سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مدينة تاونات: الطريق أولاً. هنا بالمغرب العميق لا يهتم أحد بالتعديل الحكومي، ولا بالمنتخب المغربي ولا باحتجاجات ولا بمعدلات النمو، ولا بزيادة معدلات التضخم، فهنا مغرب بسرعة أخرى، وبطموحات أخرى، فهنا مغرب مقاومة كل شيء
بعد أن يغادر المسافر مدينة فاس، في اتجاه مدينة تاونات، عبر طريق الوحدة، تبدأ مغامرة سياقة السيارة عبر طريق لا تصلح بتاتا من الناحية التقنية لتمر عليها يوميا آلاف السيارات، لأنها في حالة لا يصلح للتعليق عليها، إلا عبارة "يُرثى لها"، بسبب تأثرها بعامل التقادم، والتساقات المطرية القوية، خلال فصل شتاء طويل، يمتد إلى 6 أشهر. فمن المنعرجات الحادة بين منحنيات مقدمة سلسلة جبال الريف، والتكسرات التي لم تتم عملية إصلاحها، وآثار مرور عجلات الشاحنات، ما يجعل الطريق غير صالحة لتسير عليها لا السيارات ولا الشاحنات ولا الحافلات ولا الجرارات ولا الدراجات النارية، أما الهوائية من الدراجات فلا وجود لها، لأنها تعني لسكان المنطقة الموت.
فما يزيد من مخاطر الطريق ما بين مدينتي فاس وتاونات "جنون سائقي" سيارات الأجرة، و"تهور غير محسوب" لسائقي الحافلات، و"مغامرات الذهاب والإياب" لسائقي سيارات نقل البضائع، المنتشرة في المنطقة من فئة "مرسيدس -207"، والتي لا تتوفر على أي ترخيص لنقل السلع ولا البشر، بالرغم من الخدمات الاجتماعية والاقتصادية والتطبيبية التي تقدمها هذه النوعية من السيارات.
ولا يخفف قليلا من صعوبات الطريق، إلا جمال الطبيعة، ومدرجات الزيتون، والمنازل التي تطل من الجبال، بلونها الطيني الفاتح، والوديان التي تخترق المنطقة، بينما السياقة هنا فهي مغامرة حقيقية تزداد خطورة خلال الليل، خاصة إذا لم ينتبه السائق لما قد تحمله هذه الطريق من مفاجآت، من الممكن جدا أن تكون غير محمودة العواقب.
ففي المغرب، لا تزال مناطق تعاني من العزلة الكاملة بسبب الطريق، ومن بين هذه المدن الجميلة الصغيرة والهادئة، واسمها تاونات، فهي الشامخة في موقعها على جبال الريف، ومطلة من الأعالي، فالطريق ما بين فاس وتاونات تحتاج لتدخل عاجل جدا، أما الطرق التي تربط ما بين تاونات ومنطقة إساكن أو تارجسيت مثلا لا حصراً، فتلك كارثة أعظم قد لا يعود السالك عبر سارته منها، فأول خطوات المصالحة مع هذه المناطق أقدمت عليها الدولة منذ وصول الملك محمد السادس للعرش، نهاية تسعينيات القرن الماضي، إلا أن الطريق لا تزال مطلبا دون استجابة.
والطريق لا تزال في المغرب مطلبا ملحا للسكان لفك العزلة، ولوصول التنمية، وللمساعدة على الارتباط بالعالم الخارجي، فما بين مدينتي تاونات وشفشفاون، طريق للموت، سلكتها بدافع مهني في يوم ممطر وما صعب العبور نزول الضباب، كما أن الطريق ما بين تاونات ومنطقة بوعادل، تسحرك بطبيعتها البكر، وتنسى محن صعود الجبال عبر المنعرجات لما تصل إلى منابع مياه تخرج من بين الصخور، لتشرب منه عذبا زلالا.
