في تقديم تعريف ديمقراطي للثقافة. لقد تناول منظرو النزعة الثقافية النصوص والممارسات الثقافية بهدف إعادة هيكلة التجارب والقيم لمجموعات شعبية أو لطبقات أو مجتمعات كاملة، من أجل تحقيق فهم أفضل لحياة من عاشوها، وكان لمساهمات هؤلاء المنظرين والافتراضات الأخرى للنزعة الثقافية دورها في قيام الدراسات الثقافية ببريطانيا، وفي وضع النزعة الثقافية من خلال علاقات معقدة أو متناقضة في الغالب مع المذهب البنيوي الفرنسي، ما استجلب قيام حوار نقدي بين النهجين مع التطورات، التي شهدتها الماركسية الغربية في أعمال ألتوسير وغرامشي، والتي نشأ عنها ما بعد التخصصات في الدراسات الثقافية البريطانية. الماركسية والثقافة يميز ستوري بين مرحلتين من تاريخ الماركسية ومفهومها للثقافة، هما المرحلة الكلاسيكية التي ترى أن النصوص والممارسات يجب أن تدرس وفقا لعلاقاتها بالأوضاع التاريخية لإنتاجها، وهو ما يجعل الماركسية تختلف عن المناهج التاريخية الأخرى للثقافة بسبب إصرار هذا النهج على أن فهم وتفسير الثقافة الجماهيرية يتطلب وضعها في لحظتها التاريخية، من حيث الإنتاج وشروط الأحوال التاريخية التي أنتجت ذلك. أما مدرسة فرانكفورت فقد صاغت على يديْ منظريْها أدرنو وماكس يوركهايمر مفهوم صناعة الثقافة للتعبير عن منتجات الثقافة الجماهيرية، والتي يؤكدان على أنها تتميز بميزتين هما التجانس والتماثل، بحيث يمكن توقعها. وتذهب هذه المدرسة إلى القول بأن الثقافة الشعبية تحافظ على السلطة الاجتماعية، وأنها نظام يصعب تحديه، وقد وجد أعضاء هذه المدرسة أن استيعاب صناعة الثقافة لم يكن ناضجا من الناحية التاريخية، ففي حين يقوم بالتأسيس للمساواة الثقافية، فإنه يحتفظ بالسيطرة، وعليه فإن جعل الثقافة ديمقراطية ينشأ عنه حجب المطالبة بالديمقراطية الكاملة، لأنها تعمل على استقرار النظام الاجتماعي القائم. وبينما يربط أدرنو بين كيفية إنتاج النص الثقافي وطبيعة استهلاكه وأهميته، فإن والتر بنجامين يؤكد أن المعنى يظهر في لحظة الاستهلاك، بينما تتحدد الأهمية وفقا لعملية الاستهلاك وليس لنمط الإنتاج. وبينما تدين الثقافة والحضارة الثقافة الجماهيرية لأنها تهدد المعايير الثقافية والسلطة الاجتماعية، فإن مدرسة فرانكفورت تهاجم الثقافة الجماهيرية باعتبارها تهدد المعايير الثقافية وتنزع الصفة السياسية عن الطبقة العاملة، بحيث تجعل القبضة الحديدية للسلطة الاجتماعية قائمة. يكشف الباحث عن التأثير الكبير للويس ألتوسير على النظرية الثقافية والثقافة الشعبية، من خلال مساهماته في حقل مفهوم الأيديولوجيا، التي هي الأكثر أهمية، ما يجعله يتوقف عندها بدءا من رفضه للفهم الميكانيكي لصيغة العلاقة بين البنية الفوقية والبنية الدنيا، التي يستبدلها بمفهوم التكوين الاجتماعي، فيقدم ثلاثة تعريفات للأيديولوجيا يفيد اثنان منها في دراسة الثقافة الشعبية، وهما اعتبار الأيديولوجيا نظاما خاصا للتمثيلات وأنها تشكل العلاقات المعيشة للفرد في التحول الاجتماعي بشكل يجعلها تبدد التناقضات في التجربة المعيشة. إن الأيديولوجيا عنده هي نظام مغلق، يجعلها بتحديدها للمشكلات قادرة على الإجابة عنها. كذلك فإن الأيديولوجيا عنده تشكل تمثيلا للعلاقات التخيلية للأفراد بالأحوال الحقيقية للوجود. ويبين الباحث تأثير هذا التعريف للأيديولوجيا على الدراسات الثقافية والثقافة الشعبية. أما بالنسبة إلى غرامشي فإن مفهوم الهيمنة يحتل موقعا مركزيا في الدراسات الثقافية بوصفه مفهوما سياسيا قام بتطويره، لكي يفسر به غياب الثورات الاجتماعية في الديمقراطيات الرأسمالية في الغرب. إن مفهوم الهيمنة عند غرامشي رغم ما يدل عليه من وجود درجة كبيرة من الإجماع، فإنه لا يعني أن المجتمع قد تمت فيه إزالة كل أشكال الصراع. وتقوم نظرية الهيمنة على اعتبار الثقافة الشعبية هي كل ما يصنعه الرجال والنساء خلال الاستهلاك الفاعل لنصوص وممارسات الصناعات الثقافية، ولذلك لا تعدّ الثقافة الشعبية تعطيلا للتاريخ أو ثقافة مفروضة من التلاعب السياسي، ولا علامة على التراجع والاضمحلال الاجتماعي. الأدب الشعبي يوضح ستوري ما حاول تبيانه حول العلاقة بين النظرية الثقافية والثقافة الشعبية، لا سيما ما يتعلق منه بالقضايا المنهجية والنظرية ومضامين العلاقة، وفي هذا الصدد يستعرض ما قدَّمه عدد من الدارسين من نقد إلى الدراسات الثقافية الخاصة بالأدب الشعبي، سواء على صعيد فصلها عن الاقتصاد السياسي، أو فشلها في وضع مفهوم الاستهلاك ضمن الظروف المحددة للإنتاج. كما يقدّم رؤية عدد آخر من الدارسين تحدد المجال الثقافي باعتباره موقع صراع متواصل بين إستراتيجية الفرض الثقافي وتكتيكات الاستخدام الثقافي أو الاستهلاك، الأمر الذي يتطلب من الناقد الثقافي التمييز بين الإنتاج والإنتاج الثانوي المودع في عملية الاستغلال. وإذا كان التحليل المقدّم من قبل الاقتصاد السياسي يتناول بداية عملية صنع الثقافة، فإن نظرية الهيمنة ما بعد الماركسية تؤكد على وجود حوار دائم بين عمليات الإنتاج ونشاطات الاستهلاك.