قيمة رمزية وإحالات بقدر عال من الأهمية هو ما يشكله الأرشيف في جميع تجلياته كحاجة حيوية على أكثر من صعيد. وغير خاف ما يوفره هذا الأخير للباحثين والدارسين عموما من فرص تأمل واكتشاف تخص جوانب فكر وتراث وعمارة وأمكنة وأزمنة ووقائع وتفاعلات وغيرها، لا شك أنها بأثر في تلاقح خلف بسلف ونقل أنماط عيش ووعي وثقافة أفراد وجماعات وإنجازات إنسانية هنا وهناك. وإذا كان الأرشيف في جدل البحث والثقافة يرتب ضمن أفضل وسائط حفظ تاريخ وحضارة الشعوب فهو بحاجة إلى عناية وحضن من شأنه تحقيق حمايته وتجنب ما قد يطاله من تلف لسبب من الأسباب، من قبيل ما هناك من أرضة ورطوبة وحروب وحرائق وسوء تدبير وغيره. ولعل ما قد يحصل من ضياع يعني فقدان أثر حياة ومعلومة ما، ومن ثمة ما قد يسجل من بياض يجمع بين زمن ومكان وقضية ومحطات وأدوار وأفراد وجماعات. وبقدر ما يعد الأرشيف في كل تجلياته لسان حال وشاهدا من شواهد مشترك الإنسان الجمعي، وترجمة لحركية تاريخ وفعل وتفاعلات، وما يتصل بهذا وذاك من جوانب معرفة ومهارات وخصوصية، بقدر ما لم يكن بمنأى عن فترات حرجة من زمن بشرية انتهت بما انتهت إليه من أضرار مسته هنا وهناك. وقد تعرض أرشيف المغرب عبر الزمن، بحكم موقع البلاد وما شهدته من وقائع وأطماع أجنبية، لتجليات إتلاف كانت بأثر على أكثر من مستوى، خاصة منه حقل الكتابة والبحث التاريخي وفق ما ينبغي من توثيق. هكذا لم تكن خزانات مدن البلاد العتيقة، ومنها خزانة تازة المرينية، بمنأى عما حصل من نزيف وفقدان لأرشيف أصيل، فضلا عن آخر حديث أفرزته فترة حماية أجنبية خلال القرن الماضي؛ والحديث هنا ذو شجون. وعليه، ما ينبغي من التفات وعناية بأرشيف المدينة، من خلال إعطائه ما يستحق من رعاية وحماية وحسن تدبير باعتباره رأسمالا محليا رمزيا هاما، في أفق ما ينبغي أن يسهم به كإرث لا مادي ليس فقط لفائدة خدمة البحث والباحثين والدراسات الإنسانية والاجتماعية، بل أيضا ما ينبغي أن يكون له من حضور ضمن ورش التنمية المحلية عبر سبل إدماج رافعة، في زمن بات الرمزي التراثي بدور مؤثث للعلاقات وللمشترك الإنساني. ولم يدخر مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث جهدا منذ تأسيسه قبل سنوات في ترافعه هنا وهناك، وفي مواعيد علمية جهوية ووطنية، من أجل إنقاذ أرشيف تحكم واقعه شروط حرجة عدة ومتداخلة، خاصة منه الذي تحتويه خزانة جامع تازة الأعظم، من خلال ما ينبغي من مقترحات عملية وإجراءات، وعيا بكون إنقاذ تراث المدينة هذا وأرصدة أرشيفها هو مسؤولية الجميع كل من موقعه؛ من وزارة وصية وإدارة أوقاف وشؤون إسلامية وسلطات محلية وهيئات منتخبة ومجتمع مدني وغيره. ولم يتوان أيضا مركز ابن بري أينما حل وارتحل في أنشطته وتدخلاته وعمله العلمي البحثي والإعلامي في إثارة واقع أرشيف تازة وأمكنته، خاصة ما يتعلق بأرصدة خزانة الجامع الأعظم، وقد استحضر هاجس إنقاذه ضمن أعمال عدة في مجلات محكمة، تحسيسا بإرث مدينة نفيس قيل إن من جملة عشرة آلاف مخطوط كان يحتويها لم يتبق منها سوى سبعمائة مخطوط هي في سوادها الأعظم معرضة لكل أشكال التلف إن لم يتم التدخل قبل فوات الأوان. وعبر ما يوجد عليه من نصوص ومؤلفات، فضلا عن إسهامات إذاعية وتلفزية هنا وهناك، كثيرا ما طرح مركز ابن بري واقع ورهان إنقاذ أرشيف تازة، نظرا لِما تقدم به من مقترحات عملية تروم بلوغ ما هو منشود من تطلعات، لجعل هذا الأرشيف بما يستحق من عظمة مكان حفظ وقيمة عناية وسبل تدبير وصيانة تعكس عظمة تاريخ وحضارة مدينة؛ فضلا عن خدمة باحثين ومهتمين وورش تهيئة مجال عتيق ورد اعتبار، وحسن استثمار ما يحتويه من ذخيرة وموارد زمن. ولا شك أن أرشيف تازة جزء من كيان