إن موقف هولندا الرسمي من العدوان الصهيوني الأخير على قطاع غزة، يمكن قراءته من خلال ما جاء في كلمة الوزير الأول الهولندي بالكانند، أثناء المؤتمر الصحافي الذي عقده في 9 يناير 2009، مباشرة بعد الاجتماع الوزاري، إذا قال بخصوص حرب إسرائيل على غزة: "قد تم اتخاذ حل، وهو مؤشر شجاع، وهذا الحل ينص على الإيقاف الفوري والدائم للحرب، الذي ينبغي أن يحترم من كلا الجانبين، ومن الأهمية بمكان أنه ينبغي أن ينفذ بسرعة، غير أن ما يُتأسف له أن كلا الفريقين يرفض أي وقف للحرب". "" عندما يقرأ الإنسان هذا الكلام، يخلص إلى أن الوزير الأول الهولندي منهمك في إيجاد الحل السريع والملائم لوقف حمام الدم الإسرائيلي في قطاع غزة، وأنه جد منشغل بمأساة الشعب الفلسطيني المظلوم، وما قد يدعم موقفه هو قرار حكومته بتخصيص مبلغ ثلاثة ملايين يورو للمساعدات الإنسانية في غزة، وهو مبلغ يضعه وزير التنمية والتعاون السيد كوندرس رهن إشارة منظمتي الأونوروا والهلال الأحمر، لاستعماله في اقتناء المواد الغذائية والطبية. إلا أنه في مقابل ذلك تناقض الحكومة الهولندية موقفها الإنساني هذا، بمختلف التصرفات والتصريحات والقرارات التي تكشف عن تواطؤها مع الكيان الصهيوني ودعمها له، وسوف أقتصر في هذا الصدد على عنصرين أساسيين لفهم حقيقة هذا الموقف، وهما كالآتي: أولا: ترى الحكومة الهولندية أن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها ضد حركة المقاومة الفلسطينية حماس وغيرها من الحركات الجهادية، التي تعتبرها إرهابية، لذلك فقد تم رفض زيارة إسماعيل هنية لهولندا قبل سنتين (2007)، هكذا فإن نظرة هولندا الرسمية إلى المقاومة الفلسطينية للاحتلال الصهيوني، تظل نسخة طبق الأصل للموقف الغربي الذي تتزعمه الولاياتالمتحدةالأمريكية مع حلفائها الأوروبيين، وهو موقف ناتج عن تأثير اللوبي الصهيوني العميق، الذي يسوق مقولة القضاء على الإرهاب الإسلامي في ينابيعه الأصلية، حتى لا يتشعب وتمتد ظلاله إلى العالم الغربي، كما يحدث من حين لآخر. وما يوضح أكثر هذا الموقف هو القرارات والتصريحات التي تصدرها الحكومة الهولندية أثناء جلساتها ومناقشاتها في الغرفة الثانية للبرلمان الهولندي. وقد جاء في تصريح حكومي أن هولندا تسعى إلى وقف النار بين الطرفين المتحاربين ومنح المساعدات الإنسانية للضحايا، غير أن هذا التصريح يكشف عن النية الدفينة للموقف الهولندي، عندما يضيف بأن الحكومة تضع ثقتها في إسرائيل، ما دام أنها تقوم بذلك حماية لمواطنيها من أن يكونوا ضحايا، على هذا الأساس، فإن الأمر لا يقتضي تطبيق أي عقوبة على إسرائيل، وأن أغلبية نواب الغرفة الثانية يدعمون هذا الطرح. بل وإن الأمر يتعدى ذلك إلى ما هو أشد، إذ أن وزير الشؤون الخارجية السيد فرهاخن اقترح مع نظيره الدنماركي على الاتحاد الأوروبي، وضع خبراء ومفتشين بين مصر وقطاع غزة، حتى لا يتم تسريب صواريخ جديدة إلى حركة حماس، وأن الدولة الهولندية مستعدة للمشاركة في هذه المراقبة. ثانيا: لعل قارئ العنصر الأول قد يقول بأن الموقف الهولندي لا يخرج عما تخططه الدول الغربية العظيمة المؤثرة في مسار السياسة العالمية، كالولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا وفرنسا وغيرها، أو أنه يقول بأن تواطؤ أغلب الأنظمة العربية مع العدو الصهيوني أشد؛ (وظلم ذوي القربى أشد مضاضة/// على المرء من وقع الحسام المهند)، أو أنه يقول وإن كانت هولندا تدعم إسرائيل سياسيا وإعلاميا، فإنها مسكونة بالهاجس الإنساني، إذ تساهم دوما في مساعدة