سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
بلطجة في عرين الحصانة. السبب الحقيقي لغضب الصيادلة ليس هو حل مجلسي الشمال والجنوب وإنما قرار الحكومة خفض أسعار نحو ألف دواء بنسبة تصل أحيانا إلى 70 في المائة
أن يعتدي صيادلة في واضحة النهار وأمام نواب الأمة على وزير الصحة الحسين الوردي, فهذا معناه أن البلطجة وصلت مستويات غير مسبوقة. خصوصا حين تأتي ممن يفترض أنهم يمثلون النخبة في المجتمع, ودرسوا سنوات في الأسلاك العلمية التي ترجح الفكر على التسيب والمنطق على العشوائية والإقناع سلوكا لتدبير أكثر الاختلافات تعقيدا. لكن يبدو أن شفرة الوزير القادم بدوره من أسلاك الطب استعصت على هؤلاء الصيادلة, فانتصرت غريزتهم على عقولهم. لذلك استعاضوا عن الحوار بالمباغتة اللفظية وإطلاق سيل من النعوت الجارحة وصلت حد التهديد الذي جعل النيابة العامة تدخل على الخط وتحيل الجميع على القضاء. وحين نعود لما كان الوزير بصدده داخل مجلس النواب قبل الاعتداء عليه, سنجد أنه كان يقدم مشروع قانون يقضي بحل المجلسين الجهويين لصيادلة الشمال والجنوب الذي يمثله الصيادلة المعتدون. لذلك فبمجرد مغادرته القاعة, انهال عليه هؤلاء بالسب والشتم, ولولا تدخل أفراد الأمن العاملين في البرلمان, لكان حدث الأسوأ. والواقع أن السبب الحقيقي لغضب الصيادلة ليس هو حل مجلسي الشمال والجنوب, وإنما قرار الحكومة خفض أسعار نحو ألف دواء بنسبة تصل أحيانا إلى 70 في المائة. وهذه النسبة أفقدت بعض الصيادلة صوابهم, وجعلتهم يضربون أخماسا في أسداس. خصوصا أن الأدوية المعنية بالتخفيض تعتبر الأكثر استهلاكا بين المواطنين, وإذا علمنا أن القائمة تضم أدوية خاصة بارتفاع ضغط الدم التي يحتاجها ثلث المغاربة, والسكري الذي يعاني منه 3 ملايين مغربي, بالإضافة إلى المضادات الحيوية والمسكنات, سنفهم لماذا جن جنون بعض الصيادلة ومصنعي الدواء. فالأرباح التي ظل يجنيها هؤلاء على مدى عقود تحولت لمقدس, بحيث أصبحت أي مراجعة لها بمثابة المحظور. أما حسابات المواطنين فتأتي بالنسبة لهم في أسفل الترتيب. والمشكل في الاعتداء الذي سيسجل ضمن سوابق التاريخ السياسي المعاصر, أنه حدث داخل عرين الحصانة التي وفرها المشرع للبرلمانيين ليصونهم من أي شطط قد تلجأ إليه الحكومة انتقاما من دورهم الرقابي, فإذا بالوزراء يصبحون عرضة لما هو أكثر من الشطط ومن أطراف دخيلة على المؤسسة التشريعية التي لم يكن أحد يتصور أنها قد تتحول يوما إلى مكان غير آمن, وهي التي تشرع لكافة قوانين البلد. وإذا كان التحقيق أخذ مجراه في مسألة الهجوم على الوزير الوردي, فلابد أن يتسع نطاقه لمعرفة جميع أوجه القصور التي سمحت بدخول الصيادلة المعتدين للبرلمان, مما جعلهم يقفون وجها لوجه أمام الوزير. مع أن تتحمل الجهة التي سهلت دخولهم مسؤوليتها السياسية فيما حدث. اعتداء البرلمان يجب التعاطي معه بحزم, وإلا فإن لوبيات الضغط والمصالح ستشرع قوانين خاصة بها, وستستخدم شرع يديها لانتزاع مكاسب فردية على حساب مصالح الجماعة وهم كل المغاربة. وإذا كان الصيادلة سيعتدون على وزير لمجرد أنه يسعى لإصلاح قطاع الصيدلة, فماذا تركوا لغير المتعلمين؟ الأكيد أن مشروع الوزير سيجد طريقه سالكة الآن, وحتى لو كان هناك معترضون, فإن سلوك المعتدين سيجعلهم يعيدون النظر في مواقفهم. لأن العنف لم يكن يوما سلاح الأقوياء. يحدث هذا مع الأسف, في وقت منح فيه الدستور الجديد المواطنين وجمعيات المجتمع المدني الحق في تقديم العرائض للحكومة. بل إن الفصل 14 من الدستور يقول بالحرف «للمواطنات والمواطنين ضمن شروط وكيفيات يحددها قانون تنظيمي, الحق في تقديم ملتمسات في مجال التشريع», يضيف إليها الفصل 15 أنه « للمواطنات والمواطنين الحق في تقديم عرائض إلى السلطات العمومية».وإذا كان الدستور ربط حق تقديم العرائض بقانون تنظيمي يحدده الفصل 15 في فقرته الثانية, إلا أن هذه هي المرة الأولى يتم التنصيص دستوريا على حق الشعب في ديموقراطية يكون مشاركا فيها. لكن عوض التقدم بالعرائض, فضل الصيادلة المعتدون استعراض عضلاتهم على زميل لهم قبل أن يكون وزيرا. ولو كان من شيء يخجل في هذه القضية, فهو انتفاء مجرد التضامن بين أبناء المهنة الواحدة. ومن يدري, فلعل تخصص الوردي في التخدير والإنعاش وطب المستعجلات لم يسعف خصومه في تخدير أفكاره. فاعتقدوا خطئا أن العنف قد يكون مثل الكي آخر الدواء.