وهوية تراب محلي ومن ثقافة وبيئة تاريخية خاصة، بقدر ما يجب من التفات صوبه بقدر ما يمكن أن يفرزه من فرص رافعة لحاضر المدينة ومستقبلها؛ الأمر الذي ليس سهلا بلوغه دون إيلاء الأرشيف المحلي ما يجب من تثمين وحماية، ودون حرص على تثبيت بقائه وضمان استمراره عبر ما ينبغي من ترميم وتأهيل وبيئة حاضنة. ولن تتأتى ترجمة هذا إلى إنجازات حقيقية إلا من خلال روح عمل جماعي منسجم، وما ينبغي من خطوة أولى، مع طرق ما هناك من أبواب وظيفية ذات صلة، لإخراج أرشيف المدينة مما هو عليه، وإبراز مكامن قيمته الحضارية، فضلا عن معطيات ومقترحات عملية من شأن الاشتغال على أساسها إنقاذ هذا الإرث وحفظه واستثماره، وجعله رهن إشارة البحث والباحثين وورش تنمية تازة العتيقة وتثمين تراثها اللامادي. ولا شك أن أرشيف تازة الأصيل بشقيه، في العصرين الوسيط والحديث، وما تراكم عبرهما بشهادة ما لا يزال محفوظا بخزانة جامع المدينة الأعظم، أو الحديث منه الذي ارتبط بفترة الحماية على البلاد على مستوى عدد من مرافق الإدارة الاستعمارية، كما بالنسبة للبلدية خلال القرن الماضي؛ (لا شك أنه) يشكل رافدا من روافد زمن المدينة وماضيها، وسبيلا لقراءة إسهامات رافعة لحاضر التنمية المحلية ومستقبلها، إن هي أحيطت بما ينبغي من حسن تقدير وتدبير وتبصر واستشراف. ولعل من خطوات تثمين وخدمة أرشيف تازة عقد لقاء بين معنيين ضمن ما هو محلي وجهوي لتجميع الأفكار وتحديد المقاصد، إسوة بما حصل في مدن أخرى شبيهة بلغت ما بلغته من مخرجات، جعلت أرشيفها رافعا في إنقاذ مجالها العتيق وتسويق ترابها عبر مبادرات عملية مع نجاعة نسقية تدخل. وجدير بالإشارة إلى ما سبق أن تقدم به مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث من مقترحات، تخص إنقاذ أرشيف خزانة جامع تازة الأعظم المرينية، حيث العصر الوسيط وزمن تازة الذهبي؛ ويتعلق الأمر بما طرحه وتقاسمه من مقترح مع مرافق عمومية وصية محلية منذ سنوات، من شأنه إن هو تحول إلى إنجاز على أرض الواقع أن يسهم بدور معبر في رد الاعتبار لهذا الإرث اللامادي وإنقاذه من التلف. ويتوزع هذا المقترح في فكرته على تهيئة وترميم بناية قديمة تاريخية آيلة للسقوط، مقابلة لباب الجامع الأعظم الرئيسي، كانت في الأصل إقامة خاصة بطلبة هذا الجامع في الماضي منذ نهاية القرن الثامن عشر زمن السلطان محمد بن عبد الله. ولعل من شأن تهيئة هذه البناية الأثرية عبر ما ينبغي من إجراء إداري وإرادة، وتحويلها إلى وعاء جديد محتضن لأرصدة أرشيف ووثائق ومخطوطات خزانة تازة المرينية التي توجد في وضع لا تحسد عليه، لشدة ما هي عليه من شروط لا تمت بصلة لعمل وسبل وبيئة حفظ وحماية أرشيف نفيس تاريخي من هذا القبيل، أن يكون بدور وأثر ليس فقط في إنقاذ هذا الإرث المحلي والإنساني ورقمنته، بل في إعطاء نفس رافع لمجال تازة العتيق، مع تفكير في ما هي عليه المدينة من جوانب وتجل تراثي آخر، في أفق تثمين ما يجب تثمينه وتحقيق تكامل أدوار مكونات ضمن ما ينبغي من عرض جاذب في ورش ورهان التنمية المحلية. وهنا من المفيد إثارة ما ينبغي من تشارك وانفتاح على مؤسسات وطنية ودولية خبيرة، لإعطاء أرشيف تازة ما يستحق ليس فقط من صدى، بل أيضا من تأهيل وترميم وإعادة موضعة وترتيب وتأثيث، وفق سبل اشتغال ونهج تدبير علمي حديث ومؤسَّس؛ وهو الإطار الذي يمكن أن تكون فيه مؤسسة أرشيف المغرب بإسهامات وتدخلات على أكثر من منحى، من قبيل تنسيق الأدوار والتواصل مع مراكز خبرة وخبراء وتأهيل المادة الأرشيفية وجمعها، لجعل أرشيف تازة عموما الأصيل منه والحديث بما ينبغي من حفظ وقيمة تراثية وطنية، فضلا عن سلطة ترافعية وبحثية وحوار حضاري ومشترك إنساني جمعي.