مبكرا عن موعدي مع زميلي في المدرسة وقفت أمام المرآة أصفف شعري. بادرت إلى حمل المشط أرتبه رغم الساعة ونصف الساعة، التي تفصلني عن اللقاء بزميلي. وقفت أصفف خصلاته في عناية كنساج يعالج خيوطا منسوجة، أتبعها بالمشط في تأن من الناصية حتى مستهل القفا. أملا في أن يصبح أمام عيني بصورة أجمل، وهو يشبه صرعة جيمس دين أو حين أمشطه جانبا مفروقا تسريحة عبد الحليم حافظ. لكن وما إن أمر عليه بالمشط، حتى يتحول منظره إلى بشاعة كريهة تجعلني أمقته، أبعثره وأعيد تصفيفه من جديد. كنت أستعين على تليين تسريحته بالماء وحين ألمس منه تقدما، أجرب أحيانا معه قليلا من زيت الزيتون حتى أخفف من استعصاء تسريحته. من حسن حظي تلك الظهيرة أن البيت لم يكن آهلا، وإلا ستهتف بي أمي وهي تلحظ طول وقوفي أمام المرآة: "يا فتاح يا عليم، عجل، حتى البنات لا يطلن وقوفهن أمام المرآة مثل وقوفك". رغم بذلي قصارى جهدي في الاهتمام اللطيف بهندامي، فقد كنت مقتنعا كل القناعة، أن الشخص هو شعره. دليل سلامة ذوقه، أناقته، عربون جماله. كنت مقتنعا، بأن الشعر تاج من لا تاج له. واصلت تجريب كل الأساليب، التي كنت أعرف حتى أحصل على تصفيفة ترضيني وأطمئن إليها. لكن مع ذلك فقد امتد كري على خصلات شعري من غير أن تستلين وتسعفني. لحظة وفي غفلة عابرة عن المرآة، انتبهت إلى أن تصفيف الشعر، قد سرق مني كل الوقت المتبقي على موعد الفيلم، الذي كنت أود مشاهدته في معية زميلي في المدرسة، وأن الفاصل الزمني بيني وبين بدايته لا يتعدى ربع الساعة. بادرت بالإسراع إلى لبس الحذاء وأنا مازلت غير راض عن تصفيف شعري، مددت يدي إلى معطف أخي الأحمر، ويا ليت يدي شلت قبل أن تصله. ارتديته على عجل، ويا ليتني ما ارتديته يوما في حياتي ثم خرجت مسرعا إلى موعدي. كنت أحث الخطى عبر أزقة المدينة الضيقة المختنقة بالبضائع وبالمارة، مواظبا بين لحظة وأخرى على المسح والضغط على شعر رأسي بيدي حتى يحافظ على استوائه النسبي. تابعت وأنا أمرر يدي دون شعور على ياقة معطف أخي الأحمر ومنه على رأسي بحركة خفيفة وكأني متربص بجرم لا أرغب في أن يكشف مكنونه أو يلحظه أحد غيري. لم أكن أسير ولكنني كنت أطوي الأزقة تحت قدمي طيا وأنا مفعم بالفرح. حين دنوت من مكان موعدي، سمعت لغطا كان يصل إلى مسامعي من صوب الاتجاه الذي كنت أقصده وصياح يعلو تارة ويخفت أخرى.. لكن بقدر ما كانت خطاياي تتقدم من مكان الموعد، بقدر ما كنت أسمع اللغط والصياح يصدح عاليا ويتحول رويدا إلى هتاف إيقاعي. على مرأى من عيني، أبصرت حشدا من الناس متجمهرا في ساحة صغيرة تفصل الشارع الذي أسلكه وباب السينما، حول رجل وجيه يقف فوق عتبة دكان مغلق وكلماته تقطعها من حين إلى آخر هتافات المتحلقين من حوله. كان الرجل الوجيه الفارع القامة يتحدث بشيء لم أتبينه. توقفت لبرهة، ثم أدركت أنه لم يعد أمامي للوصول إلى السينما، حيث كنت على موعد مع زميلي عند مدخلها، أي خيار غير خوض غمار التجمع البشري المحتشد، الذي كان يسد كل منفذ. لم أعر في تلك اللحظة الخطيب أي اهتمام ولا سبب تجمهر هذا الحشد، فكل ما كان يستحوذ على مخيلتي، هو الفيلم، وجه الممثلة الحسناء نادية لطفي والثماني والثلاثين قبلة، التي أحصاها التلاميذ، الذين شاهدوا الفيلم قبلي وعدوها عدا. مخرت عباب البشر وحين لم يبق بيني وبين باب السينما إلا بضع خطوات، شعرت بي أتراجع