ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    بوريطة: المقاربات الملكية وراء مبادرات رائدة في مجال تعزيز حقوق الإنسان    ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المتن الصوفي مرجعيةً للقيم الكونية
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 03 - 10 - 2014

تنطلق هذه المحاولة من مقدمتين نظريتين أساسيتين، يمكن تنضيدهما كالتالي:
- أولا، اعتبار التصوف الإسلامي، في وحدته وتعدده، حلقة متأخرة وأكثر تبنينا في سلسلة متصلة الحلقات من سيرورة التصوف الإنساني بمختلف تجلياته اليهودية والمسيحية، وما تداعى إليها مما يسمى بروحانية الشرق القديم؛
- ثانيا، خضوع التصوف مثل غيره من أشكال الخطاب، معرفة وتعبيرا، لقدر تأويلي دينامي ومعاصر يستكشف مسالك مغايرة للمعنى، لا تظل بالضرورة سجينة السياقات البدئية لتشكل الخطاب الصوفي أو مقصدياته المحايثة.
وفي ضوء هاتين المقدمتين، جدير بأن ينظر إلى التصوف، كما تناهى إلينا، بمثابة نتاج للتجربة الإنسانية المتراكمة، فيما يتعلق بجدل القدسي والدنيوي، وأن نتناوله اليوم ضمن مقترب تحليلي يروم تجديد التأمل في المتن الصوفي، وتحيين الأسئلة والقضايا التي يمكن أن يستثيرها رصيده المعرفي والجمالي والسلوكي، في ظل التحولات المطردة الذي ما فتئت تطرأ على محفل التلقي بمختلف آفاقه وآلياته.
وفي إطار هذا المقترب الذي تأسس وترسخ - طبعا- على يد ثلة من المفكرين والباحثين (1)، سبق أن اشتغلت على التراث الصوفي في ضوء تيمة «الجسد» (2) وما تطرحه من أسئلة نابعة من تصورات فكرية ونظرية ، غربية المنبت وحداثية التوجه، بحيث انتهيت إلى جملة من الخلاصات يتقاطع بعضها مع نتائجَ دراسات سابقة في هذا المجال كما يستثمرها، لعل أبرزَ ما خلصتُ إليه، في حدود محاولتي المتواضعة، انتصارُ الصوفية للحياة وإقبالهم عليها، وسعيهم نحو المصالحة بين الروح والجسد، وتمجيدهم للذوق والوجدان والإبداع، وتمثلهم لكل ذلك إدراكا وقولا وسلوكا.
وتبقى الخلاصة المركزية التي نعبر من خلالها إلى موضوع هذا العرض، في كون المنجز الصوفي بامتداداته المشرقية والمغربية، وأبعاده العالمة والشعبية، على قدر كبير من العمق والغنى والتنوع الذي ينطوي على إمكانات تداولية وقرائية غيرَ محدودة ومُشرعة على اللحظة والآتي والمستقبل.
ومن هذه الزاوية، فإن راهنية المفاهيم والقضايا التي تنتظم الخطاب الصوفي، كما قد يجددُ طرحَها المثقف المغربي أو العربي ، تقترن اليوم بمدى سعينا إلى الدفع بهذا الخطاب نحو واجهة النقاش الفكري والثقافي والحضاري، ليس من باب الحنين إلى خصوصية مفتقدة أو الارتكان السلبي إلى تراث ناجز ينتمي إلى زمن مضى وعصر انقضى، وإنما من خلال تعبئة ذلك المشترك الإنساني متعدد الروافد الذي يرتسي عليه التصوف، والذي يمكن أن يلفيَ فيه هذا المثقف المغربي أو العربي ما يسعفه للانخراط الإيجابي في قدر العولمة الكاسح (*)، وكذا المساهمة في الحوار الحضاري حول منظومة القيم الكونية المتعالية التي تبشر بها هذه العولمة، خاصة ما تعلق منها بالديمقراطية والحقوق والحريات الفردية والجماعية بمختلف أجيالها، وما يترتب عن ذلك من خلخلة للبنى الذهنية ومرجعيات القيم، وتأزيم الوعي بالذات وبروابط الانتماء، في مجتمعات من قبيل مجتمعنا.
فثمة فعلا مرجعيات ماضوية مفرطة في المحافظة والانغلاق، متلبسةٌ باللاوعي الجمعي، أصبحتِ اليوم بمثابة ترسبات معقدة تعوق عملية التفاعل الإيجابي مع هذه القيم الكونية، وتحول دون الإصغاء إلى نداء التقدم الذي تحمله منظومتها.
