إعادة تركيب ذاكرة هدمت استمرارها المادي "جرافات الاحتلال الإسرائيلي" شهد عليها جمهور مغربي بالرباط، وقدمها مؤرخان، أحدهما فلسطيني والآخر فرنسي، قدمت مضامين كتابين لهما حول "حارة المغاربة" بالقدسالمحتلة. وشهد اللقاء، الذي نظمته مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد بقاعة محمد باحنيني بالعاصمة، مساء الأربعاء، حضور شخصيات؛ مثل المستشار الملكي أندري أزولاي، وعبد الجليل لحجمري، أمين سر أكاديمية المملكة، ومحمد الأشعري، وزير الثقافة السابق، وفتح الله ولعلو، وزير الاقتصاد والمالية السابق، ومحمد كنبيب، رئيس المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، المؤرخ المعطي منجب، والباحث أحمد عصيد، والدبلوماسية الفلسطينية ليلى شهيد، زوجة الناقد والروائي المغربي محمد برادة. "جريمة وكذبة دولة" المؤرخ فانسان لومير وسم ما حدث لحي المغاربة، الذي عمر ثمانية قرون قبل أن تهدمه الجرافات الإسرائيلية سنة 1967، بكونه "جريمة وكذبة دولة". وقال المؤرخ ذاته إن ما حدث تتجدد راهنيته مع "ما حصل أمس"، في إشارة إلى اقتحام وزير إسرائيلي متطرف ساحة المسجد الأقصى. فانسان لومير، الذي أثنى في بداية مداخلته على حضور أزولاي وليلى شهيد في الصف الأول للقاء جنبا إلى جنب، تأرجحت كلمته بين "الانتصار للحقيقة التاريخية" و"حفظ حق أن يشعر كل بما يشعر به تجاه الحقائق التي هي دور المؤرخ". ورفض المؤرخ "الأسطورة الإسرائيلية" حول أن هدم "حي المغاربة" نتيجة ظهور "بعض المقاولين الذين قرروا أن يهدموا الحي، بمشاركة عسكريين إسرائيليين"، وتابع: "هذه الخرافة لا يمكن أن يصدقها أي مؤرخ، لا يمكن تدمير حي تاريخي دون قرار سياسي". وأفاد بأن "الأرشيفات لا ينتجها مؤرخون، ولا تنتج لهم، ولا يوجد قرار رسمي مؤرشف حول هذا التدمير؛ فلا يمكن، إذن، الاعتماد عليها في كل شيء"، لكن كشف المؤرخ ما وجده من أرشيفات في مؤسسات إسرائيلية أخرى "توثق الهدم، وتهجير 800 شخص، وتدمير منازلهم وما يضمه الحي"، وتوثق لقاء رسميا يحدد الأولويات يومين قبل تدمير الحي في أرشيف "الأشغال العمومية"، وأرشيفات أخرى مثل الأرشيف الدبلوماسي الذي وجد فيه حديثا عن "تبرير الهدم" أمام المنتظم الدولي برواية أن "حي المغاربة هامشي، ويشكل خطرا على السكان، وسبب تدميره هو حمايتهم". كما تحدث عما وجده في الأرشيف من مبادرة مغربية في سنة 1975، بعدما "كتب سكان الحي للالة مليكة أخت الملك الحسن الثاني، وكتبت للصليب الأحمر العالمي"، وهو ما نتج عنه بعد 8 سنوات من الهدم "تحقيق واسع، يوجد أثره في أرشيفات الصليب الأحمر". ومن بين المصادر كذلك "شهود يتذكرون ما حدث من تدمير بوضوح تام، فقد كان عمرهم عند تدمير الحي 15 سنة". وتطرق المؤرخ إلى "المحدودية" التي لمسها عندما أراد "الوصول إلى الأرشيفات في القدس"؛ لأنها "قد تكون مصدرا لمحاججة حقوق"، وهو ما يحتاج "ثقة مؤسسات، لأن الأرشيفات لا تنتج للمؤرخين"، قبل أن يستدرك قائلا: "جواز سفري الفرنسي الأوروبي يتيح لي الولوج إلى أرشيفات لا يمكن لزملائي الفلسطينيين ولوجها في القدس الغربية، ولا يمكن لزملائي الإسرائيليين ولوجها في القدس الشرقية". وأثنى المؤرخ على مشروع "Open Jerusalem" الممول من الاتحاد الأوروبي "مجلس الأبحاث الأوروبي ERC" وحيا "شجاعتهم لأن في هذا مخاطر