مجذوبا من معطف أخي الأحمر إلى الخلف وصوت يهتف بي من بين الجمهرة. كان ذلك زميلي في المدرسة. تبعت إشارته حتى إذا ما وصلت إلى حافة الجمع حيث كان يقف، سألته عن سبب هذا التجمهر، فقال: إنها مظاهرة احتجاج على الزيادة في السكر، نظمتها إحدى المنظمات العمالية. لم يكن وهاد دافعي للسؤال غير الرغبة في معرفة إذا ما كنا سندخل السينما الآن رغم مرور حوالي عشرة دقائق على بداية الفيلم. لم أتمكن بعد من سماع جواب زميلي، حتى جرفنا زحام الجموع المندفعة في اتجاه واحد وهي تهتف بشعارات معادية للزيادة في السكر. عندها أصبحنا وسط السيل. لم تعد تجدي المقاومة ولم تعد هناك إمكانية التراجع، كما لم يعد أمامنا في خضم ذلك التحرك الجارف، غير المضي قدما والانجراف مع السيل. كانت الحشود تهتف في جوقة واحدة يتقدمها شابان، أمسك كل منهما بنهاية عمود طويل ثبت من أعلاه حتى منتصفه خرقة عريضة كتب عليها بحروف جلية "الكلمة للشعب" وأنا أسير في الجمع كنت غارقا في تهجي هذه الكلمة التي كانت تستعصي علي قراءتها من الخلف. انحشرنا عبر شوارع ضيقة لم يكن لي فيه بد من مواصلة التقدم ضمن أسراب المندفعين، وهمي الوحيد الآن، ترقب أول فرصة أو متسع سانح، للانسلال من بين الحشد والتراجع للبحث عن زميلي، الذي رأيته في الطرف الآخر يتسلل من الجمع إلى داخل إحدى المقاهي. تابعت تهجي كلمات اليافطة مموها نفسي بالانشغال بها عن ما يدور من حولي، تذكرت شعري، الذي أوشك على التشابك من فعل الأذرع المرتفعة. رفعت يدي محاولا، رغم وطأة الزحام، مسحه من جديد. أعدت يدي رطبة من أثر زيت الزيتون الممزوج بعرق الرأس، وأردت دون شعور تجفيفها على المعطف الأحمر، لكنني عدلت عن نيتي حين تذكرت فورة غضب أخي، لكنني مسحتها على سترة متظاهر رجل قصير القامة كان يمشي إلى جانبي، وكأني أهنئه بالربت على كتفه. لحظة وما أن وصل حشد المتظاهرين إلى وسط ساحة مباشرة لبوابة سور المدينة، حتى تعثرت خطاي وخطى من معي على إثر تعثر خطى الصف، الذي كان يتقدمنا وهذا الأخير في خطى الذي أمامه... إلخ. نهضت متزحزحا عن الأجساد المبعثرة هنا وهناك وأبصرت من فوق الأكتاف وظهور المتظاهرين، الذين مازالوا يتماثلون إلى النهوض، هراوات ترتفع وتنزل على وجوه وأكتاف الصفوف الأمامية. في تلك اللحظة، انفرطت من مخيلتي صورة الحسناء، الثمانية والثلاثين قبلة وفرحة بهجة الضوء والظلام وحتى متعة التلذذ بأكل الفستق اثناء الفلم ولفض قشوره على المقاعد الأمامية. استدرت وسط فوضى الخوف من الهراوات وركلات الأحدية الصلبة، لا ألوي على شيء وانطلقت كجل الخلق أبحث عن مخبأ أواري فيه سوءتي. لم أر غير مدخل فندق عتيق أمامي فولجته. لسوء طالعي كان قد سبقني للاختباء خلف بابه تلميذ آخر في مثل عمري وشاب ملتح. لم يمر على التصاقنا بجدران الفندق غير ثوان معدودة، حتى وقف أمام البوابة الوحيدة للفندق، شرطيان، انقضا علينا في تفان. أمسكني أحدهما بيد من ياقة معطف أخي الأحمر وبالأخرى على ذراع التلميذ الآخر، بينما كان زميله يسوق الشاب الملتحي من يده اليمنى الملوية إلى الخلف. بعد أن غادرنا المكان صحبة أعداد بشرية كثيرة، كانت محشورة في حيز ضيق لخلفية سيارة أمن لا تحمل أية علامة، نزلنا ضيوفا على مركز الشرطة. أدخلنا نحن الثلاثة، أصحاب الفندق، ولا أعلم حتى اليوم مقاييس عزلنا، إلى غرفة مظلمة خالية من كل شيء، لا