الشعب الفلسطيني بالأغذية والدواء! ربما قد تتضمن هذه الأقوال والتفسيرات جانبا من الصواب، لكن على المستوى السطحي والظاهري، أما ما يختفي تحت السطور، وما تنطوي عليه النيات والدواخل، فهو من الفظاعة القصوى بمكان، لأن الموقف الهولندي الرسمي الحقيقي من إسرائيل عامة، ومن عدوانها الظالم على الشعب الفلسطيني خاصة، لا يتمثل من خلال حفنة من القرارات الشكلية، والتصريحات الإعلامية التي صارت عادية، ما دام أن مضمونها لا يختلف كثيرا عما يصدر عن الكثير من الجهات العربية المتواطئة، وإنما يتجاوز ذلك إلى ما هو أخطر وأرهب، وهو أن الدولة الهولندية التي يتظاهر حكامها دائما بأنهم يملكون ضميرا إنسانيا حيا، قد شاركت بقسط كبير في العدوان الصهيوني على قطاع غزة، ليس على المستوى الدبلوماسي والإعلامي فحسب، وإنما على الصعيد العسكري واللوجيستيكي، وهذا ما يثبته بشكل قاطع مقال نشر في بعض وسائل الإعلام، وهو موجود على شبكة الإنترنت الدولية، وهو يحمل عنوان: (حرب غزة نفذت بأسلحة هولندية). وقد ورد فيه أن شركتي DSM و Stork الهولنديتين المتخصصتين في صناعة الأسلحة، تحققان أرباحا خيالية من صادراتهما إلى إسرائيل، وأن مطار شخيبول في ضواحي مدينة أمستردام يعتبر أهم خط جوي على الإطلاق لنقل تلك الأسلحة، كما أنه يتم نقل أسلحة أمريكية إلى إسرائيل عبر هولندا، من دون ترخيص مصلحة نقل الأسلحة التابعة للاتحاد الأوروبي، هكذا فإن إسرائيل تعد أكبر مستورد للأسلحة في العالم، حتى أن السلاح المصدر إليها من قبل هولندا عبر بعض دول العالم الثالث لا يخضع لأي مراقبة، ثم إن طائرات الأباتش التي كانت تدمر مدن قطاع غزة ركبت من قطاع غيار وأجزاء مصنوعة في هولندا، إذ أن شركة Stork الهولندية تعتبر الممون الوحيد لطائرات الأباتش التي تصدرها الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى إسرائيل، كما أن ثمة تعاونا بين الشركات الهولندية وقطاع صناعة الأسلحة الإسرائيلي، لا سيما فيما يتعلق بالأسلحة الموجهة لدول العالم الثالث، وتشير معلومات موثوقة إلى أنه في سنتي 2006 و2007 تم إرسال الأسلحة إلى إسرائيل 142 مرة! هكذا فإن الدولة الهولندية تسمح لشركاتها بالتعاون مع الصناعة الحربية الإسرائيلية التي تعتبر ممون الجيش الإسرائيلي، ومع أن الحكومة الهولندية ترى أنه مبدئيا غير مسموح بإرسال الأسلحة إلى إسرائيل، غير أنها تغض الطرف عما يحدث، ولا تجبر شركاتها على طلب الترخيص من الاتحاد الأوروبي. وقد دفع هذا التواطؤ الهولندي مع الكيان الصهيوني الناشطة الهولندية فينديلا دي فريس إلى استنكار هذا التواطؤ، وهي توجه كلامها إلى وزير الخارجية السيد فرهاخن: الآن، اقترح الوزير فرهاخن المساعدة في مراقبة مموني حماس بالأسلحة، فهل يمكن أن ننتظر بأن يقترح كذلك المراقبة على مموني إسرائيل بالأسلحة! في واقع الأمر، هناك أكثر من دليل يؤكد الحقيقة المرة التي أشار إليها المقال السابق، والتي مؤداها ضلوع هولندا في تموين إسرائيل بالأسلحة والعتاد العسكري، الذي استخدمته سواء في حربها ضد حزب الله في 2006، أم في عدوانها الأخير على قطاع غزة، وينبغي التركيز على الدور الذي يؤديه المطار الهولندي (شخيبول)، في استقبال ونقل وإرسال مختلف الأسلحة إلى تل أبيب، وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى ما يعرف بكارثة بايلمر، التي هزت الأوساط الهولندية والعالمية في تسعينات القرن الماضي، وبايلمر هي مقاطعة تنتمي إلى مدينة أمستردام وتقع في الجنوب الشرقي منها، على مقربة من