وخلافا لذلك، يمكن الترافع بجدوى التصوف باعتباره مرجعية مغايرة، واستثناء متنورا حيث تتضايف بكيفية خلاقة الخصوصية المتجددة ومستلزمات المجتمع الحداثي؛ إذ يمكن التوسل برصيده المتشبع بقيم المحبة والتسامح والتساكن والسلم والعمل في مواجهة خيارات العنف والتطرف والكراهية والعدمية والانهزامية، وغيرها من القيم المضادة المعادية للمبادرة والإبداع والتطور والتنمية.
وعليه، ثمة جملة من المداخل الدالة التي يمكن استثمارها في سياق هذا المسعى، من خلال ما يلي:
1- حرية المعتقد
يذهب الصوفية عموما إلى سمو القدسي عن كل الشرائع السماويُ منها والوثني، و إلى وحدة الأديان دون تمييز ولا مفاضلة فيما بينها، إذ تلتئم جميعا طي عقيدة واحدة، هي عقيدةُ المحبة، كما يقول الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي:
لقد كنت قبل اليومَ أنكر صاحبي * إذا لم يكن ديني إلى دينه دان
لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورة * فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيتٌ لأوثان وكعبةُ طائف * وألواح توراة ومُصحف قرآن
أدين بدين الحب أنَّى توجَّهتْ * ركائبُه، فالحب ديني وإيماني (3)
تشي هذه المقطعة التي نحفظها ونرددها باستمرار، والتي تعتبر من أكثر التماعات ابن عربي ذيوعا وشهرة، ببعض ملامح هذا العقل الصوفي الذي يقبل بالآخر رغم اختلافه، والذي ما كان أن يعترف له بحقه في الاختلاف لولا البصيرة العرفانية التي أدركته وأدركها. هذا العقل القادر أيضا على تدبير التعدد الديني بمعناه الواسع الذي يستوعب جميع المعتقدات، دون إنكار أو تعصب أو إقصاء. يقول جلال الدين الرومي: « مسلم أنا ولكن نصراني وبراهمي وزرادشت...» (4).
وهب أنه سموق إلى تلك المواطنة الكونية التي تمثل بوتقة حيث تنصهر كل الأعراق والإثنيات والعقائد والطوائف، والتي حاول إخوان الصفا لملمة عناصرها في تعريف جامع مانع حول الإنسان الكامل: «...الفارسي النسبة، العربي الدين، الحنفي المذهب، العراقي الآداب، العبراني المخبر، المسيحي المنهج، الشامي النسك، اليوناني العلوم، الهندي البصيرة، الصوفي السيرة... « (5).
وتطويرا للتحليل في هذا المنحى، ترد ضمن سير ومناقب أهل التصوف حكايةٌ، بتنويعات وتلوينات متعددة، عن ذلك الراعي الأمي الفقير عازف الناي، الجاهل بالفرائض ،الذي نذر لله إن رُزق بمولود ليعزفن له أربعين يوما دون انقطاع شكرا واعترافا، فمنحه الله تعالى بركة المشي فوق الماء بقدميه الحافيين، بينما ظل الولي الذي حاول تلقينه الصلاة وباقي الشعائر، دون جدوى، في حاجة إلى سَجَّادة ليستقيم فوق الموج (6).
وفي رواية أخرى، يتم استبدال الناي ببوق، والراعي ببحار زنجي، أو زنجية فقيرة تصلي لله على طريقتها من خلال ترديد: «ميمونة تعرف الله، والله يعرف ميمونة» (7).
تمدنا هذه الحكاية، على تنويعاتها، بمؤشرات إضافية عن هذا الوطن المثالي الذي يتوق إلى تشييده الصوفية. فهو لا يتسع لحرية المعتقد فحسب، وإنما يضمن كذلك حرية ممارسة الشعائر الدينية. فلكل صلاته وطريقته في التواصل مع الخالق، سواء بالفرائض أو البوح أو العزف، وغيرها من الوسائط كما يقول جلال الدين الرومي: «هناك طرق عديدة تؤدّى إلي الله، و قد اخترت طريق الرقّص والموسيقي...» (8).
ويُستنتج من هذه الحكايات كذلك أن مقام التصوف لا يميز بين الرجل والمرأة، وبين الأبيض والزنجي، وبين الفقير والغني، والمتعلم والأمي، فهو وطن حيث يتساوى الجميع، كيفما كان لونه وجنسه ومرتبته الاجتماعية والثقافية، لكي يحظى بنصيبه من ثمار البركة وفضائل الحياة (9).
والخلاصة، أن هذه الرؤى والتصورات التي يعبر عنها الوعي الصوفي بلغة الاستعارة والحكي والإيحاء، هي ذاتها الحقوق والقيم التي تنص عليها العهود والمواثيق الدولية حاليا بشأن حرية الفكر والوجدان والدين (10)، وضمان المساواة ومحاربة جميع أشكال التمييز (11)، بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة أو الانتماء الاجتماعي، وغيرها.