منفذ لها إلى الضوء إلا كوة ضيقة، تحاذي نهاية مرتفع الجدار. خيم السكون على الغرفة لساعات علم طولها عند ربي. فقد فقدنا علاقتنا بالزمن ولم نعد نسمع غير وقع خطوات أحذية عنيفة، سريعة الإيقاع تعبر من وقت إلى آخر المرر. أبواب تفتح بمفاتيح ذات صدى رهيب وتغلق بصرير يمزق غشاء طبلة الأذن. لا أدري كم مر من الزمن، قبل مجيء رجل كهل تعلو محياه علامات الهدوء. فتح الباب، وقف عند العتبة وقال بصوت هادئ: "يا أبنائي، أنتم شباب بل لا تزالون بعد أطفالا، لماذا تحشرون أنفسكم في ما لا يعنيكم. أكيد أن أولياءكم لا يوافقونكم على هذا". انتهزت فرصة حديثه، مطمئنا إلى ملامحه الهادئة ومسحت على شعري أصففه وأعدل من هيئة معطف أخي الأحمر. أثناء ذلك صاح الشاب الملتحي: "إننا ندافع عن حقوقنا والكلمة للشعب". في تلك اللحظة تبادرت إلى ذهني الحروف المكتوبة على اللافتة، غير أني سرعان ما طردتها من مخيلتي حتى لا يفطن لها المخبر، الذي قال للشاب بملامح هادئة: "تعالى معي وقل ذلك بنفسك للمعلم (الرئيس) فهو يفهم ذلك". ما أن غادر الشاب الملتحي الغرفة بثوان، إلا وسمعنا صدى ارتطام رأسه على الحائط، الذي أفشاه صراخه، الذي رددته أرجاء البناية. "أمي". أحسست من شدة الخوف أن البول بدأ يتسرب مني عنوة، وحتى أقصره على التراجع، انزويت في ركن وتكومت على نفسي ممسكا بياقة معطفي وقد اعترتني نوبة مزيج من البرودة والحمى. كان التلميذ الآخر كلما سمع حركة في خارج الغرفة إلا ويجري إلى الباب، يلصق أذنه عليها ليسترق السمع. بعد فترة طويلة هدأ الصراخ، ثم تحول إلى أنين. فتح الباب وألقي بالشاب الملتحي، شاحب الوجه كالعائد من عالم الأموات، داخل الغرفة، وهو يصيح لا إله إلا الله محمد رسول الله. حين أغلقت باب الغرفة، أصبت بذهول لم أعد أرى معه، إن كنت قادرا على لمس الشاب الملقى ككيس قمامة على الأرض، أم أن الابتعاد عنه أفضل. بعدما أحسست بدفء ورطوبة بين فخذي. تابع الشاب بعد استراحة قليلة من ألم أوجاعه، الصياح والسباب، ثوان يسيرة بعدها عاد الرجل الكهل إلى الغرفة من جديد في هدوئه المعهود: "تعال معي، لقد أخطا المعلم في معاملتك، فقد اعتقد أنك شخص آخر. خرج الشاب معه دون أقل مقاومة ما أثار دهشتي من جديد، وكانت تلك آخر مرة في حياتي رأيت فيها الشاب أو سمعت صوته. ما إن أغلق الباب حتى سمعت صفعة مدوية، تبعها موال صراخ من أوله، وكنت أرتعد كلما سمعت صداه الممزوج بارتطام الحائط وصوت الشاب يكرر الشهادة بأقصى ما تكتنز حنجرته من قوة. لم يطل الأمد هذه المرة إلا وقد عاد الرجل في الهادئ كالمعتاد، فتح الباب وقال بكل ترو: "أنتما رفيقاه في المظاهرة وفي المنظمة؟" "أقسم بالله العلي العظيم وحق سيدنا محمد لا أعرفه ولم أسر في مظاهرة في حياتي وإنني بريء". قلت والدموع تسبقني إلى حذائي. "بريء الكل يقول ذلك"، قال الرجل ثم نظر إلى المعطف الأحمر بعيون جاحظة، "وهذا المعطف الذي تلبسه ماذا يعني؟" دون أن أفهم ما الذي كان يعنيه بالأحمر، أجبته: "إنه ليس لي، هو لأخي الأكبر مني سنا، ماذا في ذلك أليست راية بلدنا حمراء". غير أن الجملة الأخيرة أسررتها في نفسي. ثم قال: "تعالا معي إذن إلى المعلم، فهو من يفهم أفضل". تبعناه إلى غرفة مجاورة أكثر شقاء من التي كنا فيها حيث وقف مخبران لا تنم ملامحهما على أنهما ينتميان إلى الآدميين وثالث بجثة ضخمة كدب سيبيري، ببطن