يتذكر المواطنون تلك اللقطات المعبرة التي رافقت زيارة الملك محمد السادس إلى مدينة وجدة سنة 2009 حين غرقت رجلاه في الوحل، ورفض أن يعدل زيارته، فقام بتدشين مشاريع اجتماعية تحت الأمطار، ووسط الأوحال في صورة صدمت العالم أجمع، وعبرت عن شخصية الملك محمد السادس، الذي كان يتجول في كل مدن المملكة قاطعا الكيلومترات للتعرف على ذلك المغرب النائي، وهو ما جعله يزور قرية أنفكو بضواحي إقليمخنيفرة، وهو يقود سيارته دون حرس، لأنه كان يريد أن يكتشف عالما يجهله السياسيون، لدرجة أن كل زيارات الملك التي تقوده إلى تلك المناطق النائية والبعيدة عن العاصمة الرباط، كانت تمثل درسا بليغا للسياسيين الذين لا يخرجون من مكاتبهم المكيفة إلا في اتجاه المصايف، وبعدما كانت هذه المناطق النائية خارج التاريخ والجغرافيا عادت إلى الحياة المتمدنة بفضل منجزات القرب التي أشرف عليها الملك وتابعها عن قرب، لقد كانت تلك المناطق عبارة عن سجن مفتوح بلا روح قبل أن تتحرك مؤسسة محمد الخامس للتضامن وبفضل المبادرات الملكية، حيث تم إنجاز كثير من المشاريع الرامية إلى فك العزلة وخاصة المسالك الطرقية، إضافة إلى تدخلات فرق القوات المسلحة الملكية التي عملت على توفير طواقم طبية متحركة لإنقاذ السكان خاصة في فصل الشتاء. في ركاب التنمية تحمل تنقلات الملك محمد السادس دائما في ركابها الخير والمشاريع، من خلال برامج تسعى إلى رفع التهميش عن منطقة أنفكو وباقي المناطق المعزولة، والتي عانت لسنوات وسنوات من التهميش ومن إدارة الظهر من طرف الحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن العام، وكان لابد لجلالة الملك أن ينتقل إلى مثل هذه المناطق لكي يقوم المسؤولون المركزيون والمحليون بواجبهم تجاه من ائتمنوا على تدبير شؤونهم. فوزارات التجهيز والصحة والتعليم لا تتحرك إلا لماما وحين تتحرك يكون ذلك مرفوقا بهالة إعلامية كبيرة لتوثيق تحركاتهم، فالملك وخلال كل تحركاته كان يزور المنكوبين في عز أزمتهم وينصت إلى مأساتهم وإلى الطريقة التي يفقدون بها أطفالهم الرضع، في غياب المسؤولين الذين لا يستطيعون توفير حتى الماء والكهرباء والدواء لرفع التهميش عن المنطقة. غالبا ما تثلج هذه المشاريع الملكية صدور الجميع، التي تعيد الابتسامة إلى ساكنة هذه المناطق، مما ساعد دون شك على نهاية عقود من العزلة والتهميش التي عاشت في ظلها المنطقة. وبالتالي، فإنه لا يسع المرء إلا أن يعبر عن عظيم امتنانه للملك الذي ما فتئ ينحت يوما بعد آخر مساحات حياة جديدة في قلوب الشعب المغربي. المغرب الآخر أو غير النافع لازالت صورة الملك محمد السادس حينما غرق حذاؤه في الوحل أثناء زيارته لمنطقة عين تاوجطات بنواحي فاس، ماثلة، صورة أكدت إلى أي حد أهملت هذه المناطق، وغابت عن خارجة التنمية، لتتحول إلى مجرد اسم يتم تذكره كلما حلت الانتخابات، عين تازجطات وكغيرها من تلك المدن التي لا يعرفها السياسيون تضررت بعد موجة الأمطار الغزيرة التي همت مناطق مختلفة في المغرب سنة 2009، لكن هذه المناطق كشفت في المقابل الوجه الآخر لملك الفقراء الذي رفع مع بداية حكمه شعار "تازة قبل غزة". صورة الملك محمد السادس القريبة من الشعب شكلت درسا عميقا لكل المسؤولين الذي يعتصمون بمكاتبهم بعيدا عن الواقع الحقيقي لكثير من المغاربة، ولا يتذكرون وجود مغرب آخر إلا خلال مناسبة