في الماضي البعيد ، أي في عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، كل الانتصارات التي يحققها المسلمون ضد أعدائهم من كفار قريش ، تتم بفضل تدخل "الجيوش غير الظاهرة " ، التي ينزلها الله تعالى من السماء لنصرة المسلمين المحاربين على الأرض . نتحدث هنا طبعا عن الغزوات التي يتم حسمها بحد السيف ، ونستثني المعارك التي يتم حلها قبل أن تندلع شرارتها الأولى عن طريق المفاوضات ، وأرجو هنا أن تنتبهوا إلى هذه النقطة المهمة التي تتعلق بالمفاوضات ، حيث عندما يجد رسول الله عليه الصلاة والسلام ، أن لا جدوى من الدخول في معركة ما ، يجلس مع أعدائه إلى "طاولة المفاوضات" ، رغم علمه المسبق أنه منصور من طرف جند الله تعالى . (صلح الحديبية نموذجا ، الذي وقع فيه المسلمون وكفار قريش على معاهدة بوقف الحرب لمدة عشر سنوات كاملة ، بعدما منعت قريش موكب رسول الله من دخول مكة من أجل العمرة ، وأرغموهم على العودة من حيث أتوا ، على أن يسمحوا لهم بدخول مكة معتمرين في العام المقبل ، وكاد الاتفاق ألا يكتب ، بعدما لم يوافق مبعوث قريش على كتابة جملة "بسم الله الرحمان الرحيم" في بداية نص الاتفاق ، وأصر على أن تكتب "باسمك اللهم" ، فرفض المسلمون الذين كانوا مع الرسول ذلك ، وكاد الاتفاق أن يذهب أدراج الرياح لولا ليونة موقف رسول الله الذي أذعن لطلب مبعوث قريش وأمر الكاتب أن يكتب "باسمك اللهم" ، عوض باسم الله الرحمان الرحيم ) . وأكبر من يجب عليه أن يستخلص الدروس والعبر هنا ، هو حركة "حماس" الفلسطينية ، التي تريد إزالة إسرائيل من خريطة الشرق الأوسط وتحرير فلسطين من البحر إلى النهر رغم أنها تدرك جيدا أن ذلك مستحيل ، ومع ذلك لا تريد أن تجرب خيار المفاوضات . "" الغريب في الأمر أن "حماس" لا تملك العتاد الحربي الكافي للقضاء على إسرائيل ، والدول العربية لم يعد الاعتماد عليها في صالح الفلسطينيين بعدما أبانوا على أنهم لا يستطيعون اتخاذ أي خطوة مهما كانت بسيطة لمعاقبة إسرائيل ، ومع ذلك تصر على إزالتها من الخريطة ، بالفم طبعا . فلا هي أزالت إسرائيل ، ولا دخلت معها في المفاوضات ، ليبقى الشعب الفلسطيني وحده الذي يدفع الثمن الغالي للقرارات المزاجية لقادة "حماس" من أرواحهم وممتلكاتهم ، خصوصا منهم الغزاويين ، نسبة إلى أهل غزة ، الذين ندعو الله ألا يتكرر معهم ما عاشوه من عذاب وجرائم في الأيام الماضية. نحن لا نتهم "حماس" بأنها هي التي تقتل الفلسطينيين كما يتهمنا بذلك البعض ، الذي يقتل الفلسطينيين ويرتكب في حقهم الإبادة الجماعية بشكل وحشي هو العدو الصهيوني ، ولكننا نقول ونصر على أنه كان بإمكان "حماس" أن تجنب الفلسطينيين هذه الخسارة الفادحة في الأرواح والبنيان ، والتي تجاوزت ألفا ومائتي شهيد وشهيدة ، ومليارين من الدولارات كخسائر مادية . فماذا ربحت "حماس" من هذه الحرب غير الخسارة على جميع الأصعدة والمستويات . وللذين يقولون بأن الفلسطينيين هم الذين صوتوا على حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية ، نقول بأنهم فعلوا ذلك