كبطن حمل مشوه تتقدمه إلى كل فعل يقوم به وشوارب تحجب كل شفة فمه العليا. خاطبه المخبر الكهل: "لفقي، (الفقيه) استمع إلى ما يقولان فأنت تفهم كلامهما أفضل". لم يعلق الفقيه بشيء، وكل ما فعله هو أن سحب "الفلقة" ثم أمرنا بخلع أحذيتنا. حاول التلميذ مرافقي أن يستذر عطفه، وقبل أن يستطيع التلميذ فتح فمه بالرجاء، أغلقه له الفقيه بلطمة على خده جعلتني أعجل بخلع حدائي والدموع تسبقني إليه وقد أطلقت العنان لبقية سائلي الساخن. بعد أن تمددنا على ظهورنا على الأرض شرنق الفقيه أرجلنا معا بين عصا وحبل الفلقة، وشرع يلوي العصا حتى توقف دم عروق قدمي من الجريان. بعدها كنا على موعد مع المخبرين، اللذين أمسك كل منهما بطرفي العصا بإحكام وبدا الفقيه بالضرب على أرجلنا بسوط مقدد من ذنب ثور. بعد الجلدة الثالثة، لم أعد أشعر بأي شيء، لا بالألم ولا حتى أين موقع قدمي من جسدي. لم أجد حولي ما أشفي به غليلي غير العض على أسفل حذاء أحد المخبرين، الذي كان يسد به فمي حتى لا أواصل الصراخ عاليا. لم نعد بعد انتهاء الضرب وفك الشرنقة عن أرجلنا، قادرين على السير بل ولا حتى على الوقوف.. ساقنا الفقيه زاحفين على جنبنا وأحذية مساعديه توغل مؤخرتنا بالركلات، التي تدفعنا غير طائعين إلى الأمام عشرات السنتمترات. ساقنا إلى غرفة أخرى أرضيتها مكسوة بالحمص الجاف. أمرنا والسياط تلهب ظهورنا، بالسير فوق الحمص، الذي كان ينزلق من تحت أقدامنا فننقلب على قفانا تارة وأخرى على ظهورنا. بعد ساعات من التدحرج، عاد الكهل ذو الملامح الهادئة وقد أصبح رأسنا من التورم، كحقل يسكن جوفه حيوان خلد وقال: "لقد أشفق عليكما المعلم هذه المرة لأنكما تلميذان، أما المرة القادمة فسيكون للفقيه معكما حديث آخر". أدخلنا إلى كنيف زنزانة مختنقة بالجانحين ورائحة الغائط منتشرة، وحيث أن مجرى ثقب الكنيف لم يعد يمرر شيئا، فقد أضاف إليه المسجونون حيزا، دُفعنا إلى الوقوف في محتوياته حتى الركب إلا قليلا. لم أعد أذكر كم مضى من الوقت ونحن نقف في ذلك الوحل من الغائط حتى أنني أصبحت غير قادر على التمييز بين أيهما أفدح، الألم أم الرائحة الكريهة. رغم خور ووهن ركبتي، كنت أجهد نفسي حتى أحفظ معطف أخي الأحمر سليما من براثين العضة. بعدها دخل شرطي يزعق كل الوقت ليخرجنا نحن الاثنين إلى حنفية حيث سيسمح لنا بغسل أرجلنا. ونحن نمر وسط الزنزانة كان السجناء المنسيون بتهم كل أنواع الجُنح، يغلقون أنوفهم بأيديهم ويبصقون على الأرض من فرط عطانتنا ويأسفون في الوقت نفسه لحالنا. حالما انتهينا من تنظيف أرجلنا، ساقنا الشرطي الزاعق كل الوقت من جديد إلى حلاق، كان في انتظارنا وقد أمسك بيده آلة حلق خرساء، صدئة. وقف في وسط غرفة تغطي أرضيتها كثبان من شعر الآدميين، بدأ يحلق رأس التلميذ مرافقي بيد ويدخن سيجارته باليد الأخرى على رسله وعيناه تطلان من النافذة نحو البعيد. بعدها جاء الدور على شعري، الذي ربيته شهورا وفقط في ذلك اليوم، قضيت ساعة وربع ساعة في تصفيفه. بعد بضعة أيام من إطلاق سراحنا، رأيت وأنا في طريقي إلى المدرسة الحسناء نادية لطفي مازالت صورتها على الإعلان الكبير بباب السينما تتبعني بعينيها وأنا أمر أمامها وتقرع رأسي المحلوق بابتسامتها الساخرة. ملحوظة: منذ ذلك اليوم المشؤوم، لم أعد أستعمل أي شيء أحمر أو فيه اللون الأحمر وإن كان ولا بد أسميه لونا آخر.