الانتخابات. كثيرة هي المناطق المنكوبة، التي تعيش على إيقاع الرتابة والروتين، وهو الأمر الذي جعل الملك ينزل بكل ثقله لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، مناطق أهملها المسؤولون لسنوات طويلة لتتحول إلى شاهد على حياة البؤس التي فرضت قسرا على هؤلاء المواطنين، الذين لا يعرفون معنى العيش في شروط إنسانية لائقة. عزلة مفروضة مع حلول فصل الشتاء وتساقط الثلوج تزداد مخاوف سكان المناطق الباردة في المغرب من مواجهة موجة البرد القارس المصحوبة بحصار الثلوج في غياب أبسط شروط الحياة، وحسب إحدى الدراسات الميدانية فإن 935 قرية عبر 19 ولاية بمجموع 376 ألف نسمة هي الأكثر تعرضا لعزلة تامة لفترات طويلة بسبب الثلوج، كما جرى تصنيف 400 قرية بالمغرب ضمن الأماكن الأكثر عرضة للخطر، فقساوة حصار الطبيعة في فصل الشتاء مازال جاثما على سكان أقاليم إفران وتاونات وخنيفرة وأزيلال وتارودانت وميدلت والحاجب وبولمان وصفرو والراشيدية والحسيمة والشاون والحوز، في ظل العجز الحكومي الواضح عن إنجاز مخطط ناجح كفيل بفك العزلة عن هذه المناطق وتشجيع السياحة الجبلية. جبال الموت قبل أربع سنوات خرحت صرخة مدوية من وراء أعالي جبال منطقة أنفكو بضواحي خنيفرة، خرجت استغاثات آباء وأمهات ينتمون إلى قرية لم تكن معروفة من قبل لأكثر المغاربة، أطلق المتضررون بأنفكو العنان لحناجرهم طالبين النجدة بعدما وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام الموت، يصارعون من أجل البقاء على قيد الحياة تماما كما يحدث لأولئك المغامرين الذين تحاصرهم الثلوج بالقطب الشمالي، تصاعد صراخ الأهلي مستنجدين، بعدما فتك المكوت بأجساد أطفالهم الصغار الذين قتلهم الجوع والبرد، وقتلهم الإهمال صرخ الآباء من أجل إنقاذ أطفالها الرضع من شبح اسمه الموت، اجتاح القرية الهادئة في موسم البرد والثلج. صرخات لم تلقى في تلك الفترة من يستمع لها، فالقرية بعيدة عن مركز الأضواء وليس هناك من يملك شجاعة تغيير الوضع، في قرية أنفكوا البعيدة عن الحضارة بعشرات السنين حصد الموت أربعين طفلا، فكان لابد من تدخل الملك الذي زار المنطقة واطلع على أحوالها، حيث تم وضع وحدة طبية متنقلة تابعة للقوات المسلحة الملكية، وهي الزيارة التي مكنت سكان المنطقة من مواجهة الظروف الطبيعية القاسية، وليست أنفكو وحدها من تعاني صراع الموت مع حلول فصل الشتاء الطويل، بل إن كل المناطق النائية خاصة المتواجدة في أعالي الجبال تعيش نفس الوضع، لتدخل في سبات عميق لا تنهض منه إلا للبحث عما تأكله. اليوم خمر وغدا أمر مآسي سكان هذه المناطق لا تنتهي، فهناك الجوع والبرد والأمراض والجهل والأمية، وهناك النمو الديموغرافي، فالمنطقة ليس بها أي نشاط من أي نوع، لذلك لا مكان هنا للعمل لتتفرغ الأهالي لمهمة أعظم وأجَل وهي التناسل، لكن ذلك لا يمر دون ثمن، والثمن هو أرواح النساء والأطفال التي تزهق يوميا في غياب أدنى شروط السلامة. في فصل الشتاء القارس تطل هذه المناطق برأسها من خلف الستار، وتطلق صرخاتها المدوية، تبحث عمن ينقذ أبناءها من الموت المحقق، وبعد انحسار موجة الصقيع تضطر مرة أخرى إلى دخول دائرة النسيان بعد أن تتيسر ظروف الحياة وتحل المسالك، فيجد أولئك المسؤولون فرصة للتنفس في انتظار الشتاء القادم الذي يجد تلك المناطق على حالها لا تتبدل ولا تتغير، وكأن