شهدت العلاقات المغربية الموريتاني تذبذبا كبيرا على مدار العقود الماضية، وتأرجحت تلك العلاقة بشكل أو بآخر، منذ عهدة الرئيس الموريتاني المختار ولد داداه، وصولا لمرحلة محمد ولد عبد العزيز الحالية التي لازالت تبصم فيها موريتانيا على مواقف متباينة من ملف الصحراء، وشككت في ترابط بين الجانبين المغربي وموريتانيا. ففي خضم هذا التذبذب السياسي الذي يعود سببه لملف الصحراء، ظهر جليا الإرتباط الوثيق بين المغرب وموريتانيا على مستويات عدة، حيث أبرز الشعبان الجانب الإيجابي في علاقات بلديهما منذ عهد الإستعمار الإسباني للصحراء، ولا أدل على ذلك سوى اختيار عائلات موريتانية كبيرة الإستقرار في الصحراء وإحصائها من لدن الإستعمار الإسباني تحت مسمى قبائل الجنوب، وهو المسمى الذي ضم قبيلة تجكانت وكنتة وتركز، ثم أيديغب وأولاد عمني، قصد المشاركة في في تقرير المصير آنذاك. هذا التداخل الإنسيابي في المجتمع الصحراوي الجنوبي، الذي يعود للتقارب الواضح بين العنصرين، خاصة فيما تعلق باللهجة والعادات والتقاليد، أثرى المشهد بشكل جلي لتنبثق كتلة جديدة بالمنطقة، رعت في فيافي الصحراء، وقارعت كؤوس الشاي مع الصحراويين، ثم انخرطت إبان وبعد حرب الصحراء والمسيرة الخضراء في العمل السياسي كحالة الديا ولد سيدي بابا الذي تقلد رئاسة مجلس النواب في الفترة مابين 1977 و1983 بلون التجمع الوطني للأحرار، وغيرها من الأسماء التي قدمت ولازالت خدمات جليلة للمملكة المغربية ووحدتها الترابية، وفسحت المجال لشخصيات أخرى أضحت اليوم تتقلد مناصب هامة بمجالس جهات المملكة الجنوبية، استنادا للخزان الإنتخابي الذي توفره خاصة بالعيون. وعلى النقيض من ذلك اختارت أسماء أخرى مسقط رأسها العيون طريقا آخر يحاكي طريق حركة "الكادحين" بمنطقة الزويرات في موريتانيا سبعينيات القرن الماضي، عندما انضموا لجبهة البوليساريو إبان حرب الصحراء، قبل أن يجتثهم المسؤول الأمني الأول للبوليساريو عمر الحضرامي "العظمي" آنذاك من خلال تجسيد حركة وصفت بالتصحيحية سميت بحركة "المندسين"، استهدفت المتهمين بالعمالة للمغرب والخيانة العظمى. "كود" سلطت الاضواء الكاشفة على هذه الفئة القليلة التي تربت في حضانة بوليساريو الداخل، وحاولت وفقا لجهد جهيد استقصاء وجهة نظر أحدهم حول الملف والغرض من موالاتهم للجبهة، وبدايته وتسلق بعضه المراتب ووصول بعضهم لمرحلة فاعلين "حقوقيين" و"إعلاميين" على أرض الواقع. تأبطت "كود" المعاناة في بحثها عن من سيتحدث على الرغم من تعدد الخيارت، وجعلت المستحيل ممكنا بشروط اشترطها المتحدثون، والذين أحاطوا الموضوع بسرية تامة، واختاروا التواري والإنزواء بعيدا للحديث عن الملف، مع التشديد على عدم ذكر الإسم أو الصفة أو إدراج أي تلميح عنهم استنادا لحساسيته ومدى تأثيره على حياتهم اليومية وحتى العملية رفقة من يسمون "النشطاء" أي بوليساريو الداخل، خصوصا وأن المرحلة مهمة حسبهم، وتتزامن مع قدوم نواب برلمانيين أوروبيين للعيون للقاء مجموعة من "الحقوقيين" والإطلاع على الوضع الحقوقي بالعيون. يتحدث من انتقى لنفسه لقب "ولد الوالد" وهو اسم شاعر موريتاني شهير، عن بداياته مشيرا أن مسقط رأسه