ليس فقط علمية بل سياسية أيضا". وعاد المؤرخ إلى هذا الحي "الذي لم يكن كبيرا جدا، وكانت فيه أماكن للرعاية ومساجد وزوايا، وقطنه حجاج مسلمون من المغرب والجزائروتونس حاليا، وكانت به مدارس ل"القانون المالكي"، وعرف استمرارية لثمانية قرون، مع امتلاكه وقفا كانت مداخيله تستعمل في التدريس والتطبيب واستقبال الحجاج". رغم هذا التاريخ الطويل، قال المتدخل: "لم يكن هناك تقريبا شيء حول تاريخ حي المغاربة عندما بحثت عن ظروف تدميره"؛ لكنه حين عاد إلى أرشيفات الأوقاف بالقدس بين القرنين ال12 وال20 وجد أثره "في جميع أرشيفات الأوقاف بالقدس، وغيرها، وكان منه قضاة كبار في محكمة القدس الكبيرة، وكان منهم فاعلون كبار في المجتمع المقدسي، ونجد بين ألقابه المغربي والفاسي والتونسيوالجزائري (...) وكانت لهم قيمة كبيرة، ويحتلون مناصب ثقة. كانوا حراسا، ومجتمعا صغيرا، خلقوا مجالا مغاربيا صغيرا، ولم يكن حيهم حيا هامشيا كما تقول الإسطوغرافيا الإسرائيلية، التي اعتبرته حيا عشوائيا (Bidonville)". وتحدث المؤرخ عما كان يهدد الحي منذ عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين وما عرفه من مقاومات "قانونيا وشرعيا"، لأنه "وقف له صفة دينية"؛ لكن التهديدات "صارت مضبوطة أكثر فأكثر"، من أجل "تكبير مجال الصلاة قرب الجدار الغربي"، إلى أن صار وقف الحي "إسرائيليا" في سنة 1948، وهنا "توقفت مداخيله، وصار الحي مفلسا عمليا. وإن الإمبراطورية الفرنسية، قبل سيرورة التخلص من الاستعمار، قالت إنها ستحمي الأماكن المقدسة الإسلامية مثل المسيحية؛ فوفرت، بدعوة من الأستاذ البارز لوي ماسينيون ووزير الخارجية روبير شومان، حماية فرنسية للحي المغاربي، من أجل "جعل فرنسا قوة مسلمة بل وإسلامية"؛ وهو أمر مثير في ظل النقاش الفرنسي الحالي". لكن "بعد الاستقلالات، فقد الحي هذه الحماية الفرنسية، وتدمير الحي كان مبرمجا بعد آخر استقلال هو استقلال الجزائر سنة 1962، عقب استقلال تونس والمغرب". ونبه المؤرخ إلى إمكان تدخل المغرب عبر علاقاته مع إسرائيل للتأثير على مستقبل ما تبقى من مبان من حي المغاربة؛ لأنه في أسفل القدس ما تزال هناك منازل محفوظة، و"يجب أن تحفظ وترفق بلوحات تحكي تاريخها وتاريخ الحي. وحتى يكون هناك تعايش ممكن نحتاج اعترافا بالتاريخ". "لن ننسى المكان وسكانه" نظمي الجعبة، مؤرخ فلسطيني، ذكر، من جهته، أن كتابة كتابه قد تأخرت "عقدين من الزمن؛ لأن الصدمة تدوم مدة، وقد لا يشفى منها الإنسان؛ فعلاقتي بحارة المغاربة عضوية ومعقدة، وقصة شخصية، ومسقط رأسي على بعد مائة متر من الحارة، ودكان والدي كذلك، ومدرستي الأولى الابتدائية كانت على الجدار الشمالي للمسجد الأقصى، وكانت الحارة ممري اليومي وملعبي وجزءا أساسيا من طفولتي، وكنت شاهد عيان على التدمير". وأضاف الجعبة: "أعرف من كانوا يعيشون في حارة المغاربة، وكان الكتاب محاولة لاستحضار الناس والمكان والدمج بينهما، لأنه لا فرق بينهما، فقد شكلا معا تاريخا متكاملا، وذاكرة تراكمت عبر قرون طويلة، منذ إذن صلاح الدين الأيوبي". ومع تفسيره علاقة المغاربة بالقدس بكونها "أعمق" من المشاركة في جيش صلاح الدين، ف"تقديس الحجة بدأ لدى المغاربة قبل المشارقة، قبل الفترة الأيوبية بكثير، ودرس من الأندلس وشمال إفريقيا عديدون في المدينة، وطلب بها العلم