فساعات طويلة من السفر في إقليم تاونات، بين طرق أو بالأحرى ما تبقى من طرق، طيلة 5 أيام، ساعدتني على لقاء مغاربة، يقاومون شتاء باردا وطويلا، وثلوجا تسبب العزلة، وتبادلت أحاديث طويلة مع سكان مغاربة يعانون في الحصول على وسيلة نقل للوصول للسوق الأسبوعي، إما لبيع ما توفر لهم من منتجات فلاحية، أو لشراء ما يحتاجونه للحياة اليومية.
وفاجأتني الابتسامات العريضة التي لا تزال ترتسم على الوجوه، كعلامة بارزة، أنام عبوس وجوه سكاني المدن، بالرغم من قسوة كل الظروف التي يعيشون وسطها كسكان للجبال من الأعالي، ولا يتردد السكان هنا في منطقة "جبالا" وفق التعبير المتداول، في توفير سبل الدفىء في كرم الضيافة، ولو من يسير ما يتوفرون عليه من مجلس ومأكل ومشرب، يدفعونك بإلحاح لتتناول معهم وجبتهم، ويعبرون عن سعادة بالاستقبال، ويعتذرون لأنهم كانوا مقصرين في الضيافة.
ففي ما يسمى بالمغرب العميق، صدقوني لا يهتم أحد بالتعديل الحكومي، ولا بانكسارات المنتخب المغربي لكرة القدم، ولا بما يعتمل من احتجاجات اجتماعية هنا وهنالك، ولا بمعدلات النمو، ولا بزيادة معدلات التضخم، فهنا مغرب بسرعة أخرى، وبطموحات أخرى، فهنا مغرب مقاومة كل شيء، للبقاء في مواجهة الظروف الطبيعية القاسية، وفي مواجهة العزلة، وفي انتظار مشاريع للتنمية الحقيقية، تبدأ من الطريق أولا كما يردد السكان.
ففي تاونات بكل قراها الجبلية، بكل سكانها، فالانتظار لا يقتلهم ولا يشعر أحدا بالملل، بل يواجهون الانتظار بصدر عار من كل حقد، وبإرادة من صلابة صخور جبال الريف، فلا حديث هنا عن معارضة حزب الاستقلال، وخطابات أمينه العام حميد شباط، ولا عن تماسيح ولا عن عفاريت عبد الإله بن كيران، رئيس الحكومة، ولا عن قراءات حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية اليساري المعارض، ولا عن جلجلات أمينه العام إدريس لشكر، بل إن كثيرين لا يهتمون لا بالبرلمان، لما تقول لهم أليس لكم برلمانيين ينقلون شكواكم.
فهنا بين قمم جبال الريف في تاونات، نساء أكثر من الرجال، يزرعون الأمل وبذور الحياة، ويصممون كل يوم أكثر من الذي سبقه، على الحفاظ على كل شيء، وعلى المضي صوب المستقبل دون حاجة لا للحكومة ولا لأحد آخر، لأن الإرادة هنا برنامج للحياة، بنزينه اليومي هو الاستمرارية، وكازواله الصمود فقط.
ومن بين المفاجأة على طرق الموت بين الجبال، أن تجد طفلا بعضلات لم تكتمل في يوم مشمس، طفل قد يكون أضل طريقه صوب المدرسة، ليتحول لعامل بمعول يدوي، في قرية اسمها الكيسان، على ضفاف بحيرة عملاقة لسد الوحدة، يحاول ما استطاع أن يرمم ولو قليلا، من كارثية الطريق الرابطة ما بين مدينة تاونات ومدينة شفشاون، مرورا عبر قبيلة بني زروال، يبتسم العامل ويشكر لما يسلم له سائقنا قنينة ماء، ليروي بها ظمأ العامل الصغير، ولما رجعنا عشية كان لا يزال يرتب تراب الطريق، هذه المرة جمعنا له ما تيسر في جيوبنا من دراهم، فابتسم مرة أخرى.