جلس في ركن بمقهَى قريب من مقر بلديَّة رُوتردَام التي يتولّى منصب عمدتِهَا.. وقبل الشروع في حواره مع هسبريس، لم يتوَانَ أحمد بوطَالب في الحديث عن وقائع عدّة شدّته وما تزال نحو المغرب، الوطن الأمّ، ومنها واقعة الرحلة الجويَّة التي استقلّها قبل أسبوع نحو المغرب والتي تمّ إرجاؤها ل24 ساعة بفعل محرّك طائرة لم يشتغل.. بوطالب، الذي يدير شؤون مدينة هولنديَّة ميزانيتها تتخطّى بقليل قيمة 4 مليارات أورو، مازال يحافظ على كلامه بأمازيغيّة الريف، تماما كحديثه بالعربية الذي وضفه للإجابة على أسئلة هسبريس. كمدبّر هولنديّ من أصل مغربيّ، ما هي نظرتك للجالية المغربيَّة من موقع المسؤوليَّة؟ الجالية المغربية في روتردام يمكن أن نقول عنها الكثير كما القليل، هي كبقية الجاليات، ونحن الآن نستعد لتوديع الجيل الأول منها لأنّه سيغادر الى أرض الوطن أو سيتوفى، ونرصد وجود الجيل الثاني والثالث في عدة مجالات، بينما مستقبل الجالية الحين يبرز في وصول المستوى التعليمي لأفرادها إلى مستوى عال، وفي وصول مجموعة من الشباب، ذكورا و إناثا، إلى الدراسات العليا الجامعية.. ذلك يبشر بالخير.. بالنسبة للجيل الثاني فهو يشتغل بمجالات مختلفة كالتجارة و الرياضة و الفن و الأدب، وهؤلاء يجب أن نصفق لهم لأنهم يرفعون سمعة الجالية المغربية والمسلمة في روتردام.. هناك الجانب السلبي الذي تمثله الفئة التي تنتمي لطبقة المجرمين والمنحرفين والراغبين في الاغتناء بطريقة سهلة و سريعة، دون تعب، هؤلاء لا نصفق لهم بل نحاصرهم ونطوقهم أمنيا ونراقبهم.. المنتمون لذات الفئة يقولون إن بوطالب لا يتحدث عنّا بكلام جيد، وأنا أقول لهم إني في موقع مسؤوليتي لأراقبكم و أعاقبكم إن أخطأتم. مرّت أعوام عدّة تدرّجت خلالها ضمن مواقع تدبير مختلفة ببنية السلطة بهولندا، هل أنت راض على أدائك، وهل حقّقت نسبة مما كنت تصبو إليه تدبيريا؟ من الناحية السياسية يمكن أن أقول إن وصول شخص مغربي إلى أن يكون نائبا أوّلا لعمدة أمستردام، ثمّ كاتب دولة في حكومة وطنية مركزية، وبعدها عمدة لمدينة روتردام التي تتوفر على أكبر ميناء في المنطقة الغربية من العالم والتي هي من الناحية التجارية بوابة أوروبا، أي بوابة 500 مليون مستهلك في قارة، فذلك لم يكن متوقعا في الستينيات أو حتى الثمانينيات.. في بعض المرات أقول للمواطنين أني رحلت إلى هنا عام 1976 لأنني كنت أعرف أنهم سيحتاجون لعمدة من المغرب بحلول العام 2000.. هذا بفضل الله وعرق الجبين ورضى الوالدين، تماما كما هو مكتسب. بسيطة هي الأهداف التي كنا ننوي تحقيقها في مدينة روتردام، لكنّنا ألصقنا بها مجموعة كبيرة من الأمور، اقتصاديا واجتماعيا وأدبيا، لقد أسميها الأمن والحفاظ على السلم في هذه المدينة التي تحتضن 170 جنسية لتجعلها أشبه ب "الأممالمتحدة".. فكل لغات وثقافات وديانات العالم موجودة هنا، والدور الأول للعمدة هو أنه ينسق بين هذه الجنسيات وأن يعمل في إطار من السلم والسلام بين هذه الفئات العرقية، فالسلم و السلام بين المواطنين يخلق أرضية