أولا: نبذة موجزة عن فوج 2004 من أساتذة اللغة العربية و الثقافة المغربية ببلجيكا. جميع أساتذة هذا الفوج قضوا على الأقل 10 سنوات من التدريس بالابتدائي في المغرب، حاصلون على اجازات تعليمية في اللغات و آدابها، العلوم الانسانية، العلوم التجريبية...، مرتبون في السلم العاشر، مزد وجو لغة التدريس: عربية و فرنسية. بعد مباراة كتابية و مقابلة شفوية، تم تعيين 70 أستاذا خلال الموسم الدراسي 2004.2005 لتدريس اللغة العربية و الثقافة المغربية في بلجيكا لأبناء الجالية المغربية المقيمة بهذه الديار. هذا التعيين تعرف عليه الأساتذة في الرباط في لقاء جمعهم بالمسؤول الوزاري، و خلاله تم التأكيد لهم على أن مدة الانتداب لن تتجاوز أربع سنوات، و أن على جميع الأساتذة وضع هذه الفكرة في أجندتهم الشخصية و العائلية. التحق الأساتذة المعينون بدوائرهم القنصلية في بلجيكا: بروكسيل، أنفيرس و لييج ثم تم تعيينهم من طرف السيد رئيس مصلحة التعليم بالسفارة بالمدارس البلجيكية و الجمعيات (المغربية) بالمساجد و المجتمع المدني. هنا بدأت تظهر صعوبات بصيغ مختلفة: 1. السكن: باعتبار أن جميع الأساتذة يتوفرون فقط على جوازات سفر الخدمة، في انتظار صدور بطائق إقامة خاصة، لأن الحصول على سكن، كان يصطدم برفض عدد من الملاك الكراء لأشخاص لم تسو بعد إقامتهم، مما جعل عددا من الأساتذة يقبلون كراء مساكن، عن طريق العلاقات العائلية أو الصداقات أو تدخل بعض ( أصحاب النيات الحسنة)، هذه المساكن، في الغالب، لا تتوفر على الشروط الصحية و العدد الكافي من الغرف و التجهيزات الضرورية... 2. التجمع العائلي: عند وصولنا إلى المطار الوطني ببروكسيل، الأحد 16 شتنبر 2004، انتظرنا 4 ساعات ، بدعوى أن السلطات البلجيكية غير مخبرة بوفودنا إلى بلجيكا، و بما أن تاريخ وصولنا تزامن مع الأحد، فإن الاتصالات بين المسؤولين المغاربة و السلطات البلجيكية أخذت وقتا طويلا ليحل المشكل في الأخير، و يسمح لنا بدخول التراب البلجيكي، لتبدأ معاناة جديدة هي التحاق الزيجات و الأولاد بالنسبة للأساتذة و الأزواج و الأولاد بالنسبة للأستاذات, بعد حوالي شهر، التحقت خمس أسر، انتظرت بضع ساعات بالمطار حيث تم استجوابهن، خاصة أن الزيجات كن يصطحبن أولادهن، ثم سمح لهن بالمرور, باقي الأسر التحقن بين فبراير و ماي 2005. أما عدد من الأساتذة ففضلوا عدم إحضار أسرهم لأسباب شخصية. 3. الرعاية الصحية: للاستفادة من التغطية الصحية عليك أن تتوفر على رقم وطني، و ليكون لك رقم وطني يجب أن تكون مسجلا كمقيم في جماعة حضرية أو قروية في بلجيكا، و بما أن بطاقات الاقامة الخاصة تأخر صدورها لأسباب ترتبط بالبروتوكول البلجيكي، فإن الأساتذة كان عليهم تحمل مصاريف التطبيب و الدواء... من مالهم الخاص، و ما أدراك ما مصاريف العلاج بهذه البلاد، خاصة عند الاضطرار إلى دخول المستشفى و هو ما كلف بعض الأساتذة مئات الأوروات و أكثر، وما برر لجوء البعض إلى طلب المساعدة الطبية (الصليب الأحمر، أطباء بلا حدود، الدور الطبية...)