آخرون، ثم جاء النضال لتحرير القدس من يد الفرنجة، والإقامة طويلة الأمد والاندماج مع السكان". هذا التراكم جعل "التراث المغاربي جزءا لا يتجزأ من التراث العمراني والنسيج السكاني للقدس، سواء كان مؤقتا أو دائما.. وهكذا كانت العلاقة غير منقطعة؛ فمثلا أكراد القدس فقدوا الاتصال بالوطن الأم. أما المغاربة فكان التجدد دائما والعلاقة مع الوطن الأم مستمرة، بل إن الوجود المغاربي في فلسطين لم يقتصر على القدس، بل امتد إلى مدن وقرى فلسطينية أخرى"، وهو ما سبق أن أصدر نظمي الجعبة حوله كتابا نشره "بيت مال القدس". وزاد المؤرخ: "سجلات المحكمة الشرعية بالقدس منذ الفترة العثمانية، توثق 370 سنة إلى نهاية القرن التاسع عشر، ومئات من وثائقها عن المغاربة في القدس، ونستطيع رسم شجرة المغاربة، والأوقاف، ومن أوقف، ولا يخلو أسبوع دون وجود سجل أو وثيقة طيلة مئات السنوات. وهذا في حاجة إلى جهود جبارة للدراسة والتحليل، ويمكن فيها تتبع هذا الوجود دون توقف، وإعادة التركيبة الاجتماعية والاقتصادية والعرقية". وقال المؤرخ إن هدفه من الكتاب "كان عدم نسيان المكان، الذي مسح في 48 ساعة عن الأرض"، ثم استرسل قائلا: "صراعنا مع الحركة الصهيونية هو صراع أيضا مع الجرافة الإسرائيلية التي اقتلعت أكثر من 500 قرية فلسطينية بعد سنة 1948، مسحوها عن بكرة أبيها ولم يبقوا منها شيئا، فتجريف المكان جزء أساسي من الاستراتيجية الصهيونية لفض العلاقة بين الإنسان والمكان، وتغيير مشهديته ليستطيعوا محوه من ذاكرة الإنسان، لكن من حسن الحظ أن الجيل الذي تجرع الهزيمة استطاع أن يستحضر المكان الآن". وتابع: "خلقت مدينة ما تحت المدينة، فمحاولة تهويد القدس القديمة فشلت، وما زالت المدينة القديمة، وهي جوهر الصراع، مدينة عربية، ولا يحتاج في ذلك زائرها دليلا؛ لأن 90 في المائة من سكانها لا يزالون عربا، فلجؤوا إلى حفر أنفاق تحتها تقدم فيها رواية جديدة متخيلة عن الرواية اليهودية المتخيلة، وهذا أقرب إلى المسرحية الخيالية، لكن السائح الغريب لا يعرف كل هذا الصراع على الرواية، فيجرع العالم حقنة من المعلومات لكسب تعاطفهم وتأييدهم". الأكاديمي الفلسطيني، الذي شارك في المفاوضات مع إسرائيل، لم يعد يؤمن بإمكان حل الدولتين؛ ف"لا أغلبية في إسرائيل تؤمن بحل الدولتين، هذا تضليل، مشروع الحل مشروع أممي، وافق عليه أغلبية من الفلسطينيين، لكنها أغلبية تلاشت تدريجيا بفعل عظم الاستيطان الصهيوني، لا حل للدولتين والأرض تسحب يوميا من تحت أقدامنا، وقتل (في هذه الفترة القصيرة) مئتان من الفلسطينيين من بينهم 47 طفلا، وآخرون في السجون، والمجتمع الإسرائيلي يزيد عنصرية ويمينية، وأسس للفصل العنصري قانونيا". ثم أجمل قائلا: "لمدة ثلاثة عقود وأنا أؤمن بحل الدولتين؛ لكن الجرافة الإسرائيلية غيرت رأيي.. ومن شباك شقتي أرى الاستيطان الذي يتوسع على حساب الوجود الفلسطيني، ونحتاج إعادة تفكير جدية... الإسرائيليون قد دفنوا بوعي وتخطيط تامين حل الدولتين". وعلق محمد الأشعري، رئيس مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد وزير الثقافة السابق، على هذه المداخلة بقول إن هذا "تشاؤم واقعي"، وبأن ما حدث في حارة المغاربة "لم يكن عملية اعتباطية وجزئية (...) بل تدبير منظم للاحتلال من أجل إفراغ المدينة من أرواحها البشرية والرمزية".