((ينبغي للعاقل أن لا ينفقد من إحدى ثلاث مواطن: موطن يعرف فيه حاله أمتزايد أم منتقص، وموطن يخلو فيه بتأديب نفسه من إلزامها ما يلزمها، ويتقصى فيه على معرفتها، وموطن يستحضر عقله برؤيته التدبير وكيف تختلف الأحكام)) ( من أقوال الإمام أبي القاسم الجنيد ) لماذا أصبح المجتمع المغربي خلال الفترات الأخيرة يمسي ويصبح على لغط القول والمهاترات والتلاسن والتهويش؟ لماذا غدونا نعيش أزمة ضمير حادة ترجمت في تناسل الدعوات المتطرفة ، وتصاعد لهجة التكفير والتفسيق والتهديد الجسدي، وتوزيع الفتاوى الفضفاضة يمينا وشمالا؟ لماذا أصبنا برمد العيون فصرنا نستبسل في تأجيج بؤرة التمييز العرقي ، ونفتعله افتعالا ، ونتلقفه انفعالا ، لنتقيأه كراهة وكلمات سوداء؟ لماذا كنا نأمل أن الربيع العربي سيخصب منهج تفكيرنا في الحوار وقبول الرأي الآخر، ويقوّم ما اعوجّ من مسلكياتنا ، فإذا ببعضنا (( يبغونها عوجا ))؟؟ ألا يعني ذلك أن أزمة ضمير باتت منغرسة في طبقات بنيتنا الذهنية؟ وهي أزمة لا يمكن تفادي ذبحة نصلها إلا بالعلم والأخلاق ، والوسطية والتسامح ، والحكمة وحسن النظر ، وهي القيم الحضارية التي تشكل حجر الزاوية التي تقوم عليها منظومة التصوف . لكن أي تصوف؟ ألا نجد المنظومة الصوفية أصبحت هي نفسها اليوم غارقة في أوحال التحريف والتزييف ، والصمت المريب ، بل والتواطؤ المشين أحيانا ؟ أليست هذه المنظومة في حد ذاتها في مسيس الحاجة إلى التطهير مما علق منها من شوائب ، وما اعتراها من نواقص ما فتئت تخدش تراث بلد قيل أنه ينبت الأولياء كما تنبت الأرض الكلأ؟ هذا ما أسعى إلى وضع الأصبع عليه في هذه السطور . لا يخفى على كل عاقل أن التصوف الخالص يعد أداة ضرورية لتحقيق التوازن مع الذات ، والانسجام مع فطرية الوجود، وتلمس الحلول للمشاكل المستعصية التي يجثم تحت كابوسها عدد ممن وقعوا في شراك الحيرة والقلق ، والهوس النفسي ، وعبادة المصالح الخاصة، فأضحوا عاجزين عن إدراك ماهية وجودهم وغائية حياتهم. ومن المسلم به كذلك أن العصر الذي نعيشه يعتبر بكل المقاييس عصر الشهوات والنزوات، وانهيار المنظومة الأخلاقية ورداءة الفعل السياسي، مما يتطلب مواجهته بإحياء القيم الروحية، والتدثر بالأخلاق الملكوتية لتطهير النفس، واقتلاع الحيرة من الوجدان، والاستعلاء عن قيود المادة ، وتحقيق درجات عليا من الصفاء الروحي والمصداقية والكمال الأخلاقي. وإذا كان دور التصوف في مد الإنسان بطاقة وجدانية تحرره من أغلال النفس وإملاءات النزوات وشهوة الماديات حقيقة لا يرقى إليها الشك، فإن هذا الإرث الروحي قد تعرض للأسف لمعاول التحريف والهدم قديما وحديثا، إذ سعى البعض إلى إخراجه عن سكتة الصحيحة، وتلوينه بأفكار ورؤى هو منها براء ،كمقولة وحدة الوجود التي تعني أنه لا فرق بين الخالق والمخلوق، وأن الكون وما فيه هو الله تعالى، والله تعالى هو الكون، ونظرية الحلول والاتحاد التي تعني أن الله يتحد مع من شاء من