2- التمييز الإيجابي لفائدة المرأة
تحظى المرأة بمكانة لدى الصوفية تعدو غرامهم بها وافتتانهم بجمالها إلى ما هو أعمقُ من ذلك، إلى موقعها في بنية الوجود حسب البصيرة العرفانية. فالمرأة هي أكثر كائنات العالم كمالا، وأرفع تجليات الإله. يقول ابن عربي: « شهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله...» (12). وقوله:» من عرَف قدر النساء وسرَّهن لم يزهد في حبهن، بل من كمال العارف حبهن، فإنه ميراث نبوي وحب إلهي»(13)؛
وعلى هذا النهج، ينقل الدكتور الميلودي شغموم في أطروحته حول « الحكاية والبركة» ، حكايةَ ذلك الولي، سيدي عبد الرحمان، الذي عُرف في مجلسه بصحبته للفتيات الجميلات، فكان يفسر ذلك بقوله: « إن الحضور الإلهي يُدرك بين الأقراط والضفائر، أكثرَ منه على قمم الجبال» (14).
فمن المؤكد أن هذه النظرة لا تنجو من حبائل اللاشعور «الفالوسي» تجاه المرأة، ولكنها في المقابل تتوسل بالقدسي وما يتمتع به من سلطان ونفوذ على الإدراك المشترك، من أجل أن تنتشل المرأة من وضعيتها الدنيا داخل المجتمع الذكوري، وترتقي بها نحو ما هو أجل من المساواة، بل تضعها في أعلى الهرم الوجودي، مباشرة بعد الله، وقبل الرجل وباقي الكائنات.
« المَكَانُ إذا لَمْ يُؤَنَّث لا يعول عليه»، يقول الشيخ الأكبر.
وكأن الصوفية هنا يدركون أن وضعية المرأة لا يمكن تصحيحها إلا عبر التمييز الإيجابي، الذي يمنحها إمكانية التحرر من سطوة المواضعات الاجتماعية والأخلاقية الغارقة في الذكورية، ويضمن لها مواطنتها ومشاركتها الكاملة في عالم الولاية، كما توردها حكاية ميمونة الزنجية وحكاياتُ نساء أخريات تقاسمن والرجال ثمار الكرامة وبصيرة العرفان.
3- التوازن الإيكولوجي
ويتمثل فيما يمكنُ توصيفُه بالبعد الإيكولوجي والمستدام، الذي يحيل اليوم إلى الجيل الجديد من الحقوق التي تهم الأجيال القادمة ومستقبل الإنسانية جمعاء ، والذي يمكن أن نجد ما يَسنَده في الخطاب الصوفي، لا سيما في تصوراته حول وحدة الوجود، سواء في شقها اللاهوتي التي وقفنا على جانب منها عند تناولنا حرية المعتقد ووحدة الأديان، أو في شقها الأرضي والدنيوي، حيث يعتبر الإنسان وباقي الكائنات تجليات وصورا للحق تعالى، وأجزاء لا تتجزأ طي نظام واحد متماسك، لا يستقيم بعنصر دون آخر.
ومن ثمة، ما يذهب إليه ابن عربي في مفهوم الإنسان الكبير، وذلك التناظر المتواتر في الأدبيات الصوفية بين الجسد كعالم صغير والعالم كجسد كبير (15). فالغزالي يماثل العظام بالجبال، والشعر بالنبات، واللحم بأديم الأرض، والدم في العروق بالماء الذي يجري في الوديان والأنهار (16).
وفضلا عن هذا التناظر بين الإنسان والطبيعة، فإن جمهرة من القوم يعتقدون بالتناسخ، إذ تتنقل أرواح الصديقين والأسلاف وفق أدوار لا متناهية مستدامة بين البشر والحيوان والنبات والكائنات الطبيعية الأخرى.
كما أن تراجم أهل التصوف ومناقبَهم حافلةٌ بأخبار وكرامات من قبيل قدرتهم على تقمص هيئات الأشخاص والأشياء، والترحال بين الصور والماهيات. فبعضهم، قد يتحول إلى طائر للجبال أو نون للكهوف، أو يستعير صورة أسد مفترس، أو قد يتحلل حتى يصبح بقعة ماء أو مادةً لطيفة كرائحة القرنفل (17).
هذا التوازن الأنطولوجي، سواء استند إلى مبدإ الحلولية ( تَعَيُّنُ الحق في الخلق) أو مبدإ التناسخ (امتداد الإنسان في الكائنات الأخرى)، هو دعامة التوازن الإيكولوجي والبيئي، ولو أن هذا البعد ظل كامنا في الخطاب الصوفي، إلا ما يمكن استشفافه مما سبق، ومن غيره من الشواهد التي تجعل الإنسان في صلب حماية هذا النظام الواحد المتماسك، وحيث التوقير لجميع الخلائق، وحيث لا احتقار لأحد أو شيء، كما يذهب ابن عربي. فمن يدري: «لعله ربما» !(18).