ليس لأن البرنامج السياسي ل "حماس" مقنع . بل لأن أهل فلسطين لم يجدوا البديل ، لأن "فتح" طالها الفساد الذي استشرى وسط قيادتها ، وأرادوا أن يجربوا "حماس" ، وها هم اليوم يزرعون ثمرات ما جربوا . *********** عندما مات رسول الله عليه الصلاة والسلام ، بعد أن أرسى أسس الدولة الإسلامية ، لم تعد "الجيوش الخفية" التي تتشكل من الملائكة تتنزل من السماء لنصرة المسلمين عندما يخوضون معاركهم ضد أعدائهم ، لأن المسلمين بمجرد موت الرسول ، تركوا الحرب مع العدو جانبا ، وشرعوا في محاربة بعضهم البعض ! ")واقعة الجمل" التي خاضتها زوجة الرسول عائشة رضوان الله عليها ، ضد علي ابن أبي طالب ، أول مثال وخير دليل على ذلك(. بموت رسول الله عليه الصلاة والسلام إذن ، أصبح المسلمون بدورهم يخوضون حروبهم ومعاركهم كما يخوضها معتنقو الديانات الأخرى ، من دون أي إعانة من السماء . علما أنه حتى في حياة رسول الله تقلصت عدد الجيوش الخفية التي كانت تتنزل على المسلمين ، بعدما رأى الله تعالى أن الضعف قد تسرب إليهم ، ونزلت الآية : "يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ، وإن تكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ، الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ، فإن تكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله ، والله مع الصابرين" . صدق الله العظيم . سورة الأنفال ، الآية 67 . وإذا كان المسلمون قد أصابهم الضعف والهوان حتى في عهد رسول الله ، فكيف يا ترى ، وبماذا سنسمي الحالة التي يوجدون عليها اليوم . وهذا برهان واضح للذين لا يريدون الاعتراف بضعفنا المزمن ، فالله تعالى ، بين لنا في قرآنه المبين كيف كان حال الأمة الإسلامية في أوج مجدها ، وكيف أصابها الضعف ، بينما نحن اليوم ، وفي أوج ضعفنا نصر على أننا أقوى أمة على وجه الأرض ! وعوض أن نعترف بالحقيقة المرة نصر على أن نكذب على أنفسنا . لكن لماذا لم يعد الله ينصر المسلمين ؟ خصوصا في هذا الظرف العصيب ، حيث يتجبر يهود إسرائيل ، وهم العدو الأول للمسلمين على المستضعفين في فلسطين ، ويقتلون الصبيان والنساء والشيوخ ، ويدمرون البيوت والمستشفيات ومستودعات الأدوية والمساجد وحتى المقابر ، بينما ينذر أن نسمع عن مقتل جندي إسرائيلي واحد على يد المقاومة الفلسطينية ، التي تقودها هذه الأيام حركة "حماس" ، التي يعفي قادتها اللحى ويحفون الشوارب ، ويدعون إلى الحكم بشرع الله وليس بالقانون الوضعي ، أي أنهم يتصرفون تماما ، حسب ما هو ظاهر ، وفق "المنهج الصحيح للإسلام" . لكن النصر على العدو الإسرائيلي مع ذلك لا يريد أن يأتي . فلماذا عندما يتم إطلاق صاروخ من صواريخ "القسام" من طرف مجاهدي "حماس" أو "الجهاد الإسلامي" وغيرهم من المجاهدين الفلسطينيين على مستوطنة أو بلدة يهودية ، ينفجر الصاروخ ، ولا يخلف في أحسن الأحوال سوى ثقبا في سقف أحد البيوت وخسائر تروح ضحيتها أواني المطبخ . فلو كان نصر الله ما يزال ينزل على المسلمين كما كان يحدث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، لكان