مِن الناس من لا يستلطف عادةً كُرة القدم.. يرى فيها عصبية تُوقظ في نفس متابعيها قَبَلِيّة كامنة قد لا تُحمد عقبى انفلاتها. ومنهم من لا يُتابع مبارياتها لأن فيها إلهاء عن شأن من شؤون دنياهم أو آخرتهم يرونه أولى بالاهتمام. وهناك من لم يَكُنْ -والأصح يَكُنَّ- ينتمين للعبة هي على صورة المجتمع الإنساني حديثِ العهد باندماجهن في مجاله العام: جَدّه وهَزله. ثم جاءت كأس العالم التي سَبَقها ما سبق من لَغَط لم تُفاجِئ "الطُّهرانية" الانتقائية الغربية به أحدا. فتابع من لا يستلطف اللعبة في العادة، المُباراة الأولى بحذر المُعتدل الرصين. ولم يحفل بها كثيرا ذاك الذي يرى فيها هدرا لوقته الثمين، فالنتائج عنده معروفة: خروجٌ مُشرفٌ من الدور الأول بعد خسارة واحدة وتعادلين سلبيين على أحسن تقدير. وملأت المشجعات المتحمسات المنصات في العالمين الواقعي والموازي الذي تَحيّن صُناعُ محتواه الزلاّت المعرفية بقواعد اللعبة لتلك الفئة "المُحْدثَة" من مشجعي الكرة، وليصبِحن مادة للسخرية "البريئة".. فالنساء على ما يبدو مهما شرحت لهن، لا يستوعبن أبدا معنى التسلل. فجأة، انتصر الفريق الوطني. وتلى الانتصار شيءٌ مختلف.. تميزٌ ما. ثم سرعان ما أصبح هذا التميز.. نمطا لتفوق فعلي. ثم عبروا إلى الدور الثاني الذي هَرِمَت حرفيا أجيالٌ من محبي الكرة في انتظار حدوثه مرة أخرى. فجأة، أصبح من لا يحب كرة القدم، ومن يتعالى عليها، ومن لا يفقه فيها شيئا منغمسا إلى الأذنين في ما كان يلوم عليه غيره. واختلطت الأدعية والصلوات بترانيم المشجعين وزغاريد المشجعات في مشهد غريب على "الفصل" النفسي السائد. وكلما تلى الانتصار انتصارا، الاّ واتسعت رقعة المتحمسين لتشمل أصحاب الجغرافيا والثقافة والتاريخ وحتى الواقع الجيوسياسي المشترك شرقا وجنوبا. وليصبح كل انتصار في مباراة أمام خصم ما، هو انتصار لِقِيم الجماعة أو الجماعات التي أصبح يُمثلها، شاء أم لم يشأ، الفريق المغربي، في مواجهة قيم الآخر الذي هو في الأغلب غربي. أصبحت كل مباراة هي فرصة نادرة "لاستخلاص" حق قديم، ولتحرير فكرة "التفوق" من القبضة "المُحتكِرة" للمنتصر التقليدي المتربع دائما على عرش الكُرة والحياة.. فرصةٌ لأن تصبح جماعة أو جماعات وما تعتقده وتدافع عنه مرئيا ولو خلال عمر مباراة.. فرصةٌ لتقديم سردية أخرى مُمكنة تستدعي انتصارا وتفوقا في شيء ما، يحدث فعلا والآن. وليس في هذا الخلط ما بين السياسي والاجتماعي والنفسي والتاريخي من جهة، وكرة القدم من جهة أخرى، ما يفاجئ.. يكفي الاطلاع على التاريخ الدراماتيكي لكؤوس العالم، أو متابعة مواقفَ أنديةٍ ومنتخبات كبرى من حروب أو حركات مجتمعية أو مواقف سياسية ليتبين أن هاته السياسة وتلك -كرة القدم- أبعد ما تكونان عن الماء والزيت وإن قالت رَبْطَاتُ العُنق غير ذلك. بل تكاد تكون الثانية امتدادا للأولى وانعكاسا لتخبطاتها وورقة ثمينة من أوراقها الرابحة. وليس مفاجئا أيضا، وإن كان جديرا بالدراسة -وهذا ما ستفعله فعلا مراكز التفكير الغربية فور انتهاء المنافسات إن لم تكن قد بدأت بالفعل- قلت ليس مفاجئا هذا التماثل الغامر والعابر للحدود الذي جعل ألوانا وأطيافا ونَزْعَاتٍ مختلفة ترى، كلٌّ من زاويتها، في الفريق المغربي المُنتصر ممثّلا شرعيا لها، وتتمنى استمرار هذا التفوق في مباريات الكُرة، في وقت ساد فيه الاعتقاد أن الدول في منطقتنا والعالم لم تعد تستطيع "التعاطف" لأن له كلفة باهظة، وأن "هنا" قبل "هناك"، وأنّ كلُّ نفس بما كسبت رهينة. تَشكلت وحدة ذهنية كانت خامدة.. لتتنافس على كأسٍ ولتتدافع بالقيم. خلاصة القول، إن كل انتصار في العلوم أو في الفنون أو في الرياضة، له دلالة وأثر على نفس الفرد وعلى وعي جماعته أو جماعاته: لأن الانتصار إن تكرر ودام يُرمم الثقة الغائبة، ويُلهم للتجرؤ على طلب التفوق ويدفع لتملك الإبداع. يبدو أن الترميم قد بدأ من أخمص القدم، فعسى أن يستمر.