كي يحس كل واحد أن شخصيته محترمة وعنده مجال للاشتغال و العطاء، و له تعاطف مع المواطنين، وأن يعطي قبل أن يأخذ، و أن يناقش قبل أن يطالب.. هدفنا هو خلق جو الحوار بين المواطنين، فالأصدقاء والأعداء يشهدون أننا وصلنا لهذا المبتغى، ونرى أنه رغما عن الأزمة الإقتصادية التي تعرفها المدينة، وعدة دول بالعالم خلال الست سنوات الأخيرة، أستطعنا أن نوفر السلم و السلام في المنطقة. هل تتابع مستجدّات الأوضاع بالمغرب.. الوطن الأمّ.. وهل ترصد وجود تغيّرات محلية هناك أو إقليمية بمنطقة الجوار؟ أنا ديموقراطي، وجسدي ديموقراطي و عقلي كذلك، فالإنسان الذي يؤمن بالديموقراطية من الضروري أن يشهد بعدم إمكانية فلاح أي حاكم في العالم في أن يضغط على الجماهير، بالقهر والضرب والديكتاتورية، لمدة قرن أو يزيد.. ستكون هناك دائما حركة داخل المواطنين تقول كفى.. للأسف، بين الحاكم و المحكوم في عدد من الدول العربية يغيب التفاهم، وإذا لم يكن هناك إيمان بالسلطة الحاكمة فإنها ستتحطم يوما ما. نشاهد في عدد من الدول العربية والإسلامية أنه هناك أناسا ماتوا من أجل خروجهم للشارع و قول عبارة "اللهم هذا منكر" من أجل التغيير أو حرية التعبير.. في حياتي اليومية كعمدة لمدينة روتردام الهولندية، و انشغالي بهمومها، لا يُفسح لي المجال لمتابعة الوضع بالمغرب بدقة، وعموما أضنّ أن المغرب، بنوع من الحكامة و الحوار، تم التمكن من التعامل مع المظاهرات والضجة بطريقة مكنت البلد من استيعاب هذه الأمور و التعلم منها، علما أن الديموقراطية هي تربية، حيث لا يمكن لرئيس أو ملك أن يقول أنا ديموقراطي و كفى، وما دام هناك مواطن يبيع صوته بخمسين درهم فذلك ليس خطأ ملك أو شرطي، لذلك على المواطن أن يلعب دوره، فالأمر يتعلق بحركية مستمرة انطلاقا من المواطن البسيط وصولا إلى القمة، وما دامت الديموقراطية تربية فكل المواطنين معنيون بها، وعلى المسؤولين أن يضمنوا للناس حرية التعبير لقول ما يرديون، فالحرية في غرب أوروبا محدودة في المحكمة فقط، أما المواطن فله الحق أن يقول كل شيء على أن يستعمل حريته في التعبير باحترام ولا تعني أبدا أن تضرب في القمة، فهي أسلوب وحوار وحضارة ومفهومها تربية، لذلك يجب استعمالها في إطارها.. أرى أن العناصر الجديدة في المغرب، من شباب وأحزاب سياسية، تمكنوا من الوصول إلى نوع من الحوار مكّن من تفادي الأمور الدموية التي عرفتها بعض الدول في الشرق الأوسط و شمال إفريقيا. ما رأيك في تحرّك الحكومة الهولنديّة الذي خفض التعويضات العائلية لمغاربة وذوي حقوق بنسبة 40%؟ تخفيض التعويضات بالنسبة للأبناء المغاربة المقيمين خارج فضاء السوق الأوروبية المشتركة هو موضوع قديم وليس موضوعا يهمّ الحكومة الحالية، هو إجراء كان يناقش مرات عدّة خلال العشرين سنة الأخيرة، فهو مرغوب فيه سياسيا لكن أي وزير أو حكومة اقتربت منه تنهزم أمام المحكمة الهولندية، ووزير الشؤون الإجتماعية الحالي تحرك في هذا الإطار وانهزم أمام المحكمة بأمستردام التي قالت إنه لا يجب التمييز بين الأطفال