مطار شخيبول، وقد تعرضت إحدى بناياتها الشاهقة لسقوط طائرة البوينغ 747، التابعة لشركة الطيران الإسرائيلية (إل أل)، وذلك في 4 أكتوبر 1992، مما أودى بحياة 40 شخصا كلهم من سكان تلك البناية، بالإضافة إلى طاقم الطائرة الذي كان يتألف من ثلاثة أشخاص، وقد تم الكشف من قبل جمعية (لاكا) في أكتوبر 1993، أي بعد سنة واحدة من وقوع ذلك الحادث المفجع، عن أن الطائرة كانت تحمل اليوناريوم المخصب، مما تسبب في إصابة الكثير من الناس بأعراض صحية، كالألم، وانعدام النوم، وآلام في المعدة والأمعاء، وغير ذلك. غير أن الجهات القانونية والصحية المختصة في تحري ملابسات ونتائج هذه الكارثة، لم تول هذا الملف ما يستحقه من الأهمية، وقد ربطت اللجنة البرلمانية المختصة في بحث كارثة بايلمر الجوية بشدة الأعراض الصحية التي طرأت على منطقة بايلمر بذلك الحادث، وذلك استنادا إلى حالات مسجلة في أكبر أكاديمية صحية على الصعيد الهولندي، وهي (AMC) الموجودة في مدينة أمستردام، غير أن ناطقا باسم هذه الأكاديمية نفى ذلك، معلنا أن ثمة مرضا واحدا نتج عن تلك الكارثة، وهو مرض نفسي، وقد حاولت الكثير من الجهات الحكومية والجامعية والصحية نفي أي علاقة للحادث بتلك الأعراض الصحية التي يشتكي منها الكثير من الناس، في المنطقة التي وقعت فيها الطائرة، واشتعل فيها حريق مهول. مما يثبت أن ثمة جهات معروفة لعبت دورا كبيرا في طي هذا الملف، واعتبار ذلك الحادث الجوي عاديا، كغيره من الحوادث التي قد تقع في أي مكان من العالم. نخلص مما سبق إلى أن تعاون هولندا العسكري، يعتبر معطى ثابتا من شأنه أن يكشف عن حقيقة الموقف الهولندي الرسمي من المشروع الصهيوني عامة، وعدوانه الظالم على الشعب الفلسطيني، مما يشكك في السلوك الإنساني الذي تتظاهر به الحكومات الهولندية إزاء الصراعات والحروب التي تحل، من فينة لأخرى، بشعوب العالم الثالث، فتهب لمساندة الضحايا والمتضررين بالمال والدواء والإعلام، في حين أنها تساهم بصيغة غير مباشرة، إلى جانب بعض الدول الغربية المؤثرة والمتغطرسة، في إشعال تلك الصراعات ونشوب تلك الحروب، إما بسكوتها، بل وتعاونها مع أنظمة تلك الدور غير الديمقراطية، وإما بتموين شركاتها بعض أطراف الحرب بالأسلحة والعتاد، كما تصنع مع إسرائيل، ومع الكثير من الدول الأفريقية، مما يسيء إلى الوجه الإنساني الحسن الذي تمثله هولندا؛ فلا يعدو أن يكون فعلها ذلك، إلا بمثابة دور تمثيلي في مسرحية تاريخية أو سياسية، وهو دور يتأسس على الظهور بقناعين متضادين، أو التعامل بسلوك النفاق. وتظل وحدها أصوات المهاجرين العرب والمسلمين وبعض المتعاطفين معهم، ترتفع منددة بالموقف الهولندي الرسمي المتواطئ مع العدوان الصهيوني، من خلال مظاهرات تنظم بين حين وآخر في بعض المدن الهولندية الآهلة بالأجانب، وعبر توقيعات وبيانات تنشر وتوزع في مختلف المؤسسات الدينية والثقافية والمواقع الرقمية، بل وحتى المتعاطفين الهولنديين مع القضية الفلسطينية يتعرضون لخناق شديد، يمارسه عليهم اللوبي الصهيوني المتركز على التراب الهولندي، بوسائله الإعلامية، وأجهزته القانونية، وضغوطه السياسية، كما جرى لعضو الحزب الاشتراكي هاري فان بوميل، الذي شارك في مظاهرة في مدينة أمستردام ضد العدوان الصهيوني على غزة، فدعا أثناءها إلى انتفاضة جديدة للشعب الفلسطيني ضد إسرائيل، مما جعل الإعلاميين والسياسيين والمثقفين الهولنديين المتصهينين يقيمون الدنيا ويقعدونها، بل وإن هذا الحدث ما زال يعتمل ويتفاعل، ولو أنه قد مر على حدوثه حوالي شهر!