أوليائه فيصبح الولي هو الله والله هو الولي، وغيرها من الشطحات الإشراقية البعيدة عن جوهر التصوف. في الوقت ذاته، وقع التصوف في العديد من الحقب التاريخية ضحية تحريف شرذمة من الدراويش الذين حولوه إلى دنس وترهات، وخرافات تكبح مسيرة العقل وتمسخ قيمته الوجدانية. ومن أسف أن التصوف في الفترة الراهنة، صارأيضا فريسة بين أيدي بعض الجهلة والمتاجرين باسم الدين ، ممن أداروا بوصلته نحو مسار منحرف، وحوّلوه إلى فضاءات للدروشة والاحتيال والنصب على المريدين وبيع الأوهام، لينعم "شيوخه" وأبناؤهم بسكنى القصور، وامتلاك فاخر الرياش، والاستحواذ على الممتلكات والأراضي غصبا ودون ورع ، واقتناص ما لذّ وطاب من متع الحياة المناقضة لمفاهيم الزهد والقناعة التي تنطق بها قواعد التصوف السني الصحيح . تأسيسا على ذلك، فإن الحاجة ملحة اليوم إلى إعادة النظر في منظومة التصوف بالاجتهاد والنقد الإيجابي ، وإعادة قراءة تاريخه، واستحضار أصوله السنية وينابيعه الزهدية المعبرة عن سمو النفس، ووسطيته المتميزة بالاعتدال والفكر المستقيم، بعيدا عن ملذات الماديات، والجوائح المذهبية وصخب الفلسفات الإشراقية، وعويل الدراويش. والتصوف السني بهذا المعنى، يجسد حقيقة التدين الصحيح الذي يحرك الإنسان في دائرة العقل المسؤول. إنه تصوف أخلاقي في المقام الأول، يهتم بالرقائق ، ويروم تقديم المعتقد في قالب بسيط غير معقد، وغير مبني على المماحكة والتنظيرات الفضفاضة العائمة، ويساعد المرء على ترويض نفسه، وتهذيب أخلاقه وإنقاذ ذاته من الأنانيات والنرجسية المفرطة. وفي هذا السياق ، نعتقد أيضا أن التصوف السني بمنهجه الوسطي يقدم درسا في التعايش السلمي والتسامح والحوار ومحبة الآخر، ويشكل مدرسة في السلم الاجتماعي، إذ لا غالب فيه ولا مغلوب، لا حاقد ولا محقود عليه، ولا تطاول على حق البلاد والعباد. ورغم أن هذه الحقائق التي صاغها الفكر الصوفي السني لا تحتاج إلى دليل، فإن الحاجة العلمية تدعو إلى المزيد من تجييش الحجج الدامغة التي تؤكد صحة هذا الاتجاه ، عن طريق توظيف المقاربة التاريخية بهدف تعميق المعرفة بالمنهج الوسطي الذي شكل إحدى ثوابت المدرسة الصوفية السنية، وهو أمر لا تخفى حقيقته على كل من سبر غور تاريخ الفضاء المقدس بالمغرب، مما يسمح بالقول أن التصوف يعد مفتاحا ضروريا للقيام بحفريات في ماضي هذا البلد بكل عناصره ومكوناته المادية والمثالية وعاداته المتجذرة، وفهم كنه آليات العقل المغربي، واستيعاب ثقافته ومجاله المعرفي على اختلاف ألوانه وتشعب مناحيه. وقد أكدنا غير ما مرة أن المقاربات التاريخية تساهم في نسج أجوبة للقضايا المعقدة التي يعاني منها المجتمع المحلي والعالمي . وفي هذا المنحى بالذات، سبق أن نشرت بمعية نخبة محترمة من الأساتذة الباحثين الجامعيين كتاب " التصوف السني في تاريخ المغرب : نسق نموذجي للوسطية والاعتدال "، سعينا من خلاله إلى تأصيل ظاهرة التصوف وتتبع منحنياتها في حقب