تلكم إذن، هي بعض مما يمكن استكشافُه من المداخل والمسالك القرائية الخليقة بإبراز راهنية المشترك الإنساني للخطاب الصوفي العابر للعصور والثقافات. هذا المشترك الذي يتعين تثمينه وتعبئته من قبل المثقف المغربي والعربي بغاية الانخراط الفاعل في منظومة القيم الكونية، والمساهمة في الحوار الثقافي والحضاري اليوم حول الحقوق والحريات الفردية والجماعية، ونشر ثقافة التسامح وقبول الاختلاف والتعايش في إطار التنوع والتعددية، وهي نفسها المقومات والقيم التي ترتسي عليها المواطنة في أزهى المدن الفاضلة، مدينة الصوفية.
هوامش:
(1)- راجع في هذا الصدد على سبيل الإشارة لا الحصر:
- Massignon (Louis), Essai sur les origines du lexique technique de la mystique musulmane, Ed. du Cerf, Paris, 1999 ;
- متز ( آدم ) ، الحضارة الإسلامية، تعريب محمد عبد الهادي أبو زيده، المجلد الثاني، الطبعة الخامسة، دار الكتاب العربي، بيروت، د.ت ،.
- Corbin ( Henri), l?imagination créatrice dans le soufisme d?Ibn? Arabi, Ed. Entrelacs, Paris, 2006 ;
- شغموم (الميلودي)، المتخيل والقدسي في التصوف الإسلامي: الحكاية والبركة, منشورات المجلس البلدي لمكناس، 1991؛
- Bentounes (Cheikh Khaled), Le Soufisme, coeur de l›Islam : Les Valeurs universelles de la mystique islamiste, Ed. La table ronde, Paris, 1996 ;
(2)- انظر:
- العلوي (هشام)، في قبضة الثقافة: نظرات ورؤى حول الجسد، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط، 2005؛
- العلوي (هشام)، «المستنسخ الصوفي في رواية مسالك الزيتون للميلودي شغموم»، ضمن مجلة عمان، العدد 104، عمان، 2004.
(*)- العولمة ليست نشاطا تجاريا خالصا فحسب، ولكنها تعميم كذلك لنمط في التفكير والسلوك يخلخل التمثلات حول الفرد والقيم والهوية والانتماء.
(3)- ديوان ترجمان الأشواق، دار المعرفة، بيروت، 2005، ص.69.
(4)- وارد ضمن، خوجة ( لطف الله)، وحدة الأديان في تأصيلات التصوف وتقريرات المتصوفة، منشورات جامعة أم القرى، سلسلة البحوث المحكمة، مكة المكرمة، 2011، ص. 76.
(5)- رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، المجلد الثاني، دار صادر، بيروت، دون تاريخ النشر، ص.376.
(6)- شغموم (الميلودي)، المتخيل والقدسي في التصوف الإسلامي: الحكاية والبركة، منشورات مجلس مكناس، 1991، ص. 246.
(7)- المرجع نفسه، ص. 247.
(8) - Cité in Kebe( Abdoul aziz), » le sacré, le profane, le spirituel et le temporel : contribution à la réflexion «, Annales de la Faculté des lettres et sciences humaines, N?35, Dakar, 2005, p.13.
(9)- شغموم (الميلودي)، مرجع سابق، صص.247-248.
(10)- يرد في المادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ما يلي: « لكل إنسان حق في حرية الفكر والوجدان والدين. ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة».
(11)- انظر: اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على كافة أشكال التمييز ضد النساء والتوصيات الصادرة عن لجنة السيداو(C.E.D.A.W).
(12)- البقاعي ( برهان الدين ) ، مصرع التصوف، تحقيق وتعليق: عبد الرحمان الوكيل، دار الكتب العلمية، بيروت، 1980، ص.145.
(13)- الفتوحات المكية، المجلد الثاني، دار صادر، بيروت، د.ت، ص.190.
(14)- شغموم (الميلودي)، مرجع مذكور، ص.45.
(15)- انظر : البقاعي ( برهان الدين ) ، مصرع التصوف ، مرجع سابق، ص . 38 .
(16)- نقلا عن: HOGGA (Mustapha) ; ?Corps, pouvoir et mystique chez Gazali ?, in revue de la Faculté des Lettres et des Sciences Humaines de Marrakech, Actes du colloque, le corps et l?image de l?autre,
N? 5 , 1989, p . 82.
(17)- العلوي (هشام)، المستنسخ الصوفي، مرجع مذكور، ص.95.
(18)- يورد أبو الحسن الأشعري هذه العبارة في معرض نقله لشطحات بعض الصوفية بشأن مبدأ الحلولية. انظر: مقالات الإسلاميين، الجزء الأول، دار الحداثة، بيروت، ص . 344.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.