شيئا لم يكن، ففي المغرب غالبا ما تتكلف الظروف المناخية برفع الحصار عن سكان المناطق المعزولة فيما الحكومات المتعاقبة تفضل الاهتمام أكثر بالمدن الكبرى رافعة شعار القرب. الرعاية الملكية لساكنة هذه المناطق كانت بمثابة الفرج، بعدما أدارت لها الحكومات المتعاقبة ظهرها ولم يكلف أي مسؤول حكومي نفسه عناء زيارة هؤلاء السكان المحسوبين على المغرب، ليأتي الملك محمد السادس للقيام بهذا الأمر، ضاربا لهؤلاء المسؤولين أحسن الأمثلة، خاصة وهو يقضي ليلة كاملة بقرية أنفكو التي لا تتوفر على أية بنى تحتية، مثلها مثل كثير من المناطق التي تعاني معاناة قاسية يكابدها سكان مدن وقرى الأطلس والريف جراء البرد القارس، حيث يقطن المواطنون في بيوت طينية لا تضمن تمتعهم بالخصوصية وشعورهم بالآمان. الحطب أولا تعيش آلاف الأسر في المناطق المرتفعة، حيث يبلغ ارتفاع الثلوج مترين أحيانا ويصبح عبور الطريق إلى السفوح الجبلية مخاطرة غير محسوبة العواقب، وتصبح العديد من القرى في شبه عزلة تامة. إلى جانب قساوة الطقس، يواجه أهالي الجبال مشكلة ارتفاع أسعار حطب التدفئة، حيث يبلغ ثمن الطن الواحد 1000 درهم بينما تحتاج كل أسرة إلى 3 أطنان على الأقل لسد حاجياتها، بل تبقى بعض المناطق محرومة من الحطب، وهو ما يدفع المواطنين إلى الترامي على الغابات القريبة، وتصل الأمور إلى حد حرمان العديد من المؤسسات التعليمية من التدفئة رغم وجود ميزانية خاصة بالتدفئة لدى وزارة التربية الوطنية، وفي كثير من هذه المناطق يعاني الأطفال من البرد القارس ومن تسربات مياه الأمطار داخل فصول الدراسة، مما يؤدي إلى هجرها لأسابيع وربما لشهور بل هناك مدارس لم تفتح أبوابها منذ سنوات. فتساقط الأمطار والثلوج في هذه المناطق كاف لقطع المسالك. وفي هذه المناطق التي تعاني الفقر المذقع يفتقد المواطنون إلى القدرة على اقتناء حطب التدفئة، لتصل كلفة فصل الشتاء في المعدل المتوسط إلى مبلغ 3000 درهم وهو ما يجبر السكان الضعيفي القدرة الشرائية على التدفئة في الفترات المسائية حتى في الأيام الباردة، ليبقى الهاجس الأكبر لدى هؤلاء السكان هو توفير الحطب، حيث يشرعون في الإعداد لموسم الشتاء منذ الصيف عبر ادخار ما يلزم من الحطب قليل الكلفة مقارنة مع فصل الشتاء. ويشتد حجم المعاناة من برودة الطقس في كل هذه المناطق النائية مثل منطقة أنفكو وأوددي بإملشيل، حيث تنقطع الطرقات جراء تساقط الثلوج، هناك لا مجال للاتصال بالسكان إلا عبر مروحيات الدرك الملكي التي تتكفل بتوزيع المساعدات الغذائية، التي يرتفع ثمنها بسبب ارتفاع كلفة النقل. هل يصلح الدهر ما أفسده العطار أمام كل هذه المعاناة القاسية تبرز الحاجة اليوم إلى برنامج تكافلي وطني، وتبرز مسؤولية الحكومة المقبلة كبيرة لمنح هؤلاء المواطنين رقما طبيعيا في ترتيب المواطنة، وستكون مسؤولية حكومة بنكيران جسيمة، وهي التي رفعت شعار التضامن، مع أن الكل يعرف أن بنكيران وإخوانه لا يخرجون من محيط المدن مخافة العدوى، لذلك سيكون عليهم بذل كثير من الجهد لإقناع سكان إملشيل وأنفكو وغيرها من المناطق، بأن المغرب تغير وأن بإمكانهم شراء حطب التدفئة بثمنه الحقيقي بعيدا عن المضاربات، وأن أبناءهم سيدرسون في فصول لا تقطر عليهم في فصل الشتاء، وستشق الطرق والمسالك من أجل مغرب آخر لم يألفه سكان هذه المناطق.عبد المجيد أشرف