التاريخ المغربي، ومن ثمّ إبراز القبس السني الذي جسّد خصوصية من خصوصيات التصوف المغربي ،وهي الوسطية التي جعلته يتفرد عن باقي خرائط التصوف الإسلامي، وهي الخاصية التي لا تزال تشكل حلقة من الحلقات المستوجبة للتدقيق والتمحيص، وملء بعض البياضات التي تكتنفها، لأنها ليست وسطا حسابيا أو عدديا بالمفهوم التداولي في الرياضيات، وإنما هي ترجيح عقلي يأخذ كل الحيثيات والاعتبارات والظنون والاحتمالات في القول والعمل للوصول إلى الأصوب، وتحقيق المقاصد الشرعية بحسب مرتبتها وأولويتها من ضروري وحاجي. إنه منهج مقاصدي يتحقق بمراعاة السنن الثلاث: سنن الهداية وسنن التغيير وسنن التدبير . إن عملية الاسترداد التاريخي للتصوف المغربي ولملمة خيوطه وملامسة أصوله وتحقيباته منذ البدايات الأولى لظهوره ، مرورا بمرحلة استوائه على سوقه، وصولا إلى المرحلة المعاصرة، قمين بتقديم لوحات ناطقة عن سمات الزهدية التي دمغته ، والبرهنة بالحجة والقرينة عن مدى ارتباطه بمرجعيته السنية فكرا وممارسة، بعيدا عن الشطحات الصوفية الموغلة في الفكر المتطرف، والمسلكيات الغارقة في أوحال المتاجرة بالدين ، واستغلال " فتوح " المريدين للاصطفاف مع أباطرة الثراء الفاحش .كما أن قراءة فاحصة في منظومته العملية يكشف الدور الحضاري للمتصوفة في شتى المجالات الدينية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية التي اضطلع بها الأولياء في دائرة المرجعية السنية، بما يكشف عن واقعية التصوف المغربي وأدواره العملية داخل المجتمع، بمنأى عن التأملات الطوباوية ، وخارج دائرة الانبطاح والارتزاق وشره جمع المال ، وبدون مرجعية تتكئ على العمل والإنتاج.لا بل على العكس ، يؤكد التحليل التاريخي المحايث ، المستند إلى النصوص المنبثة في كتب المناقب على تبني طروحات الصوفية والأولياء لفكر الجد والكدح والإنتاج ، وصياغة بيئة " اشتراكية " على الطراز المغربي ، وفق مقولة " الديموقراطية القبلية " ، إلى جانب التشبث بثقافة التضامن على مستوى السياقات المعيشة، خاصة في فترات المجاعات والكوارث الطبيعية والأوبئة والأزمات ، ناهيك عن دور الحكامة بين القبائل لفض الخصومات، وإبداع سياسة التعايش والتوافق بين مكونات المجتمع المغربي دون تمييز بين عرب وأمازيغ ويهود وأفارقة وغيرهم من الأعراق والطوائف . إن تحليل نظام القول في التصوف المغربي يكشف دون أدنى ذرة من الشك أن وسطيته وبعده عن جمرة التطرف ، وزهديته وبساطته لم تكن عملية اعتباطية بقدر ما هي منظومة فكرية وتوليفة منهجية حكيمة حرصت على المزاوجة بين التصوف والفقه المقاصدي، حتى أصبح من الصعب الفصل بينهما، فلا تصوف بدون فقه ولا فقه دون تصوف، مما يدل على أن المدرسة الصوفية المغربية ظلت محصنة بالفقه للحيلولة دون أي اختراق يسعى إليه الفكر الصوفي المتطرف . وبما أن مهمة المؤرخ تكمن في استنطاق مقولات الماضي بغية إيجاد ثقوب يستشف من شعاعها حلولا لمشاكل الحاضر ، فالعبرة التي يمكن استخلاصها من إضاءات الزمن الماضي تكمن في التأكيد على أن منهج الوسطية تاريخ لا ينتهي ، ومن ثم لا يمكن أن نعتبره حدثا ثقافيا- اجتماعيا جرى في الماضي وانتهى زمنه، بل يمتلك حمولة تراثية من العيار الثقيل، يمكن توظيفها اليوم لتجديد المنظومة الصوفية برمتها، بهدف تأسيس "تصوف النهوض" الذي يمتح قيمه الأخلاقية من روح الزهد النبوي ، ومن عقل وحكمة العبقريات العلمية الإسلامية المستنيرة، والمناجم الحكمية الكونية، ويؤسس لمرحلة جديدة تحت إشراف وقيادة نخبة عالمة مسؤولة ، تستطيع أن تكيف عناصره الغنية لرسم استراتيجية لمشروع نهضوي روحي تشاركي، وتخرجه من دائرة الانتهازية والتواكل والكسل والجمود الفكري إلى دائرة الإبداع المجتمعي ، واستقطاب الكفاءات الشابة المستنيرة ، لتجعل من التصوف بما يملكه من أخلاقية ووسطية وليونة في منهج العمل والتفكير قادرا على أن يكون شريكا وفاعلا أساسيا في إنتاج قيم عالمية، ومساهما في توليد راس مال بشري يزاوج بين العمل والقيم الروحية والأخلاقية ، ومشاركا في بناء معمار مجتمع مغربي قائم على المساواة والتسامح والتعايش المشترك، واحترام الرأي والتعددية ، وأن يكون أداة فعالة لتجفيف منابع التطرف ونشر ثقافة السلم الاجتماعي والأمن الروحي. وغير خاف ما يمكن أن تلعبه الجامعات والمعاهد ومراكز البحث العلمي من مساهمات في إشاعة ثقافة تصوف النهوض كمشروع مجتمعي حضاري يندرج في التنمية الفكرية والأمن الأخلاقي والروحي ، ونشر ثقافة الوسطية وقيم الإنسانية والتضامن الذي هو أساس التنمية البشرية، ويكون منطلقا كونيا وضابطا حضاريا في هذا العصر الذي اصطلح على تسميته بعصر العولمة ، وهو عصر تقارب فيه الناس إلى حد التماس، مما يجعلهم في حاجة إلى جرعات من هواء هذا التصوف الوسطي النقي ، العابق بروح الزهد وصفاء الضمير، والقائم على تخليق السلوك والانفتاح والتعارف والتسامح ، ونبذ التطرف والتعصب، دون التفريط في ذرة واحدة من خصوصيات الهويات اجتماعية أو سياسية؛ وهو ما يجعلنا نؤكد على جدوى "تصوف النهوض" ، المؤسس على الاستقامة في الخلق ، ورقابة النفس ، والتشبث بروح العلم والمسؤولية، وليس تصوف التخلف والطقوس المترهلة والبدع والضلالات المناقضة لشريعة الإسلام في التربية والسلوك، والفكر التواكلي المتحجر ، الفاقد لأي بوصلة يسير على هديها، وهو ما يجعلنا أيضا في حاجة إلى رسم خريطة طريق ، ووضع استراتيجية عمل لتجديد منظومة التصوف حتى تترشد خطاه ، وينسجم وعيه وفكره مع نموذج الوسطية الحضارية وطبائع العمران والاستخلاف وقوانين الكون الكلية ، وتتجدد صلة الإنسان بخالقه ، بعيدا عن أشكال العبثية والدجل والسطحية. كما أن الاجتهاد في منظومة التصوف مطلوب حتى تتكيف رؤاه وأفكاره وفق مشروع نهضوي روحي، قادر على تخليق الحياة العامة وإقبار الفساد المحلي ، والتمكين لثقافة التعايش والتعارف وبناء مجتمع الأمن والتضامن والتشارك والتآلف الإنساني.