... 4. المستوى المعيشي: ابتداء من فبراير 2005، بدأنا نتوصل ببطائق الاقامة الخاصة، تجدد كل سنة، فأصبح لنا الحق في التغطية الصحية، لتبدأ معاناة جديدة، خاصة الأسر المكونة من عدة أفراد: 4،5،6 أفراد وأحيانا أكثر، مع مصاريف العيش من تمدرس للأولاد، نقل، تغذية، لباس، تجهيز منزلي، مصاريف الماء و الكهرباء، غاز و اتصالات... بحيث أن التعويض الجزافي غير كاف، الزوجة أو الزوج لا يمكنه الاشتغال إلا عند الحصول على ترخيص بالشغل من فئة ب، ...و لا يسمح للأساتذة بالقيام بنشاط مهني قانوني آخر... أمام هذه الوضعية المادية الصعبة، توفقت عدد من الزيجات من الحصول على شغل قانوني، لتتحسن الوضعية المادية لأسرهن، أما المعسرون فلجأوا إلى وسائل أخرى للتغلب على المصاريف المرتفعة للعيش، من ضمنها الاقتراض و الأداء بالدرهم من الأجرة المحولة في المغرب... 5. ظروف العمل: أثناء لقائنا بالمسؤولين التربويين في المغرب قبل مجيئنا إلى بلجيكا، تم إخبارنا أن حقيبة تربوية تنتظرنا في مصلحة التعليم، خلناها عبارة عن محفظة من الجلد الرفيع، تغلق بالأرقام السرية، بداخلها مراجع تربوية و كتب مدرسية و عدة بيداغوجية محترمة، فنحن من خيرة أساتذة المغرب، كما صرح به، المسؤول الوزاري بالرباط، عند تنظيمه اللقاء التواصلي معنا في صيف 2004 بحضور السيد الوزير السابق الحبيب المالكي، لكن صدمتنا كانت قوية، عندما وجدنا أن الحقيبة التربوية عبارة عن 6 ورقات من فئة A4 بها توزيع سنوي لعناوين دروس لا مرجع و لا كتاب مدرسي لها، وطلب منا أن نؤدي ثمن استنساخها، لتبدأ معاناة جديدة: الأستاذ المكلف بالتدريس عليه أن يتحول إلى باحث عن المراجع و الدروس الملائمة لمستوى متعلميه و بيئة تعلمهم: تلاميذ ناطقون بالفلامانية، الفرنسية، الاسبانية أو الايطالية...، و إن لم يجد عليه أن يتحول إلى باحث تربوي و مؤلف للكتب المدرسية... تم تعييننا بمدارس بلجيكية لتدريس اللغة العربية خارج الزمن المدرسي، بعد أن يكون التلميذ قضى 6 ساعات من التدريس داخل الزمن المدرسي، يأتي ليحضر درس اللغة العربية خلال مدة تتراوح بين ساعة و نصف و ساعتين، و بما أن عدد ساعات العمل قليلة في المدارس، فإن عليك العمل بالجمعيات، المتوفرة على قاعات للتدريس ملحقة بالمساجد، العمل بها يتم طيلة يومي السبت و الأحد و أحيانا الأربعاء بعد الزوال...أما عدد قليل منا، لا يتعدى 6 أو 7 أساتذة فيدرسون التثاقف l'interculturel خلال الزمن المدرسي بمدارس بلجيكية، خاصة في بروكسيل و مونس، حيث أبهر هؤلاء الأساتذة المسؤولين التربويين البلجيكيين بجودة الأعمال التربوية التي قاموا بها، و للأسف الشديد تم الاستغناء عن أحد هؤلاء الأساتذة خلال الموسم الدراسي الماضي رغم المجهود التربوي الكبير الذي قام به في مدرسة ببروكسيل يرتادها تلاميذ، أغلبهم من أصول مغربية... ثانيا: لماذا ترغب السلطات الحكومية في التخلص منا؟ بعد التحاقنا ببلجيكا ببضعة أشهر، توصل 11 أستاذا منا بخبر نجاحهم في امتحان الترقية إلى السلم 11، ومع توالي السنوات ترقى أغلب الأساتذة إلى السلم 11 بالامتحان أو الاختيار، فبدأت تتراكم لدى مشغلنا مستحقات الترقية، ليبدأ التوجس و القلق عن مصير هذه المستحقات المالية، فبدأت تتشكل لجان ذات توجه مطلبي محض، يروم التوصل بالمستحقات لمواجهة التكاليف المرتفعة للعيش، وفي سنة 2009 التأمت لجنة حكومية قررت تسديد مستحقات الفترة: 16 شتنبر 2004 إلى 31 دجنبر 2009 على 3 دفعات، و هو ما خلق ارتياحا لدى شريحة واسعة من الأساتذة، إلا أن فئة من الأساتذة صعدت من مطالبها و نظمت أياما لحمل الشارات و وقفات احتجاجية في الساحة الخلفية لمصلحة التعليم بالسفارة و إضرابات عن العمل وراسلت جهات مختلفة للتعريف بالملف المطلبي... بعد هذا التصعيد غير المسبوق، أصدرت لجنة الخارجية بالبرلمان المغربي تقرير 2012اتخذت فيه قرارات ذات وجهين: الوجه الأول: التسوية المادية لمستحقات الأساتذة المتبقية على دفعتين: 1 يناير 2010 إلى 31 يناير 2013 و تحيين الأجور، بالنسبة للدفعة الأولى، تم التوصل بها، الثانية في الانتظار أما الأجور فتم تحيينها. النتيجة: بالنسبة للحكومة، أصبح أستاذ اللغة العربية و الثقافة المغربية مكلفا لخزينة الدولة، لقد أصبح بإمكانه أن يعيش حياة كريمة، ... وهو ما يقلق عددا من الناس، ضمنهم، ربما، مسؤولون بارزون، لماذا؟ الله أعلم. الوجه الثاني: سيتم تعويض الأساتذة، في إطار التجديد التربوي على ثلاث دفعات. ن أي تجديد تربوي يتحدثون؟ الأساتذة الحاليون حاصلون على إجازات تعليمية، تلقوا تكوينا في التربية و التعليم، قضوا أزيد من 20سنة في التدريس، ضمنها عشر سنوات في بلجيكا، و راكموا تجارب طويلة، عدد من الأساتذة شعراء، قاصون، روائيون، باحثون في علوم التربية... منهم من تابع دراساته العليا المسائية و حصل على شهادات أكاديمية عليا... فعن أي تجديد تربوي يتحدثون؟ الحقيقة في تبديل الأساتذة هو تعيين أساتذة، بكلفة منخفضة discount, bon marché, lowcoast, وليعذرني زملائي الأساتذة، فهذا ليس انتقاصا من قيمتهم و مكانتهم التربوية و إنما هو تحليل موضوعي، ما هو الدليل؟ أكثر الأساتذة الحاليون مرتبون في السلم الحادي عشر، الأساتذة المختارون في السنة الماضية مرتبون في السلم العاشر، الرتبة الخامسة، أي أنهم سيتقاضون في بلجيكا تعويضا لن يتجاوز 1560 يورو، علما أن معدل ثمن كراء شقة في بلجيكا سنة 2013 هو 730 أورو أي 50% من التعويض الجزافي، ناهيك عن المصاريف الأخرى... ثالثا: آثار إنهاء المهام على الأساتذة و أسرهم بعد مرور السنوات الأربع الأولى، لم يقدم مشغلنا على انهاء مهامنا، مما أعطى الأساتذة احساسا بالأمان الاجتماعي، فلجأ عدد منهم إلى اقتراض سلف من الأبناك و شراء سكن في بلجيكا، يؤدي أقساطه الشهرية، وهكذا انخرط عدد منا في مشاريع استثمارية و استهلاكية ببلجيكا و المغرب لتحسين حياته، وهذا حق، ما دام يتم وفق الشروط