المقيمين داخل الإتحاد الأوروبي ومماثليهم القاطنين خارجه، لأن القوانين الاجتماعية لا تسمح بذلك، والغريب في هذا الموضوع أن الملف لا يتعلق بمبالغ باهظة من ميزانية الدولة الهولندية، حيث أن القيمة المالية التي تم تقليصها تصل لحوالي 5 ملايين أورو فقط، ويمكن اعتبارها ليست بالشيء الكثير، و مع ذلك أضحت القضية قضية "بْرِيسْتِيجْ" لدرجة أن الحكومة الحالية قدمتها كمشروع قانون، وكان متوقعا أن تنهزم أمام مجلس الشيوخ في هذا الموضوع، تماما كما انهزمت أمام المحكمة خلال الأسبوع الماضي. وماذا عن التعاون المغربي الهولندي في تبادل المعطيات الضريبيّة؟ لست اختصاصيا في هذه الأمور، غير أنه يمكنني القول بأنّ التعاون بين المغرب وهولندا في موضوع تبادل المعلومات الضريبية سيكون في صالح البلدين، فهناك مثلا أناس يربحون الأموال من الاتجار في المخدرات على مستوى عالٍ و يتمكنون من تهريبها إلى المغرب، فهؤلاء يدخلون أموالا سوداء للاقتصاد المغربي الأبيض، وذلك ما يهدد الاقتصاد المغربي من الداخل، لذلك يجب التكلم عن ذلك جهرا لأنه معروف أصلا.. أرى أن التعاون بين الحكومتين المغربية الهولندية في هذا النوع من المجالات سيحمي المغرب من الأموال التي تأتي من تجارة المخدرات نجو الاقتصاد، وسيمكن ذلك من التعرف على الأشخاص الناشطين في التجارات المحظورة، كما سيتم القضاء على هذه العناصر، وأنا متأكد أن الحكومتين لا تبحثان عن الحيتان الصغيرة. ما مدى ارتباط بوطالب بأرض المغرب؟ ارتباطي بالمغرب هو حنين يشدّني إلى هذا البلد، أنا من مواليد بني شيكر، و ترعرت ببني سيدال بإقليم الناظور، أحب أن أشم رائحة البلد وأن أكل خبز الشعير وأن أقضم كسرات غمست بزيت الزيتون، تماما كما كنت أفعل عندما كنت صغيرا.. وأتذكر هنا كيف كنا نعيش في تلك البوادي، و كيف كنا نمشي بدون حذاء، حينها كنّا إذا تناولنا وجبة الغذاء لا نتعشّى، ويستمر الأمر لثلاثة أيّام.. ما زلت أفكر في كيفية تلقينا الدروس في قسم بمعلم واحد، وهو الصقلي محمادي، جازاه الله، الذي تمكن لوحده من تعليم أطفال بادية كاملة، ومن ذلك القسم تخرجت أطر عليا لدرجة أن واحدا منهم أصبح عمدة لمدينة روتردام.. فالنضج الذي وصلت إليه و الحكامة التي منحني الله إياها كانت بفضل الحروف الأبجديّة لمحمادي الصقلي، في مدرسة ولاد سيدي محمد بنحدو بقرية أغيلو مدغار بجماعة بني سيدال، ولا يمكن للإنسان أن ينسى ذلك لأنه أذا فعل فسيكون قد اتبع أهواءه بأن يرى للأمام و ينسى تاريخه. أنا كالإنسان الذي يقود السيارة، يرى من خلال الزجاج الأمامي لأنه ينظر للمستقبل، ويرى أيضا في المرآة الصغيرة ماضيه لكي لا يفقد خارطة الطريق، ورغما عن كون تلك المرآة صغيرة إلاّ أنّها إجبارية.. كل مرة أعمد للعودة إلى المغرب كي أشم رائح البلد و أزور العائلة و الأصدقاء، ورغم مضي أزيد من 40 سنة على الهجرة لا زلت متمسكا باللغة العربية ولغتي الأمازيغية، ونصيب من القرأن، لأن ذلك جزء من هويتي.. أنا صنعت في المغرب و برمجت في هولندا، هذا هو أحمد بوطالب.