في جهة كلميم وادنون، وانتقل بعد ذلك لمدينة العيون في التسعينيات، أين تلقى ما أسماه "مبادئ النضال" بطريقة غير مباشرة بحكم اندماجه السريع مع أطفال العيون وشبابها، مضيفا أن الوضع إبان تلك الفترة كان ضاجا ب"الكراهية" والتفرقة بين مكونات المجتمع، مستشهدا بلقب كان يطلقونه آنذاك على المنحدرين من مدن الشمال والذي يوحي بكثير من الدونية والإحتقار في تلك الفترة، وهي أولى الإشارات لحالة الرفض للمملكة المغربية في المنطقة. ذلك اللقب كان أولى الشرارات لكره المغاربة القادمين من الشمال في المنطقة، فقد كنا نستعمله بشكل يومي، في المنزل والحي، والمدرسة، وبشكل علني، فيكفي أن تصيح قرب الإعدادية أو في الشارع باللقب، لتطلب العون من رفاقك الذين لن يبخلوا عليك به غي حالة مواجهة أي إشكال مع أحد أبناء الشمال، رفاقي تولدت لديهم كراهية دون سبب، كراهية تلقفتها دون أدنى إلمام بالمصطلح للمتداول على نطاق واسع آنذاك، بيد أني لم أعد أستعمله اليوم إلا في مواجهة المصالح الأمنية فقط، والذين يعتدون علينا أثناء تجسيد أشكال احتجاجية، يتحدث "ولد الوالد" بنبرة تعلوها ابتسامة فيها طعم الحسرة تارة و بعض من ثبات للتمويه تارة أخرى. تسأله "كود" عن أول ظهور سياسي له في المنطقة، أو بالأحرى أولى خطواته في مساره رفقة جبهة البوليساريو، ليجيب دون تردد، أتذكر أحداث سنة 1999، ويخيل إلي ما وقع آنذاك، بيد أني لم أشارك فعليا، ولكني لن أنسى سنة 2005، عندما شاركت بشكل فعلي آنذاك في "الإحتجاجات" و انخرطت فعلا في الإصطدامات الأمنية دون أن منتميا لأي جهة معينة، فقد أخذتني الحمية فقط، حمية الجوار؛ حمية الأصدقاء؛ وتطورت الآن لتصبح حمية انتماء؛ انتماء للصحراء روحا وجسدا؛ تقاطعه "كود" بسؤال حول ماهية هذا الإنتماء فالإنتماء مضبوط وفق عدة معايير في الصحراء، أولها القبيلة وأنت موريتاني، ليرد بالقصاصة المعروفة غير المقنعة. لقد ولدت في الصحراء. سألناه عن تصوره حول الموريتانيين اللذين امتطوا صهوة البوليساريو واختاروا الإنفصال، مجيبا هناك موريتانيون كثر سلكوا ذات الدرب حتى أنهم تقلدوا مناصب كبرى في جبهة البوليساريو كخطري الدوه المنحدر من قبيلة "تنواجيو"، عضو الوفد المفاوض للبوليساريو ورئيس مجلسها الوطني الحالي، وزعيم جبهة البوليساريو لفترة معينة خلفا لمحمد عبد العزيز بعد وفاته، وهناك آخرون كثر في العيون خاصة، ينشطون يوميا في مجالات عدة، ووصل بهم الحد لاكتساب صفة "معتقل سياسي" بعد قضائهم لمحكوميات سجنية نتيجة لما أسماه بأنشطتهم السياسية الموالية لجبهة البوليساريو، والطريق معبد لآخرين ينضوون اليوم تحت لواء جمعيات "حقوقية" مغربية واخرى موالية للبوليساريو تنشط في المنطقة، وهم معروفون على رؤوس الأشهاد دون الحاجة لذكرهم، يستطرد "ولد الوالد". المتحدث يقول أنه تلقن أبجديات البوليساريو في العيون، فكيف ستستقبله وتحتضنه، وهم أكثر من يعلم بأصولك وجذورك وانعدام علاقته بالملف، بل وكيف كانت ردة فعلهم ؟ يجيب المتحدث في نقاش طويل يحاول من خلاله التأكيد على تفضيله البوليساريو استنادا لتربيته وما تلقفه من ابناء الحي والأصدقاء. يعلمون أني موريتاني، بيد أني صحراوي المولد والمنشأ والخلفية، ومسألة انضمامي لهم كانت شائكة، واحتاجت لمبادرة مني لإثبات وجودي، فبداية الإنضمام حملت عديد العوائق ولازالت إلى يومنا هذا، عندما يلقبونني ب"الميريتاني" -تصغير للموريتاني-، لكنها فئة قليلة لازالت تحتفظ لنفسها بكراهية آثار حرب موريتانيا والبوليساريو، وتعتمد الترصد لتعقب الزلات أينما كانت، وهو أمر شائع خصوصا فمجموعات الواتس آب التي تضم موالي البوليساريو، و يتداول فيها مجموعة من التلميحات في هذا الصدد، خاصة عند اقتراب تنظيم رحلات الجامعات الصيفية للجزائر أو خارج المغرب، فالكل هنا يتسابق نحوها لتعزيز سيرته الذاتية التي تضمن تسلق المراتب والأمر والنهي في مجموعات التواصل الإجتماعي، وتقوية العلاقة مع مسؤولي الجبهة خاصة في إسبانيا، وذلكم يضمن عديد الإمتيازات. يعي القريبون من ملف الصحراء خاصة في العيون، صعوبة الإقتراب من جسد البوليساريو، بالنظر للتعقيدات والمعايير التي يطبقونها، والتي تستوجب تقديم "دفعة'" من احدهم لولوج الميدان، ومصاحبة أحد الرؤوس الكبيرة لفسح المجال لاي شخص فما بالك ب"ميريتاني" ساقته الأقدار والطمع في حياة رغيدة في بعض الأحيان، على غرار كثيرين يحتفظون بمواقفهم لأنفسهن، فمنهم جنود بالقوات المسلحة الملكية، ومن ضمنهم تجار "حرروا" شارع اسكيكيمة في العيون، وآخرون وظفوا في الإدارات العمومية دون اي مشكل، ينتظرون شهر يوليوز و غشت لزيارة ذويهم في الزويرات وانواذيبو وانواكشوط وغيرها من مدن الشقيقة الجنوبية. يرون في مواقفهم "زايد ناقص" غير مجبرين على إعلانها، إلا في حالة التأسيس على وجوب إظهار الولاء، انطلاقا من مبدأ الإرتياح لمحاورهم، حيث كان غالبا ما يكون لموريتانيا، هي أرض الآباء والاجداد وفقهم، عكس "ناشطنا" المنتمي بالإسم والصفة لجبهة البوليساريو. لقد قدمت المملكة المغربية عديد الإمتيازات لهؤلاء وعاملتهم كأبنائها واستقبلتهم كعائدين محسوبين على الجبهة من مخيمات تندوف، ومنحتهم جنسية يحملونها ويعبرون بجوازها حدود بلدهم الأصلي، هنا السؤال الذي يتبادر على الذهن، لماذا يكن هؤلاء كرها للمغرب بمواقفهم الإنفصالية من ملف الصحراء،؟ "ولد الوالد"، يتحدث بكلام غير مقنع، ويعود بنا للمربع الأول مربع الإنتماء ومسقط الرأس وغيره؛ مبررات واهية يرام منها ذر الرماد على العيون، فقد وجد أب "ولد الوالد" وذويه في المملكة حاضنة مالية، ووفرت لهم موردا ماليا، بل ومسكنا، وامتيازات معيشية اليوم، الشيء الذي ذكرناه به غيرما مرة خلال نقاش حاول الهروب فيه الأمام، مع تسجيل غياب مجموعة من الوقائع والأحداث التاريخية عنه، وعدم إلمامه بحيثيات ملف الصحراء، وحتى الجانب الحقوقي وآليات اشتغال البوليساريو فيه، إلا من فتات أفكار أظهرت حجم محدودية معلوماته المستقاة بطريقة الحفظ دون إقناع. حالة "ولد الوالد" ليست الوحيدة في العيون او الصحراء، وليست حصرا على فئة الذكور فقط، بل الإناث أيضا على غرار إحداهن في السمارة، ولن تكون الأخيرة لقوم قطعوا دابر اليد الممدودة لهم، وفضلوا الإنسياق وراء حلم انفصال لن يجنوا منه أكثر مما جنوه بعد مقتل الأب الروحي للبوليساريو "الولي مصطفى السيد" على أعتاب انواكشوط.