صاروخ واحد كافيا لقتل عشرات بل مئات الإسرائيليين . ********** مصيبتنا اليوم هي أننا صرنا نعتبر النجاة من الهزيمة انتصارا ، وصار قتل جندي واحد من العدو مدعاة للفخر ولو دفعنا مقابله للعدو آلافا مؤلفة من أبنائنا ، أما في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ، فالمعنى الوحيد للنصر في أي معركة هو أن تنتهي برفع الرايات البيضاء من طرف العدو ، وكسب الغنائم ، وأسر المئات من الجنود ، وليس البحث عن "التعادل" والنجاة من الهزيمة كما يفعل المسلمون اليوم ، خصوصا منهم العرب . لذلك يبدو أن الهزائم ستلاحقنا إلى يوم الدين ، وسنظل ننتصر فقط من خلال التصريحات النارية للقادة والزعماء الحربيين ، كما يفعل قادة "حماس" اليوم ، وكما فعل حسن نصر الله في حرب يونيو عام 2006 . حيث كان يخطب في الجماهير ، ويعدهم بالنصر المبين ، وصدق الجميع كلام السيد الزعيم ، لكن على أرض الواقع هناك كلام آخر ، وهناك واقع آخر ، وهناك أشياء تثبت بالملموس أن نصر "حزب الله" لم يكن حقيقة ، بل وهما ، ومن يدعي عكس ذلك نسأله أين هي ثمرات النصر إذن ؟ والجواب الذي يؤكده الواقع هو أنها غير موجودة ، باستثناء جنديان تم أسرهما وكانا السبب في نشوب الحرب ، وأعادهما "الحزب" في ما بعد إلى إسرائيل في عملية تبادل للأسرى ، أرجعت من خلالها إسرائيل سمير القنطار إلى "حزب الله" وتسلمت مقابله جندييها الأسيرين ، والنصر الذي تحدث عنه السيد حسن نصر الله هو في الواقع هزيمة نكراء ، ليس لحزبه ، وإنما للبنان ، الذي تكبد في هذه الحرب خسائر فادحة في البنيان والقناطر والجسور ، كلفتها خمسة عشر مليار دولار ، وهو مبلغ ضخم لا يجمعه إلا الفم ، مبلغ يكفي لبناء مئات المدارس والمستشفيات والجامعات والمعامل والمصانع لفائدة الشعب اللبناني ، لكن "حزب الله" حرمهم منها ، بفضل الحرب التي خاضها ضد إسرائيل ، بدون سبب وبدون أن يربح منها شيئا ، وهذا ما يسميه المغاربة ب "التقلاز من تحت الجلابة" ، الذي صار العرب بمجرد أن يقوموا به في وجه إسرائيل يعتبرونه انتصارا مبينا. وهنا أؤكد مرة أخرى على أننا لا نحمل لحزب الله مسؤولية تدمير لبنان ، بل نحملها للقوات الإسرائيلية ، مثلما لا نحمل مسؤولية قتل المدنيين الفلسطينيين لحركة "حماس" ، ولكننا نقول بأن حزب الله كان بإمكانه أن لا يتسبب في هذه الكارثة العظيمة للشعب اللبناني ، مثلما كان بإمكان حركة "حماس" أن تحافظ على أرواح الشعب الفلسطيني من الهلاك. *************** فلماذا لم ينتصر حزب الله إذن ؟ ولماذا لم تنتصر حماس ؟ ولماذا لم يشتت الله شمل الإسرائيليين الظالمين المعتدين ، رغم أن مئات الملايين من المسلمين يتضرعون إلى الله كل يوم جمعة أن يشتت شمل اليهود ؟ ولماذا لم تستطع صواريخ "القسام" أن تسقط الطائرات العمودية الإسرائيلية التي تهطل من فوهات مدافعها زخات من القنابل والصواريخ التي تقتل المدنيين العزل ؟ الجواب هو أن الله تعالى ، عندما كان ينزل جنوده من السماء لنصرة المسلمين ، يفعل ذلك لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ، كان يحكم بالعدل والقسط ، والحروب التي كان يخوضها تتم باسم الدفاع عن دين الإسلام . أما اليوم ، فقد طغى الظلم والاستبداد والفساد وسط الحكام المسلمين ، حتى أن "الكفار" ومنهم كفار إسرائيل صارت بلدانهم واحة للعدل والقسط والحق كتلك التي كانت في بلاد المسلمين أيام السلف الصالح ، فيما نعيش نحن المسلمين وسط ساحة جهنمية يطغى فيها الظلم والطغيان والباطل ، والحروب التي نراها اليوم هي حروب سياسية وليست حروبا دينية كما يريد البعض أن يوهمنا . فكيف تريدون أن ينصر الله المسلمين ونحن نرى كيف تقاتل الإخوة الأعداء في فلسطين قبل أشهر من أجل أن يستفرد كل واحد منهم بالحكم . كيف سينصر الله المسلمين ونحن نرى كيف أن "حركة طالبان" التي تواجه أمريكا ، ويدعي أعضاؤها أنهم يطبقون الشريعة الإسلامية كما أنزلت ، يتاجرون في المخدرات ، ويصدرون الهيروين إلى كل أصقاع العالم من أجل تدمير مستقبل الأطفال والمراهقين والشباب ، بمن في ذلك الشباب المسلم في باكستان المجاورة وإيران وغيرها . كيف تريدون أن ينصر الله "المقاومة " العراقية وهي التي تفجر أجساد أبناء العراق وليس أجساد جنود الاحتلال الأمريكي . كيف سينصر الله المسلمين ونحن نرى كيف أن الأسر الحاكمة في البلدان الإسلامية ، خصوصا منها العربية ، ينهبون الخيرات ، ويبنون القصور ، ويشربون من أواني الفضة والذهب ، ويغسلون أيديهم بالماء الذي يسيل من الحنفيات المصنوعة من الذهب الخالص ، ويلبسون الحرير ، بينما الشعوب تعيش في أتون الفقر والقهر والظلم والحرمان . استيقظوا إذن من النوم وكفى من الأحلام ، جيش الإسلام لن ينبعث من جديد ، وجيش محمد لن يعود ، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم مات قبل 1400 عام ، بعد أن بلغ الرسالة الإلهية وأدى الأمانة على أكمل وجه ، وكان نعم الرجل الصادق الأمين والحاكم بين الناس بالحق ، يقسو على العدو ويرحم أبناء أمته ، أما حكامنا اليوم ، فيرحمون العدو ويقسون علينا وكأننا نحن هم العدو . فحرام إذن أن نفكر في نزول جند الله من السماء لنصرة هؤلاء الحكام الطاغين المستبدين الذين لا فرق بينهم وبين فرعون وعاد وثمود ، لأن التفكير في ذلك ، يعني بكل تأكيد أننا نقول عن جهل بأن هؤلاء الحكام لا فرق بينهم وبين الرسول الكريم ، ومعاذ الله أن نفعل ذلك . وإذا كان الله تعالى قد قال لنا في القرآن الكريم "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" ، فيجدر بنا أن نكف عن الأحلام والأماني ، ونقف لحظة للتأمل في أحوالنا . ولو فعلنا ذلك ، لربما خصص الملايين من المسلمين جزءا من الوقت الذي تستغرقه المظاهرات التي يقومون بها ضد إسرائيل وأمريكا للتظاهر ضد حكامهم الظلمة المعتدين . وفوق كل هذا ، يجب على المسلمين أن يدركوا جيدا ، أن الذي يحسم الحروب ويحقق النصر في هذا الزمان هو الأسلحة المتطورة ، وليس الأحلام والأماني والشعارات الفارغة التي يتربع على عرشها شعار : خيبر خيبر يا يهود ، جيش محمد سيعود ! [email protected]