القانونية. بالنسبة، للأولاد، فبعد مرور عشر سنوات ببلجيكا فإن اندماجهم في المنظومة التعليمية البلجيكية أصبح محصلة حاصل، و عدد من الأولاد يتابعون دراساتهم في الثانويات و المدارس العليا بالفرنسية أو الفلامانية أو هما معا، و هناك من الأولاد الذين أنهوا دراساتهم و اندمجوا في سوق الشغل أو يبحثون عن فرصة عمل... في حال عودة هؤلاء الأسر مرفوقين بأولادهم، التعيين يتم في مؤسسات نائية، كما لو أن الأستاذ تخرج حديثا، الأولاد لا يمكنهم متابعة الدراسة في التعليم العمومي بسبب لغة التدريس المختلفة كليا عن تلك المعمول بها في أوربا: الفلامانية لا وجود لها أو متمركزة في الدارالبيضاء أو الرباط، أما الفرنسية فعليه تسجيل الأولاد بالمدارس الخاصة أو مدارس البعثات الفرنسية، بالنسبة لمن له ثلاث أولاد لن تقل فاتورة التمدرس عن 6000 درهم شهريا، و لا تصدقوا ما قاله وزير التربية السابق، بأن الأساتذة راكموا أموالا كثيرة خلال عملهم بأوربا و أن عليهم إنفاقها في تعليم أولادهم، هذا كلام غير مسؤول: ils veulent le beurre et l'argent du beurre رابعا: حلول و مقترحات الإنسان يناضل من أجل وطنه أو من أجل أولاده، و الحكومة المغربية وضعتنا أمام خيارين صعبين: وطن، بل، حكومة تقشف تضحي بأسر بأكملها من أجل حفنة من الأوروات، ربما لن توفرها إن قامت بعملية حسابية ذكية، لا تعتمد فيها على الحاسبة الرقمية، و أمام أولاد، نرى مستقبلهم الدراسي يتبخر، و ثقتهم في بلدهم تتزعزع، فهؤلاء الأولاد فخورون بآبائهم و أمهاتهم، الذين جاؤوا إلى هذه الديار لحفظ الاتصال و التواصل بين بلجيكيين، من أصول مغربية، و وطنهم الأم، إلى درجة أن هؤلاء الأساتذة توفقوا في جعل التلاميذ يعتبرون أنفسهم مغاربة رغم أن بعضهم لم يسبق له زيارة المغرب، بل و يتوترون إن أساء أحد إلى بلدهم الأصلي ويعتبرون أنفسهم في المغرب بمجرد ولوجهم قاعة الدرس... حفاظا على مستقبل هذه الأسر، نلتمس من أصحاب القرارات التراجع عن انهاء مهامنا، و الاكتفاء بالتعويض التدريجي الطبيعي للأساتذة، خصوصا أن عددا منا لا يفصله عن التقاعد سوى بضع سنوات، و تحفيز الراغبين في العودة باصدار مذكرة تعطيهم امتيازات خاصة، جزاء على تفانيهم في العمل بأوربا، كالتكليف بالتفتيش التربوي، الادارة التربوية، تغيير الاطار إلى أستاذ للثانوي، ... أو منح تعويض محترم (المغادرة الطوعية)... يمكن أيضا خلق جسر للحوار و التفاوض مع ممثلين عن هؤلاء الأساتذة للتوصل إلى حل يحفظ كرامة هؤلاء الأساتذة و أسرهم و يحقق برنامج الحكومة في إصلاح تعليم اللغة العربية و الثقافة المغربية، فهؤلاء الأساتذة راكموا من التجارب ما يكفي ليساهموا في الاصلاح، فهم في الميدان و كما يقال: أهل مكة أدرى بشعابها. أتمنى أن تلقى هذه المطالب آذانا صاغية لتفادي آفات اجتماعية و بعض الاحتجاجات الصاخبة القادمة في مستقبل الأيام... والسلام *أستاذ اللغة العربية و الثقافة المغربية في بلجيكا [email protected]